حملت قمة “مراجعة الأمن الإقليمي” في إسرائيل (25 يونيو 2019) التي ترأّسها رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، وحضرها مستشارو الأمن القومي؛ الإسرائيلي “مِئير بن شبات”، والأمريكي “جون بولتون”، ونظيره الروسي “نيكولاي باتروشيف”؛ رسائل خلافية ومواقف متضاربة بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، حول مستقبل التواجد العسكري لإيران في سوريا. إذ اتفقت واشنطن وتل أبيب على ضرورة انسحاب القوات الإيرانية من سوريا، بالنظر إلى ما تمثله من تهديد على الأمن القومي الإسرائيلي، بينما عارضتهما موسكو بتأكيدها (ولأول مرة منذ التدخل الروسي والإيراني في سوريا) “أن إيران حليف وشريك راسخ لموسكو في مكافحة الإرهاب واستتباب الوضع في سوريا”، وهو ما فُهِمَ بأن موسكو ترفض مخرجات القمة، وترتيبات الولايات المتحدة في إخراج العناصر الإيرانية من سوريا.
لكن يبدو أن خلافات القمة ظلت في حدودها اللفظية، حتى تبين ما استتر وراء هذه القمة من خلال الضربات الجوية الإسرائيلية المتلاحقة جنوبي سوريا على 12 موقعًا تابعًا لإيران و”حزب الله”، وهو ما يحمل دلالات عديدة، سواء في مستوى التنسيق الإقليمي بين روسيا وإسرائيل في سوريا، أو مستوى التوتر بين روسيا وإيران.
ولكن يُفهم من قراءة مخرجات القمة في إسرائيل، سواء في حدودها اللفظية، أو الميدانية بعد ذلك، أن الجبهة الشمالية الممتدة بين سوريا ولبنان، وبالأخص تنظيم “حزب الله” اللبناني، تظلان هما المهدد الأول للأمن القومي الإسرائيلي. لذا ارتكزت نشاطات الجيش الإسرائيلي لمواجهة هذا التهديد في المنطقة على محورين أساسيين؛ المحور الأول، هو ضرب الأنفاق الأرضية المملوكة لحزب الله في الشمال والممتدة إلى داخل الأراضي الإسرائيلية شمالًا. وهو ما يمكن الإشارة إليه بعد إطلاق تل أبيب عملية “درع الشمال” التي استهدفت ضرب أنفاق “حزب الله” (ديسمبر 2018)، بعد أن أثبتت التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية وصول شحنات عسكرية إيرانية تعزز من كفاءة صواريخ “حزب الله” (سبتمبر، وأكتوبر، ونوفمبر 2018). المحور الثاني، هو إحباط محاولات نقل الصواريخ والتقنية الإيرانية الدقيقة إلى “حزب الله” في لبنان، وضرب المنشآت الحيوية التابعة لحزب الله في سوريا.
وانتقالًا من تفاصيل الساحة بين إسرائيل و”حزب الله” على الحدود اللبنانية، مرورًا بالسياق الإقليمي في سوريا وحدود الدور الروسي في هذا السياق، وانتهاءً بشكل العلاقة بين إسرائيل و”حزب الله”؛ يظل السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تندلع هذه الحرب؟ وما هي الدوافع والأهداف التي تحكم تحرك الطرفين؟
اختبار إسرائيلي متواصل وتحركات استفزازية
شنّت إسرائيل غاراتها الجوية في سوريا (17 مايو 2019) على مواقع إيرانية وأخرى تابعة لتنظيم “حزب الله” في منطقة الكسوة، وهدفت تلك الغارات التي لم يُعلن الجيش الإسرائيلي مسئوليته عنها إلى “اختبار” كفاءة منظومة الدفاع الجوي السورية. وتكرر الاختبار مرةً أخرى بعد أن اخترقت طائرة إسرائيلية المجال الجوي السوري، تبع ذلك استنفار منصة دفاع جوي سورية في القنيطرة لضرب الطائرة الإسرائيلية، لكن انتهت المناورة الإسرائيلية بقصف منصة الصواريخ السورية، وأسفر ذلك عن مقتل عسكري وإصابة آخر. ويبدو أن التكتيك الإسرائيلي في التحرك شمالًا، أي على الحدود السورية، هو اختبار قدرة أطراف الصراع على الرد.
وقد انسحب هذا التكتيك على الساحة اللبنانية، أي في مواجهة تنظيم “حزب الله”، لكنه أخذ نمطين مختلفين: النمط الأول، نمط سيكولوجي، في شكل استدعاء حادثة اغتيال القيادي في “حزب الله” “سمير قنطار” (الذي اغتيل في ديسمبر 2015)، والكشف عن سر اغتياله من قبل سلاح الجو الإسرائيلي بتنسيق مع الاستخبارات العسكرية “آمان”، وبمساعدة من المعارضة السورية. علمًا بأن إسرائيل لم تتبنَّ حادثة الاغتيال في حينها. النمط الثاني، هو نمط عسكري، إذ استأنف الجيش الإسرائيلي عملية “درع الشمال” بالقرب من الحدود اللبنانية؛ وأعلن عن كشفه نفقًا جديدًا على عمق 80 مترًا تحت سطح الأرض، وهو الأعمق والأطول والأكثر تجهيزًا بين الأنفاق الأخرى.
كما تلعب الشركات الاستخباراتية في إسرائيل دورًا في الكشف عن الممرات البرية السرية الواصلة بين سوريا ولبنان، إذ كشفت شركة ISI الإسرائيلية عن ممر حدودي جديد يربط بين مدينة بوكمال السورية ومدينة القائم العراقية؛ ليشكل ممرًّا بريًّا جديدًا باتجاه لبنان على مسافة 2.6 كيلومتر.
وسمحت إسرائيل بنشر هذه الوثائق في الصحف الإسرائيلية والوكالات الأجنبية، لمنحها مبررًا أمنيًّا لعملية عسكرية إسرائيلية محتملة في مواجهة “حزب الله” وإيران في سوريا؛ وبهدف قياس رد فعل تنظيم “حزب الله”.
ردع إسرائيلي وضبط نفس من جانب “حزب الله”
يظل الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي في لبنان في مواجهة “حزب الله” قائمًا على ثلاثة مرتكزات. الأول، هو الحفاظ على سياسة الردع، من خلال استمرار الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية المتمثلة في الاعتماد على “العمليات العسكرية المحدودة” التي تؤتي أهدافها دون الحاجة إلى القيام بحرب شاملة. المرتكز الثاني، هو محاولة تحجيم الارتباط اللوجستي بين “حزب الله” وإيران في المنطقة من خلال تطويق التنظيم عبر حظر المنطقة الشرقية باتجاه سوريا بواسطة ضرب الممرات البرية التي تصل من خلالها التقنيات العسكرية الإيرانية إلى “حزب الله”. وكذا حظر المنطقة الحدودية الجنوبية المشاطِئة لإسرائيل بواسطة تدمير الأنفاق الأرضية. المرتكز الثالث، هو تعميق الارتباط السياسي بين “حزب الله” والحكومة اللبنانية، في ضوء التزام التنظيم بأهداف وتحركات بيروت السياسية والاقتصادية والأمنية. ويعني ذلك أن إسرائيل لا تقلق كثيرًا من تحول الحكومة اللبنانية إلى منصة سياسية لتنظيم “حزب الله”، إذ يحمل التنظيم أربع حقائب وزارية داخل الحكومة، ويسعى للحفاظ على استحقاقاته السياسية، وهو ما تبينت أهم ملامحه في “الموافقة الضمنية” لتنظيم “حزب الله” على المبادرة الأمريكية للوساطة في حل أزمة ترسيم الحدود البرية والبحرية بين إسرائيل ولبنان؛ حيث لم يطلق أمين عام التنظيم “حسن نصر الله” أي خطابات سياسية معادية للمبادرة، وإنما اكتفى بتصريح أن “المقاومة تدعم موقف الدولة في موضوع ترسيم الحدود”.
لكن لا يعني ذلك أن “حزب الله” قد رضخ للاستراتيجيات الإسرائيلية حوله، إذ ينتهج الحزب استراتيجية هادئة لبناء قوته المترهلة من جديد عبر مسارات متعددة، أو بهدف تحين الظروف الملائمة لإعلان الحرب، وهو ما يظهر في التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية المتلاحقة خلال الفترة بين مارس 2019 إلى مايو 2019، والتي انتهت إلى عدد من الملاحظات المهمة، أبرزها ما يلي:
1- تموضع عسكري بري “هادئ” لحزب الله على حدود إسرائيل الشمالية (سوريا ولبنان)؛ إذ لوحظ وجود عناصر من “حزب الله” ترتدي الزي العسكري الرسمي للجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل. كما تتمركز قيادات وعناصر تابعة للحزب على نقاط حدودية بهدف مراقبة نشاط الجيش الإسرائيلي. وبحسب تصريحات “إلعاد أفراتي”، قائد الفوج الشمالي الإسرائيلي الذي يشمل الكتيبة 9 و401 مدرعات، فإن “هناك نقاط مراقبة ومراكز قيادة لحزب الله تنشط على مدار الـ24 ساعة، وفي حالة الطوارئ ستتحول المنطقة الجنوبية في لبنان إلى مجمع عسكري لحزب الله”.
أما على الجبهة السورية، فقد نجح “حزب الله” في تدشين قوة قتالية جديدة قبالة هضبة الجولان تسمى “ملف الجولان”، من بين مهامها استهداف مواقع إسرائيلية في الجولان بالصواريخ، وضم المناطق الحدودية في سوريا ولبنان ضمن جبهة قتالية واحدة في مواجهة إسرائيل.
2- سد الفجوة التمويلية بسبب العقوبات الاقتصادية على إيران؛ ففي أبريل 2016، أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية جمعية “مؤسسة القرض الحسن” المحسوبة على تنظيم “حزب الله” ضمن قائمة العقوبات الاقتصادية، لكن الخطوة الأمريكية لم تمنع الزيادة الكبيرة المستمرة في حجم نشاط “القرض الحسن”، فبحسب تقرير صادر عن مركز التراث والاستخبارات الإسرائيلي (مايو 2019)؛ ففي السنوات التي أعقبت فرض العقوبات، قفزت ميزانية الجمعية من 371 مليون دولار أمريكي في 2016، إلى 476 مليون دولار في 2018. كما أن حجم القروض التي تمنحها الجمعية زاد من 159 مليون دولار في 2016، إلى 197 مليون دولار في 2018.
ويعني ذلك عدم قدرة العقوبات الأمريكية على الإضرار بالوضع المالي لتنظيم “حزب الله” في الداخل، أما تدهور بند المرتبات في موازنة التنظيم؛ فيعزى ذلك في المقام الأول إلى زيادة النفقات جراء مشاركته المستمرة في القتال في سوريا، والحاجة إلى تخصيص الأموال لرعاية المصابين وعائلات الذين سقطوا في سوريا، فيما يأتي أخيرًا تضاؤل التمويل الإيراني.
سيناريوهات الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل
رغم أن إسرائيل و”حزب الله” لم يشتركا في حرب شاملة منذ عام 2006، إلا أن احتمال حدوث تصعيد بين الطرفين يمثل تحديًا مستمرًّا داخل دوائر صنع القرار في تل أبيب، سيما وأن إسرائيل لن تكفّ عن المخاطرة باستهداف مواقع “حزب الله” والأهداف الإيرانية في سوريا. لذا هناك سيناريوهان قد يَصِفان المشهد السياسي والأمني على الساحة الشمالية بين إسرائيل و”حزب الله”.
السيناريو الأول- سيناريو “المواجهة الشاملة”: ففي ظل تصاعد الحرب الكلامية بين أمين عام تنظيم حزب الله “حسن نصر الله” وقادة الجيش الإسرائيلي، وتأرجح الأزمة الإيرانية-الأمريكية، قد يسمح ذلك بتحويل إيران شمالَ إسرائيل إلى مسرح أزمة، وقاعدة أمامية لعملياتها العسكرية، وستشمل هذه القاعدة المناطق الجنوبية لسوريا ولبنان، وقد تنضم إليها قاعدة إيران في جنوب العراق (الصواريخ متوسطة المدى).
ويمكن النظر هنا إلى عامل الجهوزية السياسية والعسكرية؛ ففي الحالة اللبنانية، ورغم حِدّة الخطاب السياسي لـ”حسن نصر الله”، إلا أنه يُلاحظ نفي “نصر الله” النية في المبادرة بالحرب مع إسرائيل، حيث قال: “إذا اعتزمت إسرائيل الحرب فسنبيد كتائبها بالبث الحي”. ويعود ذلك إلى عاملين: تراجع فائض القوة الذي تميز به التنظيم في السابق بسبب تورطه في الساحة السورية، فضلًا عن إدراكه حالة الانقسام اللبناني الداخلي بشأن الحزب، ما يفرض على الحزب الالتزام بما تقرره الدوائر السياسية والأمنية في بيروت. لذا يمكن وصف الخطاب السياسي لـ”حسن نصر الله” بـ”التنفيس السياسي” الذي يستهدف استعادة المكانة الشعبية في الداخل اللبناني الذي يتزامن مع مؤتمرات تستهدف مقاومة المبادرة الأمريكية (صفقة القرن).
أما في داخل إسرائيل، فيتسم المشهد السياسي بالشلل نتيجة تعثر “نتنياهو” في تشكيل حكومة ائتلافية، والاستعداد لإجراء انتخابات عامة جديدة في منتصف شهر سبتمبر 2019. كما يتصاعد التوتر في قطاع غزة، ما قد يُنذر بإطلاق عملية عسكرية جديدة هناك، وبالتالي لا يفضل الجيش الإسرائيلي الدخول في حرب على جبهتين متقابلتين، وتفعيل “سياسة الأراضي المحروقة” وهي السياسة العسكرية التي اتبعتها إسرائيل ضد لبنان في 2006، وهي تدمير كامل الأراضي والبنى التحتية العسكرية والمدنية.
السيناريو الثاني- تجنب الطرفين المواجهة العسكرية: وذلك في ظل استمرار “حزب الله” في بناء قدراته العسكرية والمالية، واستمرار العمليات العسكرية المحدودة للجيش الإسرائيلي ضد الأهداف التابعة لإيران و”حزب الله” في سوريا على الحدود الجنوبية اللبنانية.
ويظهر هذا السيناريو جليًّا في التطور الأخير في الجولان (1 يونيو 2019)، عندما تم إطلاق صواريخ من سوريا على إسرائيل (منطقة الجولان) في سياق تفاصيل جديدة، شملت عدم تبني فصيل محدد مسئوليته عن العملية (مع ميل أن يكون المسئول هو “حزب الله”)، وعدم استخدام صواريخ دقيقة وسقوطها في منطقة غير مأهولة، وهو ما يعني أن العملية جاءت في حدود الردع، وليست بهدف التصعيد. وجاء الرد الإسرائيلي كرسالة لرفض هذه الحدود.
كما تلعب روسيا دورًا مهمًّا في “تصفير” احتمالات التصعيد بين “حزب الله” وإسرائيل في سوريا، حيث أفادت تقارير بطلب موسكو من قادة “حزب الله” (قبل الضربات الإسرائيلية في الأول من يوليو) ضرورة ترك مواقعهم جنوبي سوريا، والاتجاه صوب منطقة الزبداني، حيث أقصى غرب سوريا، وهو ما يحمل عددًا من الدوافع. أولها: التنسيق الروسي-الإسرائيلي بإبعاد عناصر “حزب الله” عن شمال إسرائيل، والاتجاه بهم بعيدًا حيث المناطق الحدودية مع لبنان غربي سوريا، وهو ما اتضحت تبعاته المتلاحقة بإعلان “حسن نصر الله” تقليص وجود التنظيم في سوريا. وثانيها: الحيلولة دون وقوع خسائر بين عناصر “حزب الله” جراء الضربات الإسرائيلية، وبالتالي تصاعد حدة التوتر بين الطرفين ونشوب حرب.
وفي المقابل، تسعى إسرائيل إلى بناء خطط عسكرية جديدة تتماشى مع استراتيجية الأمن القومي الجديدة الصادرة في أبريل 2018، والتي تهدف إلى بناء قدرات برية من أجل المناورة والسيطرة على الأرض، وإقامة مجموعات عسكرية مشتركة تضم سلاح الجوية، والمدرعات، والاستخبارات، مع ضمان جودة التنسيق العملياتي في ساحة المعركة؛ لتنفيذ عملية عسكرية حاسمة.
لذا يمكن القول إنه من الصعب ترجيح سيناريو المواجهة الشاملة بين “حزب الله” وإسرائيل، على الأقل على المدى القريب، وذلك لتفضيل الطرفين بناء قدرتهما العسكرية في الوقت الحالي. كما أن الارتباط السياسي الواقع بين “حزب الله” والدولة اللبنانية المثقلة بالتحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية لن يسمح بأن تصبح بيروت منصة صواريخ في مواجهة إسرائيل، ما سيحد من تورط “حزب الله” في مواجهة مع إسرائيل.
كذلك، فإن المشهد السياسي في إسرائيل لا يسمح بالنظر إلى الجبهة الشمالية بقدر تركيز بعض الأطراف المحسوبة على الساحة السياسية والأمنية على الجبهة الجنوبية (قطاع غزة)، سيما وأن هيئة الأركان الإسرائيلية تدرك أن أي تطور جديد على الجبهة الشمالية يقابله تهديد من الناحية الجنوبية، يعززه استمرار تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة.
وأخيرًا، يأتي الدور الروسي الملحوظ في تطويق التوتر بين إسرائيل و”حزب الله” والإبقاء عليه في أضيق حدود ممكنة، خاصة بعد أن أدركت موسكو أن “حسن نصر الله” ينوي نقل ذلك التوتر إلى الساحة الروسية وهو أمر غير مقبول لدى الطرف الروسي.