تواجه الوساطة الأممية تعثرًا مزمنًا في تسوية الصراعات العربية، خاصة في ليبيا وسوريا واليمن، منذ عام 2011، إذ تعاقب عليها مبعوثون كثر، ومن جنسيات مختلفة، دون اختراق حقيقي يؤدي إلى تسوية سلمية، حتى باتوا أحيانًا جزءًا من تأجيج الصراع أكثر من حله، في ظل تعرضهم لاتهامات بالانحياز، بخلاف عزوف المتنازعين عن مقترحاتهم، ما قد يُحوّل مهام المبعوثين إلى ميسّرين لعقد اجتماعات تفاوضية، أو القيام بجولات مكوكية بين فرقاء الداخل والخارج، أو حتى إفادات شهرية أمام مجلس الأمن.
في حالة ليبيا، وبعد عامين من تعيين الوزير اللبناني السابق “غسان سلامة”، مبعوثًا أمميًّا، بدت هنالك مطالبات من نواب وسياسيين ليبيين خلال شهر يونيو 2019 بعدم تجديد الأمم المتحدة له، معتبرين أنه فَقَدَ حياده واستقلاليته، وهي انتقادات طالت غيره من المبعوثين السابقين، ولأسباب متفاوتة، وفي مراحل مختلفة من دورة الصراع الداخلي المحتدم، مثل: الوزير اللبناني السابق “طارق متري”، والدبلوماسي الإسباني “برناندينو ليون”، والدبلوماسي الألماني “مارتن كوبلر”. بينما كانت تجربة المبعوثين الأولين، وهما: وزير الخارجية الأردني السابق “عبدالإله الخطيب”، والدبلوماسي البريطاني “إيان مارتن”، قصيرة زمنيًّا، فالأول جاء في خضم التدخل العسكري للناتو لإسقاط “القذافي” في عام 2011، بينما الثاني تم تعيينه مع بداية تشكل المرحلة الانتقالية إثر مقتل “القذافي”، حيث لم يكن الصراع قد بلغ من الحدة والامتداد ما هو عليه اليوم.
وبما أن الوسطاء الأمميين يسعون لدرء اتهامات الانحياز، لأنها تهدم شرطًا جوهريًّا لمهتهم في إنهاء القتال وتسوية النزاع، لذا لم يكن لقاء “سلامة” مع المشير “خليفة حفتر” قائد الجيش الوطني، ثم رئيس مجلس النواب “عقيلة صالح” في شهر يونيو الجاري، يستهدف فقط مناقشة سبل الحل السياسي، في ظل استمرار معركة طرابلس، وإنما بدا أيضًا محاولة لتهدئة التوترات المتبادلة بين الطرفين، بعد الانتقادات التي وجهها المبعوث الأممي للعملية التي أطلقها الجيش في الرابع من أبريل الماضي لتحرير طرابلس من الميليشيات وجماعات الإرهاب. فبينما اعتبر “سلامة” في إفادته أمام مجلس الأمن خلال مايو الماضي أن العملية تهدد بالفوضى والانقسام الدائم للبلاد، فقد استدعى ذلك ردًّا من المشير “حفتر” في مقابلة مع صحيفة فرنسية، عندما أكد أنه لن يسمح بذلك، بل اعتبر أن المبعوث الأممي “تغير من وسيط نزيه إلى منحاز”.
وبرغم أن مساعي “سلامة” قد لا تُغيّر من مجرى النزاع الحالي في ظل تمسك الجيش بمواصلة معركة طرابلس، فإن التساؤل المطروح هنا يكون حول مسببات تعثر وساطته ليس هو فقط، وإنما أيضًا من سبقوه كذلك من مبعوثين أمميين، والذين كانوا لا تنقصهم الخبرات الشخصية والدبلوماسية في تسوية النزاعات، فإن ذلك يمثل شرطًا ضروريًّا لتولي مناصبهم، ولكن ليس كافيًا لفعالية وساطاتهم.
ويُجادل هذا التحليل بأن مسببات إخفاق المبعوثين في تسوية الصراعات الداخلية، ومنها ليبيا -موضع التطبيق- يكتنفها عوامل موضوعية أكثر منها ذاتية، منها: طبيعة وخصائص السياق الصراعي المعقد، والمرحلة التي يمر بها، وما إذا كانت تشكل لحظة مواتية أو ناضحة للسلام من عدمه، ناهيك عن مدى ما تملكه المقاربة الأممية ذاتها من حوافز وروادع لتسوية الصراع، والتي قد تصبح مقيدة بفعل استقطابات القوى الكبرى حول الصراع ذاته. وإن كان ذلك لا يعني تجاهل العامل الشخصي المتعلق بقوة الوسيط في إقناع المتنازعين بالتسوية. والأهم، مدى قدرته على أن يكون “حساسًا” تجاههم في تصريحاته ومواقفه.
السياق الصراعي: مأزق هيكلي للوسيط
لا تجري وساطة أي مبعوث أممي في فراغ، وإنما في سياق صراع داخلي معقد له خصائصه، سواء من حيث طبيعة المتنازعين، أو قضاياهم، أو أوزانهم النسبية. وتفرض تلك الخصائص قيودًا، وتطرح فرصًا أمام استراتيجية الوساطة المتوخاة لتسوية الصراع. وبالنظر إلى الصراع الليبي منذ تفجره عقب سقوط نظام “القذافي” في عام 2011، فإنه يُفصح عن سمات عدة.
أولها: أنه صراع ممتد من أعلى إلى أسفل، أي إن نزاعات الفاعلين العسكريين والسياسيين حول قضايا السلطة والثروة تعكس صراعات مناطقية، وقبلية، وهوياتية أولية، بسبب انكشاف بنية الدولة الليبية وانقسام مؤسساتها بعد “القذافي”. على سبيل المثال، فإن الصراع على النفط يعكس في جوهره معضلة تهميش تنموي طالت أقاليم الشرق والجنوب الليبي مقارنةً بالغرب خلال مرحلة حكم “القذافي”. وبالتالي، فأي تسوية للصراع الليبي -حتى لو جرت بين النخب السياسية والعسكرية الراهنة- فإنها تحتاج بموازاة ذلك إلى قبول مجتمعي ومعالجة لأزماته الهيكلية، كي تملك القدرة على الإنفاذ على الأرض.
ثانيها: أنه صراع “متشظٍّ”، أي تنتشر فيه القوة بين فاعلين كثر تتباين صفاتهم ما بين الرسمية وغير الرسمية، إذ إننا إزاء انقسام للسلطة التنفيذية على أسس مناطقية شرقًا وغربًا (الحكومة المؤقتة، حكومة الوفاق)، بخلاف ميليشيات مسلحة ومناطقية استطاع الجيش الوطني الليبي تقليصها شرقًا، لكن لا تزال هذه الميليشيات تهيمن على الوظيفة الأمنية في غرب البلاد، وتمثل الظهير المسلح الداعم لحكومة الوفاق.
وعلى ذلك، تبرز إشكالية أمام الوسيط الأممي تتمثل فيمن يمثل المتنازعين على مائدة التفاوض. وكان “ليون” قد واجهها عند مجيئه للوساطة في ليبيا في عام 2014 بالاعتماد على ممثلين من مجلس النواب، وآخرين من المؤتمر الوطني العام إبان انقسام السلطة التشريعية إلى برلمانين، لكن ذلك خلق بدوره أزمة استبعاد لفاعلين آخرين، مثل الجيش الوطني الليبي الذي كان قد برزت قوته آنذاك في الشرق، بخلاف كيانات مسلحة أخرى في غرب ليبيا. ولعل تهميش قائد الجيش في اتفاق الصخيرات الموقّع إبان المبعوث الأممي “كوبلر” في ديسمبر 2015، كان أحد أسباب تعثره، في سياق ما عُرف بالمادة 8 التي جعلت تعيين المناصب العسكرية القيادية في يد المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، وهو ما ظل الجيش يرفضه.
ثالثها: أن الصراع الليبي هو صراع متحرك من حيث موازينه السياسية والعسكرية، والتي اختلفت على مدار السنوات الثماني الماضية، إذ استطاع الجيش الليبي أن يطور السيطرة الميدانية له من الشرق في 2017 إلى الجنوب وغالبية الثروة النفطية في 2019، في مقابل سيطرة مجموعات ميليشياوية داعمة لحكومة الوفاق في الغرب، وخاصة طرابلس ومصراتة. وأنتج ذلك معضلة أخرى، فبينما كانت حكومة الوفاق تملك شرعية الاعتراف الأممي؛ فإن الجيش الليبي كرس شرعيته العسكرية على أرض الواقع باعتباره المؤسسة الوطنية الساعية للسيطرة على الوظيفة الأمنية للدولة. ومن ثم، بات يصعب على أي وساطة أممية تجاهل الطرفين في أي تسوية ممكنة.
رابعها: أنه صراع يتسم بالأقلمة والتدويل، أي إن الأطراف الإقليمية والدولية لهم تحالفات مع الأطراف الداخلية، ويؤثرون في قراراتهم وسلوكياتهم، وهو ما يعقد التسوية، حيث لا تقتصر على تلبية الاحتياجات المتباينة للمتنازعين الداخليين وإنما أيضًا ينبغي أن تستوعب أهداف ومصالح القوى الخارجية. ولعل ذلك ما يفسر دخول فرنسا وإيطاليا، فضلًا عن قوى إقليمية عربية وإفريقية مجاورة لليبيا على خط مبادرات الوساطة، بجانب الأمم المتحدة.
توقيت الوساطة
ثمة علاقة وطيدة بين طرح المبعوث الأممي لأي تسوية أو أفكار لحل صراع ما، والسياق الزماني الذي تُطرح فيه هذه التسوية، وطبيعة توازنات القوى الذي تدور فيه، أي مدى توافر اللحظة الناضجة ripe moment بحسب “وليم زارتمان” التي يتم فيها حفز المتنازعين من قبل وسطاء أمميين على التفاوض لتسوية الصراع، وتعني أن الصراع بات في وضعية جاهزة للتنازلات المتبادلة، لكون أطراف النزاع وصلوا إلى قناعة بأن استمراره لم يعد مجديًا بحسابات التكلفة والعائد. وقد تتحقق هذه القناعة إما بحدوث حالة جمود أو تعادل ميداني (لا منتصر ولا مهزوم)، أو سيادة حالة من الإنهاك العسكري للأطراف المتنازعة، بمعنى أن لجوء الأطراف إلى السلاح لم يعد محقِّقًا لحاجاتهم ومصالحهم فقط، وإنما يطرح كلفة اجتماعية واقتصادية قد تؤثر على تماسك مؤيديهم، ومن ثم يبحثون عن “صيغة خروج” من هذا المأزق.
وتكمن المعضلة هنا في أن الوسيط الأممي لا يتحكم بالطبع في حلول اللحظة الناضجة من عدمه، لكنه يتعامل مع واقع صراعي بعينه أيًّا كانت طبيعته عند لحظة تعيينه. الأمر الآخر، أن هذه اللحظة قد تتحقق في مرحلة متأخرة، وليست مبكرة من دورة الصراع. ذلك أن أطراف النزاع يتصورون عادةً في المراحل المبكرة لنشوب الصراع أنهم قادرون على حسمه، ومن ثم، يتشددون أكثر في رفض أي تنازلات للتسوية. لكن المشكلة أن تمدد أمد الصراع قد يُحوله إلى نمط حياة للمتنازعين، بمعنى أنهم يتكيفون مع استمراره، إذ يؤمن لهم مكاسب لن يحظوا بها إن حل السلام. هنا -على سبيل المثال- تبرز مشكلة الميليشيات المسلحة في ليبيا التي حققت عوائد اقتصادية (جريمة منظمة، وتهريب سلاح، ومهاجرين) إثر سقوط “القذافي” وهشاشة الوظيفة الأمنية للدولة، ومع مرور الوقت لا يقدرون على التخلي عن تلك المكاسب، ويتحولون بالتالي إلى “مفسدي” تسويات. أضف إلى ذلك، أن إنهاك الأطراف الداخلية قد يتحقق في لحظة ما من الصراع، ولكن سرعان ما تتدخل أطراف خارجية لإنعاشه بتزويدهم بالدعم المادي والمعنوي، أي تحول نقص القوة إلى فائض مؤجج لاستمرار النزاع.
وقد لوحظ أن المبعوثين الأمميين الذين عُينوا في بدايات الصراع الليبي بين عامي 2012 و2014، مثل “طارق متري”، لم يحرزوا أية اختراقات، إذ واجه حينها أزمة استقطاب حادة قادها الإسلاميون؛ فبعد أن نالوا المرتبة الثانية بعد تحالف القوى الوطنية الذي تصدر انتخابات 2012، سعوا لإقصاء قيادات ذلك التحالف عبر قانون العزل السياسي لمن عمل مع نظام “القذافي”، وهو ما قاد بدوره إلى أزمة تمديد المؤتمر الوطني العام (البرلمان آنذاك) في فبراير 2014. ومن ثمّ، بدت مبادرة “متري” آنذاك للحوار بين الفرقاء غير مجدية في يونيو 2014، حيث سبقت بأسبوع واحد انتخابات مجلس النواب. كما بدت أيضًا حينها الأداة العسكرية الوسيلة الأكثر إقبالًا من المتنازعين على الحسم مع إطلاق الجيش الليبي عملية الكرامة ضد الإرهابيين في بنغازي في مايو 2014، وهو ما ردّ عليه الطرف الآخر بعدها بشهرين بعملية “فجر ليبيا”، كتحالف بين ميليشيات إسلامية ومصراتية في غرب ليبيا.
اتفاق للتسوية أم لتفجير صراع جديد؟
إذا كانت تسوية الصراع تعني أن الأطراف المتنازعة تدخل -سواء بصورة ثنائية، أو بمشاركة أطراف دولية رسمية وغير رسمية- في اتفاقية لحل خلافاتها الأساسية بطريقة سلمية؛ فإن بلوغ ذلك الأمر يتطلب شروطًا من قبيل مدى الملاءمة لموازين الواقع، سواء السياسية أو العسكرية، بين المتنازعين بقدر من العدالة النسبية، وكذلك تلبية احتياجات الفواعل المتصارعة، دون الوقوع في فخ تهميش بعض الأطراف المؤثرة، خاصة أن الصراعات إنما تنشأ بالأساس لوجود تعارض في حاجات وأهداف ومصالح الأطراف المتنازعة، إضافة إلى القابلية للتنفيذ، عبر وجود ضامن خارجي يلعب دورًا محفزًا ورادعًا للمتنازعين في آنٍ واحد.
ما لم يتحقق ذلك، فقد تصبح التسويات عوامل مضافة لتأجيج صراعات جديدة، أو في أحسن الأحوال مجرد جزئية تشمل بعض القضايا والفواعل في الصراع، ومن ثم تتعرض للرفض من أطراف متنازعة أخرى. هنا، يمكن القول إن إحدى معضلات اتفاق الصخيرات أنه نقل الانقسام الليبي من أرض الواقع بين الشرق والغرب إلى صيغة تقاسم السلطة في الاتفاق، عبر مؤسسات (المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، مجلس النواب، المجلس الأعلى للدولة)، لكن ذلك الاتفاق لم يؤسس -في المقابل- لكيفية توزيع الموارد (النفط) التي تمثل لب المعضلة الليبية، إضافة إلى التعامل الضبابي مع الملف الأمني برغم أولويته في الحالة الليبية، حيث لم يهتم الاتفاق بتفاصيل الترتيبات الأمنية، أو ضمانات نزع سلاح الميليشيات، ودمجها، خاصة أنه تم توقيعه بينما لا يزال الجيش الليبي غير موحد.
ويعزو البعض ذلك بالأساس لرغبة المبعوث “ليون” آنذاك -الذي قاد جولات التفاوض ومسودات الاتفاق في 2015- في تحقيق نصر دبلوماسي سريع في واقع معقد لم يحفل بالحد الأدنى من الاتفاق، وهو ما أسهم في تعثر خليفته “كوبلر” في تنفيذ الاتفاق بسبب رفض مجلس النواب منح حكومة الوفاق الشرعية. وبرزت النتائج السلبية لذلك بعد تعيين “غسان سلامة” في عام 2017، إذ سعى عبر خطته في سبتمبر من ذلك العام إلى تعديل بعض البنود المتنازع عليها في الصخيرات كي يجعله قابلًا للتنفيذ، وإقامة حوار وطني جامع، وانتخابات عامة لحسم مأزق الشرعية. ثم قلص خطته إلى “ملتقى وطني” كان من المخطط عقده في أبريل 2019، ثم انتخابات عامة، لكنها فشلت إثر نشوب معركة طرابلس، لا سيما أن توازنات القوى في ليبيا ابتعدت عن لحظة توقيع الاتفاق، مع ميل موازين القوى الميدانية للجيش الوطني الليبي في عام 2019، مقارنة بالتعادل النسبي بين المتنازعين وقت توقيع اتفاق الصخيرات.
على جانب آخر، عبّرت إشكالية عدم إنفاذ هذا الاتفاق، ثم ما تلاه من اتفاقات شفهية بين أطراف النزاع، سواء في اجتماعات دولية في أبوظبي أو باريس أو روما؛ عن غياب فكرة الرادع أو الضامن الخارجي؛ إذ تعتمد المقاربة الأممية لتسوية الصراعات في حث المتنازعين على الجلوس لمائدة التفاوض على تعديل سلوك المتنازعين عبر أداة العقوبات. وفي ليبيا، ومع إدراك أن الأداة العسكرية تُعد الأكثر فاعلية في تأجيح النزاع، لجأت الأمم المتحدة إلى فرض حظر للسلاح، والذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا، وتسمح للدول بتفتيش الأسلحة عبر القرارين الدوليين 1970 و2042. لكن مع ذلك، بدا الحظر هشًّا وغير قابل للتطبيق في ظل تبلور محاور خارجية إقليمية ودولية متنافسة تدعم أطراف النزاع الليبي، وهو ما نوه له أكثر من مرة المبعوث الأممي “غسان سلامة” دون جدوى. بل إن تنافس مصالح القوى الكبرى في ليبيا، برز مع رفض واشنطن وموسكو تمرير مشروع بيان بريطاني في مجلس الأمن حول وقف النار في طرابلس، فيما سعت قوى إقليمية مثل تركيا إلى دعم ميليشيات حكومة الوفاق بالسلاح دون تصدٍّ أممي، وكل ذلك شكل بيئة تُضعف المقاربة الأممية في تسوية الصراع الليبي.
حساسية الوساطة: مأزق استفزاز المتنازعين
تشير “حساسية الوساطة” sensitivity إلى مدى قدرة الوسيط الأممي -كطرف ثالث يتوخى الحياد والاستقلالية والنزاهة- على تعظيم ما تتيحه سياقات الصراع من فرص، وتقليص ما ينجم عنها من قيود، عبر الابتعاد عن استفزاز المتنازعين، وتفهم السياق الصراعي وتوازناته. ويقتضي ذلك ألا يُنصّب المبعوث نفسه طرفًا يكيل الاتهامات لسلوكيات المتنازعين، خاصة أنه يفترض عدم تمثيله لأية مصالح قد تؤثر على سير التفاوض بين المتنازعين، فضلًا عن التوازن في خطاباته وتصريحاته ومقابلاته مع أطراف النزاع، لأن الوساطة في جوهرها هي نوع من القوة الناعمة التي تستهدف توفير مناخ من الثقة، واستكشاف مصالح الأطراف المتنازعة، ومساعداتهم على تحديد الأولويات، وما يمكن أن يقبلوا به في أي اتفاق إطاري مبادئي ثم تفصيلي.
ولعل إحدى المعضلات الرئيسية التي واجهها “غسان سلامة” في ليبيا هي نمط التصريحات التي كان يطلقها بين حين وآخر ضد النخب الليبية، إذ اتهمها مثلًا في مارس 2019 بالفساد والنهب المنظم لثروة البلاد. كما أطلق تصريحات حادة ضد المشير “خليفة حفتر” -قائد الجيش الوطني الليبي- في أبريل إثر نشوب معركة طرابلس، عندما حذر من دعمه، مشيرًا إلى أنه “ليس إبراهام لينكولن، وليس بذلك الديمقراطي الكبير، لكن لديه مؤهلات ويريد توحيد البلاد”. وأثارت تلك التصريحات حفيظة التحالفات السياسية الداعمة للجيش الليبي، حيث اتهمت “سلامة” بالانحياز.
أخيرًا، لا يمكن عزو إخفاق تجارب الوساطة الأممية في ليبيا فقط إلى مسببات شخصية الوسيط ومهاراته في استكشاف الحلول الممكنة، وإنما يُضاف إليها سياقات موضوعية تتعلق بطبيعة هذا الصراع، خاصة أن ذلك الوسيط يمثل بالأساس مؤسسة دولية (الأمم المتحدة) تظل مقيدة بالمنافسات بين القوى الدولية على تحقيق مصالحها في مناطق الصراعات. وبالتالي، تصبح فاعلية المبعوث الأممي مشروطة بمدى قدرة مقترحاته للتسوية على تلبية الحد الأدنى من احتياجات المتنازعين، سواء على صعيد الداخل أو الإقليم أو القوى الدولية ذات المصلحة، وهي معادلة معقدة نبعت بالأساس من انكشاف الصراع الليبي للتدخلات الخارجية.