ولأن المشهد فى الشمال السورى على وجه التحديد هو الأعلى فى مساحة تدافع الأحداث وتعقيداتها، لذلك فحتى اللحظة ليس هناك جديد تحت عنوان حسم المطامع، أو ما يخص تحديد الأطراف الفاعلة لخطوط السير، التى يمكن من خلالها قراءة مستقبل هذا الشمال الحائر والمنكوب فى آن، فقدر ما هو ظاهر من ارتباك تلك الأطراف، ليس بخافٍ على أحد، للحد الذى يمكن معه قراءة جزء من الصورة، باعتبارها عملية التسابق على «ميراث داعش»، فنحن هنا نتحدث عن الأراضى والبلدات والمفاصل، التى كان تنظيم داعش يسيطر عليها، ما جعل عملية التوحد فى مجابهته تخفى إلى حين تناقضات ما تضمره مختلف الأطراف.
وفق الإعلانات الرسمية المتتالية، نحن اليوم إزاء هزيمة للتنظيم وانحسار عن الأراضى التى برزت كما لو كانت مفاجآة، لكن تبين لاحقاً وبشكل سريع قدر الاحتياج لذريعة «محاربة الإرهاب»، كى تظل التحركات العسكرية لها ما يبررها إعلامياً على الأقل، ووجوداً على الأرض فى بعدها الواقعى، أول من أصابه هذا الارتباك هى الولايات المتحدة بقواتها العسكرية فى القواعد ومناطق الاستحواذ، حيث بدت هزيمة التنظيم التى نفذها الأكراد لصالحها غير جاهزة لليوم التالى، فالجميع تابع حجم ما أصاب المشهد من ارتباك، بمجرد إعلان الرئيس الأمريكى الجديد حينها دونالد ترامب عزمه سحب القوات الأمريكية من سوريا، ما دفع الإدارة لاحقاً إلى تعديل هذا التوجه، حفاظاً على الأوضاع التى كانت مرشحة إلى انزلاق غير محسوب، وللمفارقة كانت التداعيات فى صفوف الحلفاء بأكثر مما كان الأمر فى المحور المقابل، وهنا المقصود كانت «تركيا» بشكل محدد.
الجديد أن الارتباك لم يراوح مكانه، رغم مرور عامين تقريباً على المفرق السابق للأحداث، فمؤخراً طلب المبعوث الأمريكى الخاص بسوريا «جيمس جيفرى» من ألمانيا تقديم دعم برى إضافى للقتال فى مواجهة «داعش»، وبحثاً عن ذريعة إضافية جاء ذكر تقديم «الدعم الفنى» للمعارضة التى يقودها الأكراد، ووفق ما ذكره جيفرى لوكالة الأنباء الألمانية، فالطلب الأمريكى الرسمى يتمحور حول: «نريد أن تحل القوات البرية من ألمانيا محل جنودنا جزئياً»، وربما من الجدير بذكره أن القوات الألمانية موجودة بالتحالف الدولى ضد «تنظيم داعش» منذ عام 2015، من خلال استخدام وتشغيل طائرات «تورنادو» الألمانية الصنع، التى كانت تقوم بمهام ورحلات استطلاعية، فضلاً عن التزويد بالوقود فى كل من سوريا والعراق، لكن الطلب الأمريكى هذه المرة يستهدف تطوير تلك المشاركة إلى وجود برى، قد لا تكون ملامحه قد أفصح عنها بعد، رغم أنها لا تمثل المرة الأولى لهذه الرغبة، فقد سبقها طلب أمريكى فى مايو من العام الماضى، بحسب صحيفة «ديرشبيجل» التى أعلنت حينها، اطلاعها على رسالة أرسلها الجيش الأمريكى لنظيره الألمانى، طالبه فيها بتمديد عملياته الجوية فوق سوريا والعراق، للقضاء على فلول «تنظيم داعش» فى البلدين.
«جيمس جيفرى» وجد فى برلين الجمعة الماضى، فى مهمة ضغط صريحة، حيث لا توجد تسمية مغايرة للزيارة لطلب الحصول على دعم، فى كل من الشق المالى والعسكرى، وفى الأخير هو يطلب من ألمانيا إرسال مدربين عسكريين، وإخصائيين فى اللوجيستيات وفنيين لمساعدة قوات «قسد» فى الحرب ضد «داعش»، وهى مجموعة من المهام كانت القوات الأمريكية تختص بها منفردة، طوال وجودها فى السنوات الماضية قائدة لقوات التحالف من الدول الأوروبية المختلفة، فهل يعد هذا إيذاناً بتخريجة جديدة لصياغة وجود القوات الأمريكية على الأرض، هذا مبكر الوصول إلى إجابة عنه لكنها خطوة أمريكية متقدمة على أى حال، فالأمر لم يجر عبر المراسلات السرية التى تدور بين الحلفاء، والزيارة فى حد ذاتها معلنة بل وتضمنت لقاءات وإجابات عن أسئلة الإعلام الألمانى وغيره، حيث ورد فيها على لسان المبعوث على سبيل المثال: «نبحث عن متطوعين يرغبون فى المشاركة فى سوريا، ولم نطلب عدداً معيناً من الجنود». وأضاف أيضاً أن القوات لن تكون ضرورية بالضرورة للمشاركة المباشرة فى القتال ضد «تنظيم الدولة»!
الكثيرون وصفوا الاجتماع الثلاثى الأمريكى الروسى الإسرائيلى، الذى جرى فى مدينة القدس منذ أسابيع بتمثيل رفيع المستوى، باعتباره اجتماع «ترتيب المطامع» فى سوريا واصطفافها بجوار بعضها البعض، دون القفز على خطوط تماس أطراف الاجتماع، حيث جاء فى مقابل الطلب الأمريكى الإسرائيلى بإخراج إيران من سوريا، رفع العقوبات عن دمشق، ودعم استقرار سوريا ونهوض اقتصادها، ورفع الحظر عن الانفتاح العربى على دمشق، والتعهد بعدم استخدام الفيتو على انطلاق ورشة إعادة الإعمار، لكن إجابة «نيكولاى باتروشيف» ربما بددت إلى حد كبير إمكانية الوصول إلى اتفاق بهذ الشأن، عندما ذكر إيران باعتبارها «شريكاً راسخاً» لموسكو وتتعاون معها باستمرار، مؤكداً ضرورة الأخذ فى الحسبان المصالح الوطنية للدول الأخرى الموجودة فى المنطقة، وإلا فهناك شك فى قدرتنا على تحقيق نتائج ملموسة، باعتبار الجملة الأخيرة هى ما يمكن وصف ما خرج عملياً من هذا الاجتماع، فالترتيب لم يجر بعد والأطراف الثلاثة لم يحددوا بشكل حاسم، مساحات ما يمكن الوقوف عنده من متطلبات، ما دفع تركيا لاستغلال هذا الارتباك، فى إطار سعيها لتأمين مصالحها التى تسعى لها منذ العام 2011، على نفس الرقعة الجغرافية التى ظلت التنظيمات الإرهابية تعمل عليها لصالح أنقرة بالوكالة، هى اليوم تتقدم بوجهها المكشوف، حيث باتت تريد ضم «إدلب» بصورة نهائية إلى مناطق نفوذها، فضلاً عن تمسكها حتى الآن بما أسمته من البداية بـ«المنطقة الآمنة»، التى أعلن مؤخراً جيفرى أن اللقاء الذى جمع أردوغان بالرئيس ترامب فى قمة العشرين باليابان، قد يكون رتب ما يشبه التفاهم حول إنجاز الطلب التركى ببعض التعديلات غير الجوهرية، وهذا قد يشكل متغيراً مهماً وفارقاً فى مجمل المشهد السورى، وأيضاً يعكس حالة تبادل الأوراق والأدوار ما بين واشنطن وأنقرة.
*نقلا عن صحيفة “الوطن” نشر بتاريخ ٩ يوليو ٢٠١٩.