عقد “مجلس حلف شمال الأطلنطي (الناتو)- روسيا” “NATO- Russia Council” اجتماعه في الخامس من شهر يوليو الجاري (2019) في بروكسل، لمناقشة ثلاث قضايا أساسية، هي: أوكرانيا، وتحديدًا الوضع الأمني في شرق أوكرانيا والتوترات عند بحر آزوف، ومصير معاهدة الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وأخيرًا إجراءات الشفافية للحد من المخاطر.
وفي نهاية الاجتماع، صرح الأمين العام لحلف الناتو “جينس ستولتنبرغ”، قائلًا: “لقد كانت مناقشتنا صريحة، ولكنها ضرورية. لدى الحلف وروسيا وجهات نظر مختلفة اختلافًا جذريًّا، لكننا ملتزمون بمواصلة حوارنا”. هذا التصريح يعني ضمنًا عدم التوافق بين الطرفين.
وواقع الأمر أن هذا الاجتماع قد انعقد في أجواء متوترة أمنيًّا بين روسيا والناتو بفعل اقتراب إلغاء معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى (معاهدة القوى النووية المتوسطة The Intermediate-Range Nuclear Forces Treaty- INF) الموقّعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في عام 1987، والتي تحظر تصنيع أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية أو مجنحة أو متوسطة، وتدمير كافة منظومات الصواريخ التي يتراوح مداها المتوسط بين 1000-5500 كلم، ومداها القصير ما بين 500-1000 كلم. فبعد انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة في فبراير 2019، وقّع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” مرسومًا فيدراليًّا لتعليق العمل بالمعاهدة في 3 يوليو الجاري. وأعطت الولايات المتحدة لروسيا مهلة حتى الثاني من أغسطس القادم، إما لرفع قرار التعليق، أو لتفعيل الانسحاب، ومن ثمّ إلغاء الاتفاقية. هذا الاحتمال الأخير هو ما يُثير القلق في أوروبا، وهو أيضًا ما دفع الناتو لمطالبة روسيا بتدمير صواريخها المنشورة في أوروبا من طراز 729-M9 /SSC-8 القادرة على حمل رؤوس نووية، ويمكنها استهداف مدن أوروبية “خلال دقائق” مع صعوبة رصدها.
وقد رفضت موسكو القيام بهذا المطلب، ما يعني أن الأمور تسير عمليًّا في اتجاه إلغاء الاتفاقية. وأمام هذا الاحتمال تُثار العديد من التساؤلات حول مدى استعداد العالم لأجواء الحرب الباردة، وإلى أي مدى يمكن أن تتصاعد العلاقات وتتوتر بين روسيا والناتو، وأخيرًا ماهية السياسات التي يمكن أن تتخذها روسيا وأوروبا إذا ما اكتمل إلغاء المعاهدة.
الردع المتبادل
في حوار لصحيفة “كوريير ديلا سيرا” الإيطالية، تزامنًا مع زيارة “بوتين” لإيطاليا، وقبل اجتماع روسيا بمجلس الناتو، أوضح الرئيس الروسي “بوتين” وجود إرادة سياسية لدى موسكو للاتفاق مع واشنطن في مجال الحد من التسلح، وأكد أن الأمر يتوقف على الولايات المتحدة؛ وأن التوصل إلى اتفاقات ملموسة في مجال الحد من التسلح من شأنه أن يعزز الاستقرار الدولي. وفي السياق ذاته، أكد “بوتين” ضرورة نبذ مفاهيم الحرب الباردة، والتخلي عن “الردع المتبادل”، وعن نظرية “الاحتواء” التي كانت تُطبق على الاتحاد السوفيتي. وقد تم تفسير هذه التصريحات داخل أروقة الناتو بأن روسيا قد تمتثل لمطالب الناتو. لكن مثل هذه التفسيرات قد تجاهلت وجود مؤشرات على توافر حالة من “الردع المتبادل” بين الناتو وروسيا، رغم فارق القوة العسكرية بين الطرفين، ومن أبرز هذه المؤشرات:
1- التكافؤ النسبي في تأثير القدرات العسكرية التقليدية وغير التقليدية. وغير التقليدية هنا لها معنيان؛ المعنى الأول هو القدرات النووية، فما زالت روسيا هي الدولة الأكثر امتلاكًا للرؤوس النووية (7500 رأس نووي)، تليها الولايات المتحدة (7200 رأس نووي). المعنى الثاني، هو القدرة العسكرية والتكنولوجية في المجال السيبراني والفضائي.
2- أن روسيا تمتلك قدرة واضحة في منظومات الدفاع الجوي المضادة للصواريخ، مثل S-300، S-400، Topol. وهذه المنظومة توفر مجالًا جويًّا آمنًا نسبيًّا لروسيا مقارنة بأوروبا التي تفتقد حاليًّا منظومات دفاعية فاعلة للصواريخ الروسية المنشورة في أوروبا.
3- الانتشار العسكري لروسيا في بعض المناطق الاستراتيجية المهمة للولايات المتحدة بالأساس، ولبعض الدول الأوروبية، مثل: الشرق الأوسط (الأسطول السادس في البحر المتوسط والوجود العسكري في سوريا)، والتواجد الكثيف في القطب الشمالي باعتباره منطقة واعدة ذات أهمية جيواستراتيجية، والتواجد على أطراف أوكرانيا مع دعم إقليمي الدونيستيك ولوهانسك بالمخالفة لاتفاقيات مينسك، ومؤخرًا الدعم القوي لنظام “مادورو” في فنزويلا، والإعلان عن إمكانية التدخل عسكريًّا هناك. مثل هذا الانتشار لم يكن قائمًا أو محتملًا قبل عام 2014 مع بدايات التحدي الروسي للمصالح الأمريكية.
4- المناورات الروسية المتزامنة مع تدريبات الناتو في البحر الأسود ومنطقة القوقاز، والتي أصبحت سلوكًا متكررًا من جانب روسيا. فقد تكررت هذه المناورات مرتين في غضون ثلاثة أشهر، أحدثها المناورات البحرية الحالية التي استمرت حتى 12 يوليو (Sea Breeze) والتي شاركت فيها الولايات المتحدة مع أكثر من 12 دولة أوروبية. وردًّا على هذه المناورات أعلنت المنطقة العسكرية الجنوبية الروسية أن الجيش الروسي بدأ في إجراء مناورات عسكرية في البحر الأسود، وأغلق الجزء الجنوبي من البحر الأسود، بالإضافة لعمليات إطلاق صواريخ مضادة للأهداف الجوية وقذائف مدفعية في المرحلة النهائية للمناورات. وقد أكدت روسيا أنها عازمة على تنفيذ حزمة متكاملة من التدابير لمراقبة أنشطة سفن الناتو في القسم الشمالي والغربي من البحر الأسود. ورغم أن عدم الثقة بين روسيا والناتو يُعد سببًا جوهريًّا لهذه الحالة من الحذر والترقب، فإن الردع المتبادل أيضًا سبب يدفع روسيا لاستعراض القدرة العسكرية بهذا الحجم وهذا التوقيت.
خطورة إلغاء معاهدة القوى النووية المتوسطة INF
لقد أجبرت هذه المعاهدة التاريخية طرفيها على الحد من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى الموقعة منذ عام 1987 للمرة الأولى، ومن ثم خفض ترسانتيهما. وبالرغم من أن معاهدات أخرى قد أُبرمت من قبل، مثل اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية “سالت-1″ في 1972، و”سالت-2” في عام 1979 للحد من القاذفات الجديدة للصواريخ الباليستية؛ فإن القوتين تعهدتا للمرة الأولى بتدمير فئة كاملة من الصواريخ النووية في معاهدة الحد من الصواريخ النووية متوسطة المدى.
وبموجب المعاهدة، تعهد الطرفان بتدمير الصواريخ التي يتراوح مداها بين 500-5500 كلم خلال السنوات الثلاث التالية لدخول المعاهدة حيز التنفيذ. وقد أسفر تطبيق المعاهدة عن تدمير الاتحاد السوفيتي 1792 صاروخًا باليستيًّا وصاروخًا مجنحًا أرضيًّا، ودمرت الولايات المتحدة 859 صاروخًا باليستيًّا ومجنحًا أيضًا، وانخفضت الصواريخ المنشورة في أوروبا من 60 ألف صاروخ إلى 15 ألف صاروخ فقط.
خطورة الإلغاء النهائي للمعاهدة تكمن في بدء منافسة جديدة بين روسيا والولايات المتحدة في مجال التسلح التقليدي وغير التقليدي أيضًا، هذا إلى جانب تهديد اتفاقية “Start” حول الحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية التي سينتهي مفعولها في عام 2121. أضف إلى ذلك تحويل أوروبا إلى بيئة مهددة أمنيًّا، بالنظر إلى ما تُمثله من مسرح أساسي لهذا التنافس، والأكثر تهديدًا بنشر الصواريخ الروسية المعنية، ولذا فإنها (أوروبا) تتوافق تمامًا مع الولايات المتحدة -سواء عن اقتناع أو عن اضطرار- بأن روسيا هي المسئولة عن انهيار هذا الاتفاق.
المعاهدة لم تكن محددة المدة، وتنص على حق كل طرف في الانسحاب منها بعد تقديم أدلة مقنعة. واستنادًا إلى هذا النص، انسحبت الولايات المتحدة من المعاهدة بزعم انتهاك روسيا للمعاهدة ونشر صواريخ SS-20 المتطورة التي يصل مداها إلى 5000 كلم والتي يمكن أن تستهدف مدنًا في غرب أوروبا.
وتدرك روسيا والناتو خطورة إلغاء هذه المعاهدة، لكن الوصول إلى توافق يبدو أمرًا مستبعدًا. ولم تقتنع دول الناتو بمبررات روسيا، وتصر على أن تمتثل روسيا لتدمير هذه الصواريخ، باعتبار ذلك هو السبيل الوحيد لإنقاذ المعاهدة من الانهيار. أما روسيا فإنها تعتبر نفسها في حالة دفاع أمام ما قام به الناتو من نشر وحدات الدرع الصاروخي في رومانيا، وما يشرع في بنائه من وحدات في بولندا، ذلك أن منظومة الدرع الصاروخي تكتمل في عام 2020 لتشتمل على 700 منصة بحرية، و200 منصة جوية، و50 منصة برية، ويتجاوز مداها 500 كلم، أي يمكنها تهديد روسيا بما تحمله من صواريخ توماهوك الهجومية. ويضيف الخبراء الروس أن هذه الصواريخ يمكن استبدالها سريعًا بمنظومة الدفاع الجوي المضاد للصواريخ الأمريكية Thad، وهذا يعني حرمان روسيا من القدرة على الردع، أي حرمانها من القدرة على توجيه ضربة مضادة إذا ما تعرضت للهجوم من أي من المنصات القريبة منها. أضف إلى ذلك قدرة منظومة الدرع الصاروخي على استهداف الأقمار الصناعية الروسية، وهذا يعني أن أهدافها ليست دفاعية تمامًا كما يزعم الناتو.
من ناحية أخرى، فإن روسيا تعتبر أن الولايات المتحدة غير حريصة بما يكفي على استقرار العلاقات بينهما. وتدلل على ذلك بعدد من الأمور؛ أولها، أن الولايات المتحدة تعزز وجودها العسكري في بولندا؛ إذ أرسلت لها سرب طائرات استطلاع مسيرة من طراز MQ-9، وتزيد من تعاونها الدفاعي معها بما يمكنها من نشر قوات ومعدات عسكرية أمريكية بعد أن تهيئ بولندا البنية التحتية -بتسهيلات أمريكية- لهذا النشر. واعتبرت روسيا أن هذا التعزيز هو جزء من الاستراتيجية التي أصدرتها وزارة الدفاع الأمريكية حول “الاستخدام الديناميكي للقوات” للإبقاء على الخصوم في حالة ارتباك عبر تحركات غير متوقعة. الأمر الثاني، هو إصدار الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية “استراتيجية لمواجهة التأثير الخبيث للكرملين”، والتي ترى موسكو أنها تهدف إلى بث كراهية الروس في العالم، ولا سيما في الدول المجاورة لها. واعتبرت الخارجية الروسية أن كل هذا هدفه إجبار أوروبا على شراء الغاز الأمريكي المسال باهظ الثمن، ورغم أن روسيا تُقر بوجود إمكانية للتفاهم مع الرئيس الأمريكي “ترامب”؛ فهي تعتبر مثل هذه الأمور معيقة لأي تطور إيجابي محتمل في العلاقات بين الدولتين.
وهذا يعني أن هناك اختلافًا جذريًّا في رؤية الطرفين للموقف من المعاهدة INF؛ ففي حين ترى الولايات المتحدة وبقية دول الناتو أن روسيا انتهكت المعاهدة، وأنها تمثل تهديدًا أمنيًّا كبيرًا لهم، ترى روسيا أنها قامت برد الفعل إزاء انتهاكاتهم للمعاهدة، بدءًا من نشرهم منظومة الدرع الصاروخي في مجالها الحيوي. ومثل هذا الاختلاف يشير إلى أن الاحتمال الأقرب هو إلغاء المعاهدة تمامًا. وجدير بالذكر أن الناتو لم يقدم لروسيا في الاجتماع المذكور ما يقنعها أو يرغمها على الامتثال لمطلبه.
ماذا إذا أُلغيت المعاهدة؟
أعلن الناتو أنه يدرس الخيارات الممكنة استعدادًا لانتهاء المعاهدة في المستقبل القريب. وفي الواقع فإن الناتو سيكون مضطرًا لاتخاذ إجراءين ضرورين إذا ما أُلغيت المعاهدة:
الأول: ضرورة تحديث المنظومات الدفاعية بما يجعلها قادرة على إسقاط الصواريخ النووية متوسطة المدى التي تم نشرها حديثًا من قبَل روسيا بعد انتهاء معاهدة الأسلحة التاريخية الشهر المقبل، وهذا الأمر ليس بسيطًا لأن أي تغيير في المهمة المعلنة لنظام الدفاع الصاروخي الحالي لحلف الناتو، الذي يستهدف التهديدات من خارج المنطقة مثل إيران، من شأنه أن يقسم الدول الأعضاء في الحلف ويُغضب روسيا التي طالما قالت إنها تنظر إلى موقع الدفاع الصاروخي للناتو في رومانيا وآخر تحت التشييد في بولندا، على أنه تهديد لترسانتها النووية، ومصدر لعدم الاستقرار في أوروبا. ولا يقلل من ذلك عزم الناتو عدم نشر صواريخ نووية في أوروبا. ويؤكد هذا “جيم تاونسيند”، المسئول السابق في وزارة الدفاع الأمريكية والخبير في التحالف العسكري، حيث يقول: “ستكون نقطة اللا عودة مع الروس، سيكون هناك تصعيد حقيقي”.
الثاني: زيادة الاعتماد على الولايات المتحدة للاستفادة من قدراتها العسكرية. وفي أول المؤشرات على ذلك أعلن الناتو في اجتماع وزراء الدفاع لأعضائه أنه تتم دراسة زيادة الطلعات الجوية التي تقوم بها مقاتلات أمريكية قادرة على حمل رؤوس نووية فوق أوروبا، وزيادة التدريب العسكري، وإعادة توجيه الصواريخ الأمريكية المنشورة في البحر. وهذا الاعتماد المتزايد يقلص مساحة استقلالية السياسات الأوروبية عن الولايات المتحدة، وسيكون على أوروبا حينها تحمل تبعات هذا الاعتماد اقتصاديًّا وعسكريًّا، خاصةً إذا ما استمر “ترامب” في رئاسة الولايات المتحدة لفترة جديدة.
ومع هذه الإجراءات الأوروبية يمكن توقع المزيد من الضغوط الغربية الدافعة لعقد معاهدة جديدة تضم دول النادي النووي، بما فيها الصين، كما تهدف الولايات المتحدة من البداية. ولا يعني هذا نجاح هذه الضغوط بالضرورة، بل ربما يكون استمرار التوتر هو السمة الأغلب على العلاقات الروسية مع دول الناتو، وربما تكون الميادين غير المباشرة هي الساحات الأساسية للمواجهات بين الطرفين، سواء الفضاء السيبراني، أو الأنماط الجديدة من الحروب بالوكالة!