لم تمضِ سوى أربع سنوات على الاحتجاجات الواسعة لليهود من أصول إثيوبية في إسرائيل، حتى تجددت هذه الاحتجاجات مرة أخرى على خلفية قتل شرطي إسرائيلي لشاب من الطائفة في بداية شهر يوليو الجاري (2019)، الأمر الذي أعاد فتح الملف بكل جوانبه مجددًا، بدءًا من الاعتراف باستمرار التمييز “المجتمعي” في إسرائيل ضد أصحاب البشرة السمراء، سواء كانوا ممن ينتمون إلى طائفة “الفلاشا” التي يحتل فيها الإثيوبيون مكان الأغلبية، أو من المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين الذين تسللوا على فترات داخل الحدود الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، ومرورًا بعجز الدولة العبرية عن معالجة مشكلة التمييز ضد هذه الطائفة على المستوى الرسمي، وانتهاء بتوجيه اتهامات حصرية للشرطة بأنها تتعمد انتهاج سياسات متساهلة تجاه الضباط والجنود الذين يرتكبون جرائم متنوعة في حق أبناء الطوائف الشرقية عامة.
ومما لا شك فيه أن التعقيدات البنيوية في إسرائيل -على المستويين الاجتماعي والثقافي- بجوانبها التاريخية، تُفسر لنا تكرار الأزمات التي بدأت مبكرًا بعد نحو عقد واحد من ظهور الدولة العبرية في عام 1948. وهي التي تظهر أيضًا المأزق الذي يمكن أن تعيشه إسرائيل مستقبلًا إذا ما فشلت في إيجاد حلول ناجحة لهذا الوضع المأزوم.
الموجة الأولى للاحتجاجات
في السابع من مايو 2015، بعد أن تسرب شريط فيديو للإعلام الإسرائيلي يصور اعتداء رجال الشرطة على مجند من طائفة الفلاشا؛ اندلعت مظاهرات احتجاج عنيفة من جانب أبناء الطائفة، تركزت في مدينتي القدس وتل أبيب. واعتبرت الصحافة الإسرائيلية في حينها أن ما حدث يؤشر على أمرين يعدان بمثابة إنذار للمجتمع والدولة قبل أن تتفاقم الأمور. الأول، هو ظاهرة تنامي اعتداءات رجال الشرطة على المواطنين، وتعاملها بعنف بالغ مع المظاهرات الاحتجاجية السلمية التي أشعلتها الحادثة المشار إليها، الأمر الذي يهدد بإهدار حقوق الإنسان، وعلى رأسها حرية التعبير، ووضع الديمقراطية الإسرائيلية على المحك.
الأمر الثاني، هو التحول المفاجئ في سلوك طائفة الفلاشا التي كانت تُعتبر أكثر طوائف المجتمع الإسرائيلي جنوحًا للمهادنة رغم ما تتعرض له من تمييز اجتماعي منذ هجرتها إلى إسرائيل قبل ما يزيد على 30 عامًا، الأمر الذي يعني أن مؤشر العنف الاجتماعي الكامن قد وصل إلى مستويات تُنذر بارتفاع حدة المصادمات بين الدولة ومؤسساتها من جانب وبعض فئات المجتمع من جانب آخر، ما يعني تهديد الاستقرار الداخلي، ووضع مزيدٍ من الأعباء على المؤسسات السياسية والأمنية في إسرائيل.
وتجدر الإشارة -بدايةً- إلى أنه يعيش أكثر من 135 ألف إثيوبي يهودي في إسرائيل التي هاجروا إليها في موجتين خلال عامي 1984 و1991، وهم يجدون صعوبة في الاندماج في المجتمع الإسرائيلي رغم المساعدات الحكومية الهائلة.
أزمة الاندماج في المجتمع الإسرائيلي
منذ إنشائها عام ١٩٤٨، عانت الدولة العبرية من حالة تشظٍّ ثقافي واجتماعي عميقة، نجمت عن التباين الواسع بين اليهود الذين جاءوا من أوروبا والولايات المتحدة (الإشكناز)، وبين اليهود المنحدرين من أصول شرقية (السفارديم). فبينما كان “الإشكناز” أفضل تعليمًا وثراءً، وأكثر ميلًا نحو الحداثة والعلمانية، كان اليهود الشرقيون أو السفارديم يعانون من نقص المهارات التعليمية والثقافية، فضلًا عن أن أغلبهم جاء للدولة معدمًا ومتأثرًا بالثقافات المحافظة التي عاش في ظلها قبل الهجرة بما تحتويه من ميل نحو التدين ورفض القيم الحديثة.
وانعكست هذه الاختلافات بين الطائفتين على تمثيل كل منها في المؤسسات السياسية، وسوق العمل، والمناصب العليا في الإدارات الحكومية وقيادات الجيش والمؤسسات الأمنية. ومع الوقت تعمقت قناعة “السفارديم” بأن الدولة هي دولة “الإشكناز”، وأنهم مجرد مواطنين من الدرجة الثانية.
وقد نشبت أولى الأزمات الكبرى في عام ١٩٥٩ فيما عُرف باسم “تمرد وادي الصليب” في حيفا، حيث اندلعت احتجاجات عنيفة بعد أن اعتدى أحد رجال الشرطة على مواطن من أصل مغربي. وبدأ الحديث وقتها على استحياء عن التمييز الذي يعانيه السفارديم في المجتمع من قبل الدولة، وإن تكفلت عزلة الدولة عن محيطها، وحالة العداء العربي تجاهها، وعدم تطور وسائل الاتصال والوسائط الإعلامية، بوأد هذه الاحتجاجات سريعًا بدواعي الحفاظ على أمن البلاد في مواجهة الأخطار الخارجية.
وبعد نحو عقد من هذه الأحداث، شكل بعض الشباب اليساري من المنتمين إلى السفارديم حركة حملت اسم “الفهود السوداء” تأسيًا بالحركة الأمريكية المعروفة بذات الاسم، والتي أسسها الزنوج في منتصف الستينيات احتجاجًا على السياسات العنصرية التي تمت ممارستها في المجتمع الأمريكي ضد المواطنين من أصول إفريقية. غير أن الحركة الإسرائيلية لم تستمر طويلًا، واختفت في أعقاب حرب أكتوبر ١٩٧٣.
ورغم أن حزب الليكود قد استغل شعور “السفارديم” بالغبن لكي يتمكن من الفوز بأغلبية مقاعد الكنيست في عام 1977؛ فإن الليكود ذاته لم يكن سوى حزب إشكنازي بامتياز، على الأقل كون قادته جميعًا -وربما حتى اليوم- من الطائفة الإشكنازية. ولم يفلح خطابه الداعي للمساواة في إخفاء هذا الطابع؛ ومن ثمّ ظهرت حركة شاس (حزب ديني متشدد يمثل الطوائف الشرقية) في الثمانينيات من القرن الماضي، وادعت أنها لا تمثل اليهود الحريديم (المتشددين دينيًّا)، بل تعبر عن تطلعات أبناء الطوائف الشرقية كلها نحو إزالة التمييز الذي يعانونه.
وقد نجحت “شاس” بالفعل في استقطاب أصوات الفئات الفقيرة، وأغلبها من اليهود السفارديم، لكنها مالت في النهاية للتحالف مع الأحزاب الحاكمة التي طالما تساهلت معها في مطالبها الخاصة بدعم المصالح الخاصة باليهود المتدينين حصرًا.
الفلاشا كجزء من الحركات الاحتجاجية
في إطار هذه الخلفية، يمكن فهم جزء من خصائص ظاهرة تحول اليهود الفلاشا نحو العنف في مواجهة الدولة العبرية، والذي يجب تمييزه عن الحركات الاحتجاجية التي اندلعت في إسرائيل في صيف عام ٢٠١١ والتي عُرفت في حينها باسم “احتجاجات الخيام”؛ فعنف طائفة الفلاشا يتعلق بتمييز عنصري تجاهها من المجتمع والدولة.
ويتمثل هذا التمييز في سياسات العزلة التي فرضت عليهم، والتي وصلت إلى حد الازدراء كما أوضحتها واقعة التخلص من أكياس الدم التي كان الفلاشا يتبرعون بها في أواخر تسعينيات القرن الماضي، بإلقائها في القمامة سرًّا. وقد اتهمت الطائفة وزارة الصحة في حينها بأن دوافعها للتخلص من أكياس الدماء المأخوذة من اليهود الفلاشا ليس بسبب الادعاء الكاذب بأنها تحتوي على أمراض وغير صالحة للاستخدام الطبي، ولكن بسبب المشاعر العنصرية التي يُكنّها الإشكناز البيض ضد السفارديم عامة وأصحاب البشرة السمراء منهم خاصة.
أما الاحتجاجات التي بدأت في صيف عام ٢٠١١ (أطلق عليها لاحقًا اسم حركة G14 كونها بدأت تأخذ زخمها الكبير في 14 يوليو من ذلك العام) فقد كانت احتجاجات واسعة بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وغلاء المساكن. وفي البداية لم يتجاوز عدد أفراد مجموعة الشبان والشابات الذين كانوا في بداية العشرينيات من أعمارهم وبادروا إلى نصب الخيام في تل أبيب 15 شخصًا لم يسبق لهم أن انتموا لأحزاب سياسية، لكن خلال فترة وجيزة من نشاط حركة الاحتجاج، ظهرت عدة آلاف من الخيام في 61 مدينة وبلدة إسرائيلية.
وقد انحصر اهتمام قادة حركة الاحتجاج بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية لسياسات الحكومات المتعاقبة، خاصة حكومة “نتنياهو”، منتقدين تحالف السلطة السياسية مع رجال الأعمال، وصاغت الحركة وثيقة تحت عنوان “العدالة الاجتماعية.. نحو برنامج عمل اقتصادي اجتماعي جديد”، وهاجمت فيها سياسات “اقتصاد السوق” و”السوق الحر”، وسياسة الخصخصة التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في العقود الأخيرة، وطالبت بتغيير المسارات الاقتصادية-الاجتماعية التي اتبعتها هذه الحكومات، والعودة إلى سياسة “دولة الرفاه” القائمة على العدالة الاجتماعية.
لقد كان ردُّ الحكومة الإسرائيلية على حركات الاحتجاج التي قامت على خلفية رفض السياسات الاقتصادية، أو تلك التي تمحورت حول رفض التمييز العنصري واحدًا، حيث انتهجت سياسة القبضة الحديدية في مواجهة هذه الاحتجاجات كما حدث أثناء فض المظاهرات التي اجتاحت عدة مدن إسرائيلية في شهر يونيو عام 2012 احتجاجًا على غلاء المعيشة؛ فواجهتها قوات الشرطة بعنف بالغ وبحملة اعتقالات واسعة بين صفوف المتظاهرين.
وقد علقت عضو الكنيست “زهافا غلئون”، عن حركة ميرتس، في ذلك الوقت على الأحداث بقولها: “إن عشرات النشطاء الاجتماعيين أكدوا أن الشرطة حاولت حتى قبل اندلاع المظاهرات استدعاءهم والتحقيق معهم عن خططهم المستقبلية”، متهمة الشرطة الإسرائيلية بأنها “تحول إسرائيل إلى دولة بوليسية وإلى جمهورية موز تمنع المواطنين من ممارسة حقهم في التظاهر السلمي”.
وفِي إطار اتهام الدولة بأنها تُمارس سياسات عنصرية تجاه بعض أبنائها، رأى بعض المعلقين أن مسئولية الأحداث التي تقع بشكل تكراري على خلفية الاحتجاج ضد الممارسات العنصرية هي مسئولية السلطة الحاكمة، التي تطلب من المهاجرين التخلي عن القليل مما كان لهم، وقبول القليل الذي تبدي الاستعداد لإعطائه لهم، حيث طلبت منهم التنازل عن ثقافتهم وهويتهم لصالح ثقافة وهوية ليس لدى أحد في إسرائيل أي فكرة عن ملامحها. والأمر الأسوأ أن المجتمع نفسه يطلب منهم ببساطة ألا يكونوا سود البشرة!
أزمة الهجرة غير الشرعية
عانت إسرائيل في السنوات العشر الأخيرة من تزايد وصول المهاجرين غير الشرعيين إلى أراضيها، خاصة المهاجرين الأفارقة الذين فروا بسبب الحروب الأهلية في الصومال وجنوب السودان، ومع وصول الآلاف من هؤلاء المهاجرين إلى داخل إسرائيل بواسطة عصابات التهريب، اتبعت إسرائيل سياسات متشددة في محاولة للحد من أعدادهم، بإعادة ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية، أو بعقد الصفقات مع بعض الحكومات الإفريقية للقبول بتوطينهم في بلدانهم مقابل مساعدات اقتصادية إسرائيلية لهذه الدول. وقد تسببت الحملة الشديدة، رسميًّا وشعبيًّا، ضد المتسللين الأفارقة إلى إسرائيل في إزالة الخط الفاصل بين الفلاشا (المواطنين بحكم القانون) وبين نظرائهم الأفارقة الذين يتسللون إلى إسرائيل هربًا من الظروف القاسية في بلدانهم. إذ تشير الإحصاءات الأخيرة في إسرائيل (نوفمبر 2018) إلى أن أعدادهم وصلت إلى أكثر من 35 ألف مهاجر غير شرعي، وتتوزع أصولهم كالتالي: ١٩٪ من السودان، ٧٣٪ من إريتريا، ٧٪ من دول إفريقية أخرى، ١٪ من باقي دول العالم. كما أشار استطلاع لمعهد “بيو” الأمريكي لاستطلاعات الرأي نُشر في أكتوبر 2018 إلى أن 57% من الإسرائيليين يؤيدون السياسة المتشددة لحكومتهم ضد المهاجرين الأفارقة. ويقطن معظم هؤلاء في المناطق الجنوبية من تل أبيب، أو يتسللون لمدن أخرى مثل القدس، ويعانون من التمييز العنصري والعزل الاجتماعي باعتبارهم مسئولين عن ارتفاع معدلات الجريمة، وانتشار الأمراض الخطيرة صحيًّا التي جلبوها معهم من بلادهم الأصلية.
التداعيات المحتملة
لا يبدو أن حادث مقتل الشاب الإثيوبي على يد الشرطة والذي وقع مؤخرًا سيكون الأخير، طالما بقيت الحكومة الإسرائيلية الحالية على إنكارها للجذور العميقة لعنف الطوائف الشرقية داخلها ضد الدولة والمجتمع، وفِي القلب منها ذوو البشرة السمراء. بل يبدو أن سياسة الشرطة في حماية رجالها من العقاب على ما يرتكبونه من جرائم عنف ضد المواطنين ما تزال مستمرة حتى اليَوم، حيث أفادت الشبكات التلفزيونية الإسرائيلية الرئيسية بأن المحققين يميلون إلى توجيه تهمة أخف من القتل غير العمد للشرطي، الأمر الذي زاد من غضب أبناء الطائفة الإثيوبية رغم تصريح وزير الأمن العام “جلعاد أردان” الذي انتقد فيه سلوك وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة، معترفًا بانعدام الثقة بالهيئة التي أطلقت سراح الشرطي المشتبه به بقتل الشاب. وأقر بشعور التمييز الذي أعرب عنه الإثيوبيون الإسرائيليون، واعترف بأن العنصرية ضدهم موجودة في المجتمع الإسرائيلي، ويجب عدم تجاهلها أو التستر عليها.
ورغم محاولة رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” تهدئة غضب الطائفة الإثيوبية من جانب، والتلويح بسياسة العصا الغليظة من جانب آخر حال استمرار الاحتجاجات الشعبية والمواجهات مع الشرطة؛ فإن بيان عائلة الضحية الإثيوبية يُبين أن الاحتجاجات قد تهدأ مؤقتًا ولفترة قصيرة فقط، حيث طلبت من المتظاهرين والمحتجين التزام الهدوء حتى مرور أسبوع الحداد وفقًا لتقاليدهم.
في كل الأحوال، وبغض النظر عن إمكانية اشتعال الموقف مجددًا في وقت قريب أم لا، ستبقى إسرائيل تحت ضغط أزمات اجتماعية معقدة، تبدو -ولسخرية القدر- أنها تهدد الأمن الداخلي في إسرائيل، في وقت تحسنت فيه البيئة الاستراتيجية الخارجية للأمن الإسرائيلي كثيرًا مقارنة ببيئة التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي.