ليست المرة الأولى التي أكتب فيها حول هذا الموضوع لأهميته من وجهة نظري. فمصر دولة تحتل موقعًا جيوستراتيجيًّا متميزًا يُحقق قدرات تجعل منها عنصرًا شبه ثابت في صياغة السياسات الإقليمية والدولية، حربًا وسلمًا. فقد حقق لها ملتقاها الآسيوي الإفريقي مكانة خاصة في العالم، وجعلها دولة مفصلية بين منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى إطلالها على أهم بحرين يربطان العالم، هما البحر الأحمر والبحر المتوسط.
في تقديري ترتكز القوة المصرية على ستة أركان رئيسية، هي: موقع جيوستراتيجي فريد يحتضن قناة السويس التي تصل بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، وتراث حضاري تاريخي وديني عريق، وقوة بشرية تشكل ما يقرب من ثلث سكان المنطقة العربية (نصف سكان مصر من الشباب)، وجيش قوي يصعب انشقاقه، وتماسك طائفي وعرقي، وثروات طبيعية زاد عليها الغاز الطبيعي.
وكُلَّمَا تمت محاولة تهميش مصر، وتجاهل ارتكازات قوتها؛ أتى من ينفُض عنها هذا مُجَدِدًا قوتها لتعود بسرعة لدورها الفعال. وتلاحظ ذلك عبر العصور، بدءًا بمصر القديمة قبل الميلاد، وصولًا إلى الأُسرة العلوية، حيث تجدهم جميعًا استقروا وحكموا بها، مُكتشفين في مصر مفاتيح كافة المناطق التي حولها.
مفاتيح مصر الاستراتيجية
ومن ثم، تُعتبر مصر صِمَام أمان لأوروبا وشمال وشرق إفريقيا والشرق الأوسط. فهي، من ناحية، تجمع بين كونها دولة المصالح وكف الأذى، إذ تقف مصر سدًّا أمام التمدد “السرطاني” للإرهاب، وتبذل الكثير من المساعي والجهود لتقزيمه ووقف تقدمه صوب شمال إفريقيا وشرق المتوسط إلى أوروبا. وهي، من ناحية أخرى، تعمل على احتضان اللاجئين، ومنع تدفقهم شمالًا وغربًا أيضًا، ليستجد عليها منطقة مهمة ضمن نطاقات أمنها وهي المنطقة البحرية الغنية بالغاز الطبيعي “شرق المتوسط”.
في مقدمة بعنوان “مفاتيح مصر الاستراتيجية”، والتي تصدرت كتابه الشهير “سيناء في الاستراتيجية والسياسة والجغرافيا”، قال د. جمال حمدان: “غير أن أركان مصر الاستراتيجية لا تكتمل إلا إذا اعتبرنا أطراف المعمورة الدقيقة لا تربط جسمه الأساسي بالعالم الخارجي المحيط: سيناء في الشمال الشرقي، ومرمريكا في الشمال الغربي، والنوبة في الجنوب. وكلٌ منها بوابة لمصر”. وقال أيضًا في مقدمة كتابه: “ولكن هذه البوابات تتفاوت إلى أقصى حد في أهميتها، وخطرها الاستراتيجي. وقد نعبر عن هذا التفاوت تعبيرًا دالًّا ومكلفًا إذا اعتبرنا سيناء البوابة الأمامية، ومرمريكا البوابة الجانبية، والنوبة البوابة الخلفية”.
تقع شبه جزيرة سيناء، التي وصفها د. جمال حمدان بـ”البوابة الأمامية لمصر”، في الجزء الشمالي الشرقي من جمهورية مصر العربية المتاخم للحدود البرية مع قطاع غزة وإسرائيل، كما تطل جنوبًا على خليج عدن المشارك في مياهه الإقليمية مع السعودية والأردن وإسرائيل، وعلى خليج السويس داخل الحدود المصرية. وتقع النوبة (البوابة الجنوبية لمصر) في أقصى الجنوب المصري، وهي حاليًّا المنطقة التي تشمل جنوب مصر وشمال السودان على طول نهر النيل. وفي الشمال الغربي نجد مرمريكا (البوابة الجانبية لمصر)، التي على حد وصف د. جمال حمدان “تختنق مرمريكا مريوط بين البحر ومنخفض القطارة عند هضبة الرويسات ومنطقة العلمين لتؤلف مضيقًا كالعنق من أخطر وأمنع المداخل”.
وأشار د. حمدان إلى ضرورة ملاحظة أن الإسكندرية وبورسعيد -مؤخرًا- تُعدان مفتاحًا أكثر أمانًا خلف بوابة الشرق (الأمامية) وبوابة الغرب (الجانبية).
الاتجاهات الاستراتيجية المصرية
حديثًا وضع المخططون الاستراتيجيون ثلاثة اتجاهات استراتيجية رئيسية محددة لمصر، هي: الاتجاه الاستراتيجي الشمالي الشرقي، ويمثله شبه جزيرة سيناء. والاتجاه الاستراتيجي الغربي، ويمثله المنطقة بين الضبعة شرقًا والسلوم غربًا على الحدود الغربية المصرية مع ليبيا، وجنوبا حوالي 400 كم حتى الواحات. والاتجاه الاستراتيجي الجنوبي، ويمثله جنوب مصر وصولًا للحدود المصرية السودانية وغربًا مع الجزء الجنوبي من الحدود مع ليبيا.
كانت أولى مشاركاتي الأكاديمية والبحثية مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) خلال مؤتمر أمن الطاقة بالبيئة البحرية الذي عُقد في الأسبوع الأول من شهر يونيو 2015 بمركز تدريب العمليات البحرية التابع للحلف (في جزيرة كريت باليونان)، حيث كان تركيز المؤتمر على أمن الطاقة في البيئة البحرية بمنطقة “شرق المتوسط”، تلك المنطقة التي تعتبر ضمن أهم وأخطر مناطق للصراع المحتمل دوليًّا. ومن وقتها أوليت اهتمامًا خاصًّا بما يمكن تسميته “الاتجاه الاستراتيجي الشمالي” لمصر، والذي يجب أن يمتد لأقصى مدى للمجال الحيوي الشمالي للبلاد، متضمنًا عمق المياه الإقليمية المصرية في البحر المتوسط، وصولًا إلى عمق المياه الاقتصادية المصرية، باعتبارها منطقة تحمل تأثيرًا مباشرًا وشديدًا على البوابة الجانبية المصرية ومفاتيحها الاستراتيجية التي لا تنحصر حديثًا في بورسعيد والإسكندرية فقط، ولكنها قد تمتد لعدة مدن رئيسية شرقًا وغربًا على ساحل البحر المتوسط.
وأشرت في عدة لقاءات دولية إلى أهمية هذا الاتجاه في كافة مجالات الأمن القومي لمصر ولجيرانها الساحليين، وكذا لدول جنوب شرق أوروبا المطلة على البحر المتوسط. وأوصي دائمًا بأهمية رفع مستوى التنسيق والشراكة مع دول أوروبا شرق المتوسط، خاصة مع تزايد الأهداف الاستراتيجية المشتركة الواجب تأمينها شرق المتوسط، والتي لا تنحصر في حماية الموارد الاقتصادية ومكافحة الإرهاب فقط، بل قد تمتد لمصالح عدة في مجالات أخرى متنوعة.
جيوستراتيجيًّا، تُعد مصر أهم دول “الحوار المتوسطي” السبع المُطلة على البحر المتوسط، وشريك حلف شمال الأطلسي (ناتو) منذ عام 1994. وأظن أن مصر حتى فترات قريبة لم تستغل هذه الشراكة بشكل جيد مقارنة بأربع دول خليجية (الإمارات، الكويت، البحرين، قطر) دخلت في شراكة مع الحلف فيما سُمي بـ”مبادرة إسطنبول للتعاون”، وذلك عقب مصر بعشرة أعوام. إلا أن هذه الدول قد حققت مكاسب كبيرة من هذا التعاون. ولا يغيب عن أي مُخطٍط، سواء كان سياسيًّا أم عسكريًّا، أن الساحل المصري الواصل من رفح إلى السلوم يعتبر الساحل الأكبر مواجهة والأكثر تماسكًا جنوب شرق المتوسط، وذلك مقابل الساحل التركي شمال شرق المتوسط، خاصة مع تغير خريطة الأحلاف واحتمالات خروج تركيا من حلف الناتو.
ويجب أن نميز هنا بين “الاتجاه الاستراتيجي” والعمق الاستراتيجي؛ فالأول يتضمن نطاقات مسئولية يجب تأمينها من كافة التهديدات والمخاطر المحتملة أو الواقعة عليه من الخارج أو الداخل. أما “العمق الاستراتيجي” فقد يكون داخل الدولة أو قد يكون خارجها متمثلًا في دولة أو دول أخرى محيطة تضمن أمن كل منها أو تحقق التأمين المتبادل بين كل دولة والدولة التي تمثل لها العمق الاستراتيجي. ومن ثم، وكما تمثل لنا سوريا عمقًا استراتيجيًّا شماليًّا شرقيًّا، وكما تمثل دول الجزيرة والخليج العربي عمقًا استراتيجيًّا شرقيًّا، وكما تمثل ليبيا عمقًا استراتيجيًّا غربيًّا، وكما تمثل السودان حتى القرن الإفريقي وباب المندب عمقًا استراتيجيًّا جنوبيًّا، أرى أن قبرص واليونان وإيطاليا ومنطقة شرق المتوسط البحرية يمكن أن تمثل لمصر عمقًا استراتيجيًّا شماليًّا لا يقل أهمية عن الأعماق الاستراتيجية الأخرى.
الاتجاه الاستراتيجي الرابع
اقتصاديًّا، لا شك أن البحار تمتلك أهم وأكثر الموارد الطبيعية، كما أنها تمثل للبلاد المطلة عليها بواباتها التجارية والاقتصادية لكافة أنحاء العالم. كما أن البحار تحقق النفوذين السياسي والأمني الحقيقيين. ومن ثم، أتصور أن الظروف الحالية والمتوقعة قد تتطلب إدراج “شرق المتوسط” كرابع الاتجاهات الاستراتيجية المصرية بصفته “الاتجاه الاستراتيجي الشمالي”، وكل ما يلزم ذلك من إجراءات. وبالتوازي مع التنمية في شبه جزيرة سيناء، أرى ضرورة تنمية وتطوير الساحل الشمالي من بورسعيد إلى السلوم، خاصة المناطق غير المأهولة منها. وكذلك أرى ضرورة تفعيل الشراكات المصرية الإقليمية والدولية على الاتجاه الاستراتيجي (الشمالي)، وإنشاء شراكات جديدة وتفعيل التحالفات القائمة التي تُعد داعمة لهذا الاتجاه المهم. وفي إطار التمثيل الكامل بين الناتو ومصر والذي يُعد تطويرًا مهمًّا في طبيعة الشراكة بين مصر والحلف، أقترح تعظيم سبل التعاون بينهما ليماثل حجم التعاون مع دول مبادرة إسطنبول (التي تتضمن دول الخليج الأربع) بل ويزيد ولو مرحليًّا.
ولتعظيم سبل التعاون والشراكة بين مصر والناتو يمكن تطوير التعاون الأكاديمي ليكون بين الأكاديميات الاستراتيجية العليا المتخصصة بمصر والحلف، وزيادة حجم التعاون ليشمل المجالات البحثية والتدريبية، وكذا المعلوماتية في مجالات مكافحة الإرهاب والتطرف، والهجرة غير الشرعية، والجرائم العابرة للحدود وغيرها. كما يمكن التعاون المعلوماتي مع مركز تجميع وتحليل المعلومات والدراسات الأمنية والسياسية لحلف شمال الأطلسي، والذي تم تأسيسه حديثًا بنابولي والمعروف بالمحور الجنوبي Southern Hub.
التحالفات والشراكات المصرية
أعتقد أن نظرة السياسة الخارجية المصرية تجاه مفهوم “التحالفات والشراكات الدولية” قد تطورت بشكل إيجابي، وتظهر نتائجه تباعًا. وقد يرجع السبب إلى قناعة صناع ومتخذي القرار بضرورة العمل في إطار أهداف ومصالح إقليمية ودولية، سواء مشتركة أو متبادلة بالمعنى الحقيقي، وهو أمر يتحقق بتحديد الأهداف الاستراتيجية المصرية على الصعيدين الإقليمي والدولي بدقة، وتحديد من يستطيع أن يحققها معنا ومن لا يستطيع. وأيضًا تحديد من قد يحاول إعاقة تحقيقها. وبناءً عليه، وعلى عدة أسس واعتبارات أخرى، تُبنى التحالفات والشراكات التي تحتاجها مصر.
ومن هنا يكون التحول من حالة الخوف وعدم الثقة في الآخر، إلى حالة الثقة والثبات والقدرة على التواجد الدبلوماسي الدولي والإقليمي بقوة، والذي يعد من أهم الدعائم الأربع للدولة المستقرة (غير الهشة).
أكثر سؤال يدهشني تلقيته كثيرًا هو: “هل تعتقد أن الولايات المتحدة أو أوروبا أو الصين أو روسيا دول تعمل لمصلحة مصر؟”. وإجابتي المباشرة تكون: “ولماذا من المفروض على أي دولة أن تعمل لمصلحة دولة أخرى؟ وهل مصر “طفل قاصر” يحمل حقيبة الدراسة وحافظة الغداء، وتحتاج وصيًّا يعمل لمصلحتها ويحميها من الأشرار؟ بالطبع لا، حيث تبنى الشراكات والتحالفات على مدى إدراك أطرافها لأهدافهم ومصالحهم وتحدياتهم جيدًا، وإدراكهم مصالح وتحديات حلفائهم أيضًا حتى ولو كانوا أعداء سابقين، وكيفية تركيز الجهود لتحقيق المصالح المشتركة بينهم.