انطلقت أعمال القمة الاستثنائية الثانية عشرة للاتحاد الإفريقي في نيامي، عاصمة النيجر، يوم الأحد 7 يوليو 2019، واستمرت لمدة يومين، برئاسة الرئيس “عبدالفتاح السيسي”. وقد تناولت القمة العديد من الملفات، وكان الملف الاقتصادي هو الأبرز والأهم من بينها، حيث شهدت القمة الإطلاق الرسمي لـ”منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية”، وذلك خلال أعمال اليوم الأول من القمة.
وبالإضافة إلى إطلاق منطقة التجارة الحرة الإفريقية، ناقشت القمة العديد من الملفات المهمة المتعلقة بالجوانب الفنية لتيسير التجارة في القارة، بما في ذلك نظام المدفوعات والتسوية لعموم إفريقيا، وآلية مراقبة وإعداد التقارير، وإزالة الحواجز غير الجمركية، ودراسة اللوائح التي تحكم تحرير التجارة، وقواعد المنشأ، وتطوير نظام الدفع الرقمي، بالإضافة إلى إزاحة الستار عن لوحة معلومات المرصد التجاري للاتحاد الإفريقي.
وبعيدًا عن الموضوعات الاقتصادية التي تصدرت جدول أعمال القمة، أولت القمة اهتمامًا خاصًا بالملف الأمني بالتركيز على تدعيم الجهود الإفريقية لمكافحة للإرهاب في القارة، في ظل التهديد الكبير الذي تفرضه هذه الظاهرة على العديد من دول القارة ومن بينها النيجر، البلد المضيف للقمة، والتي شهدت مؤخرًا هجمات إرهابية في الثاني من يوليو أودت بحياة 18 مواطنًا.
إنجاز القمة الاستثنائي
يعد دخول اتفاقية التجارة الحرة القارية حيز النفاذ علامةً فارقةً في مسيرة الاندماج الإقليمي في القارة، وامتدادًا طبيعيًا للعمل الإفريقي المشترك في هذا المجال على مدى عقود. فقد اهتم الآباء المؤسسون للاتحاد الإفريقي بمسألة تكامل القارة الإفريقية اقتصاديًّا وتجاريًّا، باعتبار هذا التكامل إحدى ضمانات وحدة القارة في المستقبل.
وقد سار التقدم في مسيرة التكامل الاقتصادي الإفريقي، بالتوازي مع تطور التكامل السياسي. فمنذ تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، أولت المنظمة في أعوامها الأولى اهتمامًا خاصًّا بالتكامل الاقتصادي، قبل أن يتم إقرار خطة عمل لاجوس في عام 1980، ومن بعدها توقيع دول القارة معاهدة “أبوجا” لإنشاء الجماعة الاقتصادية الإفريقية عام 1991، وصولًا إلى توقيع اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية التي أطلقتها القمة الاستثنائية في النيجر في 7 يوليو، استكمالًا لأجندة الاتحاد الإفريقي 2063 ومشروعاته الرائدة للسنوات العشر الأولى.
وقد شهدت قمة نيامي إعلان مفوض الاتحاد الإفريقي للتجارة والصناعة دخول اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية حيز التنفيذ اعتبارًا من الأول من يوليو 2020، وذلك لمنح الدول الأعضاء الوقت اللازم للتكيف مع مقتضيات الاتفاقية الجديدة وتأهيل مجتمعاتها التجارية للاندماج على النحو الأمثل في منطقة التجارة الإفريقية. كما تضمنت القمة إطلاق “نداء الشرف” الذي تم فيه الإعلان عن أسماء الدول السبع والعشرين التي صدقت على صكوك اتفاقية التجارة الحرة لإفريقيا، والدول التي وقعت ولم تصدق عليها بعد.
كما شهدت القمة كذلك الإعلان عن حسم المفاوضات بشأن خمس من أهم الآليات التنفيذية المرتبطة بتفعيل منطقة التجارة الحرة، وهي: جداول تخفيضات التعريفات الجمركية، وقواعد المنشأ التي تمثل أركانًا أساسية لأي منطقة تجارة حرة، بالإضافة إلى نظام المقاصة والمدفوعات الإلكترونية الذي يعزز من التكامل المالي، ويقلص من الاعتماد على العملات غير الإفريقية، فضلًا عن مرصد التجارة الإفريقية الذي سيوفر البيانات الاقتصادية والتجارية والقانونية لكافة المعنيين بالشأن الإفريقي، على أن تستمر المفاوضات في وقت عاجل للانتهاء من كافة الإجراءات المطلوبة لبدء العمل الفعلي في المنطقة.
منطقة التجارة الحرة الإفريقية: الأهداف
تبنَّى الاتحاد الإفريقي في عام 2012 خطة لإنشاء منطقة التجارة الحرة الإفريقية (AFCFTA)، والتي يتجاوز نطاقها منطقة التجارة الحرة التقليدية، والتي تركز بشكل عام على التجارة في السلع، ليمتد إلى التجارة في الخدمات والاستثمار وحقوق الملكية الفكرية وسياسة المنافسة والتجارة الإلكترونية، لتصبح بذلك منطقة التجارة الحرة الإفريقية أقرب إلى صيغة الشراكة الاقتصادية الشاملة. وتعد اتفاقية منطقة التجارة الحرة الإفريقية واحدة من أكبر الاتفاقيات التجارية منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية، حيث تحاول إنشاء سوق واحدة تضم أكثر من 1.2 مليار مستهلك من المتوقع أن يرتفعوا إلى 2.5 مليار بحلول عام 2050، وبناتج محلي إجمالي يتجاوز 3.4 تريليونت دولار. هذا الحجم الكبير للدول المنخرطة في الاتفاقية سيجعل إفريقيا أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، وهو ما يمثل علامة فارقة في مسيرة التكامل الاقتصادي للقارة، ويمهد الطريق لاندماج القارة في الاقتصاد العالمي على نحو أكثر كفاءة وعدالة.
ويتمثل الهدف الرئيسي لاتفاقية التجارة الحرة الإفريقية في إنشاء سوق قارية موحدة للسلع والخدمات، مع حرية حركة رأس المال والأشخاص والاستثمارات، وزيادة التجارة البينية الإفريقية بنحو 60% بحلول 2022، وتمهيد الطريق لتسريع إنشاء الاتحاد الجمركي القاري. ومن المتوقع أن يترتب على إطلاق منطقة التجارة الحرة الإفريقية العديد من الفوائد لكل دول القارة. فمن المتوقع، على سبيل المثال، أن تؤدي حركة البضائع المعفاة من الرسوم إلى تعزيز التجارة داخل القارة، ومساعدة البلدان الإفريقية على بناء القدرة التصنيعية وجذب الاستثمارات الأجنبية، وهو الأمر الذي سيؤثر بالإيجاب على تعزيز القدرة التنافسية لاقتصادات دول القارة في قطاع التصنيع على وجه الخصوص من خلال استغلال فرص الإنتاج الكبير، والوصول إلى أسواق أوسع، وإعادة تخصيص الموارد بشكل أفضل.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى منطقة التجارة الحرة الإفريقية إلى إزالة الحواجز الجمركية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي تدريجيًا، من أجل تسهيل التبادل التجاري بين دول القارة. كما تسعى الاتفاقية في المرحلة التشغيلية الأولى لإلغاء الرسوم الجمركية على 90% من منتجات كل بلد، وهو ما ينشط التجارة بين الدول الإفريقية التي تبلغ نحو 17% تقريبًا من إجمالي التجارة في القارة، على أن يمتد ذلك إلى قطاع الخدمات بعد فترة.
مشاهدات على هامش القمة
كشف الإطلاق الرسمي لمنطقة التجارة الحرة الإفريقية خلال قمة نيامي عن عدد من المشاهدات ذات الأهمية الكبيرة، نناقشها فيما يلي.
1- الدور المصري الإيجابي
كان إطلاق منطقة التجارة الحرة الإفريقية واحدًا من أولويات الرئاسة المصرية للاتحاد الإفريقي خلال عام 2019، حيث تنظر مصر للاتفاقية بإيجابية باعتبارها قادرة على تعظيم منافع التبادل الاقتصادي بين الدول الإفريقية، بما يعنيه ذلك من إتاحة الفرصة لوجود مصري أكثر قوة وكثافة في عدد من الدول الإفريقية التي لم تكن مصر مرتبطة بها تجاريًا، وبالأخص دول وسط وغرب إفريقيا. كما تعمل الاتفاقية على تعظيم فرص الاستثمار ودعم التنمية والاستغلال الأنسب للموارد في عموم القارة، وهي الأهداف التي أعلنت مصر منذ توليها رئاسة الاتحاد الإفريقي السعي لتحقيقها.
كما تقدم الاتفاقية تسهيلات تتيح نفاد الصادرات المصرية -خاصة السلع الصناعية- إلى جميع الدول الإفريقية، بالإضافة إلى إتاحة استيراد المواد الخام ومدخلات الإنتاج من القارة بدون جمارك، الأمر الذي يتوافق مع هدف مصر لمضاعفة حجم التجارة البينية بينها وبين القارة الإفريقية خلال 5 سنوات، لتصل إلى 10 مليارت دولار، حيث تصل حاليًا إلى 5 مليارات دولار، كما ستستفيد مصر بشكل خاص من الاتفاقية باعتبارها بوابة إفريقيا للاستثمارات الأوروبية.
2- انضمام نيجيريا
لوقت قريب كانت نيجيريا الدولة الإفريقية الكبيرة الوحيدة التي لم تنضم لاتفاقية التجارة الحرة، الأمر الذي كان يمثل إحدى المشكلات المحتملة حال استمرار بقاء نيجيريا خارج الاتفاقية في الوقت الذي تُعد فيه الاقتصاد الأكبر في القارة. وخلال أعمال قمة نيامي الاستثنائية أعلنت نيجيريا انضمامها لمنطقة التجارة الإفريقية، بعد شهور من النقاش الموسع بشأن أثر دخول نيجيريا منطقة التجارة الحرة الإفريقية وذلك بعد أن تلقى الرئيس “محمد بخاري” تقريرًا رسميًا حول الآثار الإيجابية لانضمام بلاده للاتفاقية. وكان الرئيس “بخاري” قد أعلن في وقت سابق على القمة عن نية بلاده الانضمام للاتفاقية وذلك من خلال تغريدة على تويتر. كما أكد “بخاري” أن الأولوية تبقى للتأكد من توافر ضمانات كافية لمكافحة التهريب والواردات الهائلة التي تهدد القطاع الصناعي المحلي في نيجيريا. وقد أعقب توقيع نيجيريا توقيع جارتها بنين ليرتفع عدد الدول الموقعة على الاتفاقية إلى 54 دولة، وبذلك لم يتبقَّ سوى دولة واحدة هي إريتريا فقط التي لم توقع على الاتفاق.
3- استضافة غانا مقر منظمة التجارة الحرة الإفريقية:
في ظل الأهمية الكبيرة لاتفاقية التجارة الحرة الإفريقية تقدمت 5 دول للمنافسة على استضافة مقر منظمة التجارة الحرة الإفريقية، مثلت مختلف الأقاليم الإفريقية، هي: مصر عن شمال القارة، وإسواتيني عن إقليم الجنوب، وكينيا عن إقليم الشرق، وغانا عن إقليم الغرب، ومدغشقر عن جزر المحيط الهندي. وقد وقع الاختيار على غانا لاستضافة مقر أمانة منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، وهو الاختيار الذي يرجع إلى أسباب تتعلق بالتوازن الإقليمي في توزيع مقار التنظيمات التابعة للاتحاد الإفريقي. كما يرجع اختيار غانا كذلك إلى أهميتها كمركز للتجارة في إقليم غرب إفريقيا، وعلى خلفية العديد من برامج الإصلاح الاقتصادي والإداري التي اضطلعت بها غانا منذ عقود.
4- تأسيس مرصد التجارة الإفريقي
شهدت القمة إزاحة الستار عن اللوحة التذكارية لــ”مرصد التجارة الإفريقي” التي سيتم نقلها لاحقًا إلى مدخل مقر سكرتارية اتفاقية التجارة الحرة. وسيكون المرصد جهازًا تابعًا لرئاسة مفوضية الاتحاد الإفريقي، والذي يُعول عليه كثيرًا في رصد حركة التجارة الإفريقية البينية، وكذلك حركة التجارة الإفريقية مع الخارج وخاصة أوروبا، وبناء قواعد بيانات ومعلومات متكاملة عن مسارات التجارة. فقد عانت القارة الإفريقية طويلًا من مشكلات عدم توافر البيانات، والتي من المرجح أن تنتهي بإنشاء مرصد التجارة الإفريقي. ومن المخطط أن يتم الانتهاء من إنشاء هذا المرصد في غضون 56 شهرًا من توقيع مذكرات التفاهم، التي وُقعت في فبراير 2019، ضمن مشروع أوسع نطاقًا يدعمه الاتحاد الأوروبي بتمويل قيمته 50 مليون يورو، كجزء من الخطوات الممهدة لإنشاء منطقة للتجارة الحرة الأوروبية الإفريقية.
5- عقد القمة التنسيقية المصغرة
أعقب انتهاء القمة الاستثنائية الإفريقية عقد “قمة تنسيقية مصغرة”، يوم الاثنين 8 يوليو، ترأسها الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي”. وقد خُصصت القمة التنسيقية للنظر في قواعد الإجراءات ووثائق تقسيم العمل بين الاتحاد الإفريقي والمجموعات الاقتصادية الإفريقية الثماني، وهي: السادك SADC، والإكواس ECOWAS، والإيكاس ECCAS، وتجمع “دول الساحل والصحراء” (سين صاد)، والكوميسا COMESA، وتجمع شرق إفريقيا إياك، ومجموعة التنمية الإيجاد، واتحاد المغرب العربي. وقد هدفت القمة التنسيقية لوضع أطر للتكامل مع اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية من خلال طرح التكتلات الاقتصادية الإفريقية رؤيتها تجاه تنفيذ الاتفاقية القارية.
تحديات
في الوقت الذي يعلق فيه الكثير من الأفارقة الآمال على منطقة التجارة الحرة الإفريقية، لا تزال هناك العديد من التحديات التي يتعين تجاوزها من أجل الوصول إلى الفوائد المنتظرة من المنطقة. ونعرض فيما يلي لأهم هذه التحديات.
1- ضعف التجارة البينية الإفريقية
تُعد منطقة التجارة الإفريقية الحرة مشروعًا قاريًا رائدًا بكل ما يحمله من طموحات وتحديات، وما يفتحه من آفاق جديدة للتكامل والتنمية في ربوع القارة. وعلى الرغم من أن النمو في إفريقيا يتوقع أن يبلغ 3.6% في المتوسط في الفترة 2019-2020، مع وجود أسرع الاقتصادات نموًا في العالم في القارة، لا تزال إفريقيا تعتمد اعتمادًا كبيرًا في تجارتها على الخارج، حيث يمثل حجم التجارة البينية للدول الإفريقية نحو 17% فقط من إجمالي التجارة الإفريقية في عام 2017. وفي المقابل، تمثل التجارة البينية في أمريكا الشمالية 51%، 49% في آسيا، 22% في أمريكا اللاتينية، بينما تصل هذه النسبة في الاتحاد الأوروبي إلى 69%..
2- البنود العالقة في اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية
لا يُعد الإطلاق الرسمي لمنطقة التجارة الحرة الإفريقية نهاية الجهود التفاوضية الضرورية لتفعيل هذه الخطة المهمة، حيث سيتعين البدء سريعًا خلال العام الجاري في المرحلة الثانية من المفاوضات والتي تتضمن عددًا من البنود التفصيلية، مثل: حقوق الملكية الفكرية، وسياسة المنافسة، وبرتوكولات الاستثمار، فضلًا عن استكمال المرحلة الأولى من المفاوضات التي حسمت جزئيًا قضايا بروتوكولات التجارة في السلع وتجارة الخدمات، وتسوية المنازعات.
3- ضعف البنية التحتية في دول القارة الإفريقية
يمثل ضعف البنية التحتية أحد أهم التحديات التي تواجه منطقة التجارة الإفريقية، وبالتالي أصبح الارتقاء بشبكة البنية التحتية الإفريقية أمرًا ضروريًا لإنجاح الاتفاقية، وذلك لتسهيل انسياب حركة السلع والخدمات والاتصالات والبيانات والأفراد، مما يسهم في تخفيض تكلفة التجارة والاستثمار. ومن ثم، يتعين الإسراع في تنفيذ عدد من المبادرات الإفريقية التي سبق وأن أُعلن عنها لتجاوز مشكلات البنية التحتية من بينها برنامج تنمية البنية التحتية في إفريقيا PIDA، وتحالف ربط الطاقة الإفريقي والتنمية المستدامة بمراحله المختلفة، بالاضافة إلى مشروع “القاهرة-كيب تاون” للربط البري بين مختلف مناطق القارة.
4- تحديات فرض الأمن ومكافحة الإرهاب
بالإضافة للتحديات السابقة، تواجه القارة الإفريقية تحديًا أمنيًا يتعلق بانتشار الجماعات الإرهابية والحروب الأهلية، الأمر الذي يستوجب سرعة تنفيذ مبادرة “إسكات البنادق”، وطرح معادلة التنمية في مواجهة الإرهاب، فكلما تقدمت مسيرة التنمية تضاءلت فرص انتشار الحركات والتنظيمات الإرهابية.
وأخيرًا، فإن القمة الإفريقية الاستثنائية بالنيجر كانت حدثًا تاريخيًا في طريق التكامل الاقتصادي للقارة، حيث شهدت الإطلاق الرسمي لمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية. وأمام عدد كبير من التحديات التي تواجه دول القارة، يظل التحدي الأكبر في المرحلة المقبلة هو العمل على تطبيق ما تم الاتفاق عليه خلال هذه القمة لضمان الالتزام بخارطة طريق المفاوضات، فضلًا عن اتخاذ الإجراءات التشريعية والإدارية اللازمة على مستوى الدول ومستوى التنظيمات الإقليمية الفرعية لضمان الاتساق مع القواعد التي أرستها اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية.