شكّلت دعوة مجلس النواب المصري واللجنة الوطنية المكلفة بمتابعة الملف الليبي، لأعضاء البرلمان الليبي لزيارة القاهرة، تحولًا كبيرًا في مسار الأزمة الليبية التي جاوزت عامها التاسع؛ إذ مثلت هذه الدعوة خروجًا على التقليد الدولي الذي اعتاد المراهنة على فاعلين لا يمثلون بالضرورة قطاعًا واسعًا من الشعب الليبي، مقابل استهداف قوى ممثِّلة لمكونات بعينها أو قطاعات محدودة في الداخل الليبي. ومنذ اندلاع الأزمة الليبية، لعبت القاهرة دورًا محوريًّا في تقديم الدعم اللا محدود للشعب الليبي وممثليه في الحكومات والكيانات الدستورية المتعاقبة. كما شاركت مصر في كافة جولات الحوار ومبادرات الحل التي جرى تقديمها، سواء منها أو بشراكة مع دول إقليمية أو منظمات أممية.
وقد ظلت الجهود الأممية والدولية دون مستوى تطلعات الشعب الليبي، ولم تقدم أي مسار حقيقي قادر على احتواء الأزمة والحد من التصعيد الجاري بين المكونات الداخلية، وتردي الوضع الاقتصادي والأمني بالتبعية لتعطل وتعدد هذه المسارات. واستشعرت مصر وجود ضرورة مُلحة لاستكمال جهودها وإيجاد مسار أكثر فعالية، قادر على التعاطي مع الأزمة، يضمن تمثيل كافة القوى الليبية. وكان البرلمان الليبي المنتخب منذ عام 2014 هو الكيان القادر على تقديم هذا المسار المنشود؛ لذا مثلت دعوة مصر للبرلمان لزيارة القاهرة نقطة تحول مهمة. وفيما يلي نناقش دوافع الدعوة المصرية للبرلمان الليبي لزيارة القاهرة، وأبرز الملفات التي جرى مناقشتها أثناء الزيارة، بالإضافة إلى ما تم التوصل إليه.
عودة حاسمة وتوقيت دقيق
تمثل الدعوة المصرية عودة متسقة مع الحاجة المُلحة إلى اتخاذ خطوات إيجابية لتعديل الإطار الدستوري (الإعلان الدستوري المؤقت)، حيث نتج عن المسارات المستندة إلى أسس غير دستورية، وتجاهل الضوابط التي تمت صياغتها عبر فترات كانت تتمتع بحالة من الاحتكام إلى المؤسسات الشرعية وعلى رأسها البرلمان الليبي المنتخب، جمود العملية السياسية في ليبيا. فقد اعتمد المبعوث الأممي “غسان سلامة” مسارًا تجاهل المبادرات الإقليمية والدولية، واعتمد على رؤية لحل الصراع بمعزل عن الأطر الدستورية، ما أثر على فعالية دور البرلمان الليبي المنتخب، وعطل كافة المسارات التوافقية التي كان من الممكن أن تنجح بدرجات أكبر. وكانت الأزمة الأكبر فيما خلفه اتفاق “الصخيرات” من انقسام أكبر بين المكونات الليبية بشقيها السياسي والعسكري؛ حيث أصبح هناك حكومة الوفاق بطرابلس التابعة للمجلس الرئاسي، وأخرى مؤقتة تابعة للبرلمان الليبي. أضف إلى ذلك عدم التزام حكومة الوفاق بتعديلات المادة (8) المتعلقة بتوحيد المؤسسة العسكرية وفقًا لتعديلات الاتفاق السياسي؛ ما أنتج حالة من ازدواجية الاختصاص والتنازع المسلح بين الجيش الوطني الليبي والقوات التابعة لحكومة الوفاق بالمدن الغربية.
في هذا السياق، فإن دعوة البرلمان الليبي لزيارة القاهرة هي بالأساس دعم للمكون الشرعي المنتخب الوحيد بالبلاد، وتأكيد على حتمية التوحد خلف المسارات السياسية التي يتمثل بها كافة المكونات الليبية، وعدم الاكتفاء بإدارة قنوات اتصال مع قوى سياسية محدودة الامتداد والتأثير على مسرح الأحداث، ورفض التعاطي مع الأزمة الليبية كأزمة مناطقية يمكن فيها إدارة المشهد بالحوار بين قوى الأقاليم الثلاثة كل على حدة؛ إذ تمثل هذه الاستراتيجية خطرًا كبيرًا على وحدة الدولة الليبية الوطنية.
وكانت استجابة البرلمان الليبي على قدر الحدث، حيث استجاب للدعوة أكثر من 70 نائبًا، يمثلون كافة المدن الليبية بالشرق والغرب والجنوب، ما كشف عن قدرة الأعضاء بالمجلس على تنحية الأبعاد الجهوية والمناطقية، والاضطلاع بالمسئولية الوطنية دون النظر إلى أي مصالح جانبية. وجاءت هذه الاستجابة في توقيت دقيق؛ حيث تتصاعد حدة المعارك حول العاصمة، ودخول عدد من القوى الإقليمية على خط الأزمة بشكل مباشر، كالتدخل التركي والقطري في دعم المجموعات المسلحة في طرابلس. بالإضافة إلى تنامي خطر تنظيمي “داعش” و”القاعدة” بعدد من مدن الجنوب، واستثمارهما الصراع الدائر بين المكونات الأمنية لبسط نفوذهما وترويع المواطنين في عدد من المناطق.
ملفات متعددة وواقع مُعقد
هناك قائمة مهمة من الملفات الليبية، يكشف بعضها عن حالة من التوافق بين الفاعلين الداخليين على الساحة الليبية، بينما يكشف بعضها الآخر عن حالة من التباين. ويأتي على رأس هذه الملفات “الملف الأمني”، حيث يتفق كل الفاعلين تقريبًا على أهمية توحيد المؤسسة العسكرية، إلا أن الإشكالية المهمة هنا تتعلق برغبة الغرب الليبي في دمج وتمكين المجموعات المسلحة غير النظامية داخل الكيانات العسكرية والأمنية القادمة. وقد بدأت بالفعل حكومة الوفاق في اعتماد مجموعات من الميليشيات لديها في وزارة الداخلية والقوات الخاصة والمنطقة العسكرية الوسطى التابعة لها، فيما ترفض القيادة العامة للجيش وعدد من نواب البرلمان هذا الطرح، خاصة إذا ما حافظت هذه المجموعات على ولاءاتها ومصالحها المتجاوزة للعقيدة الوطنية، بالإضافة إلى أن هذه المجموعات تضم عددًا من العناصر الإرهابية والإجرامية التي تلاحقها القوات الأمنية بالشرق.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن سيطرة حكومة الوفاق في طرابلس على أنشطة شركة النفط الليبية وانفرادها بالتصرف في عوائدها قد خلق حالة من الاحتقان داخل باقي المدن؛ إذ ترفض سياسات حكومة الوفاق إدارة النفط الليبي وفقًا لأهداف المجلس الرئاسي، وتهدر حجمًا كبيرًا من أموال النفط على المجموعات المسلحة وغيرها من أوجه الإنفاق المرتبطة بالصراع العسكري، دون توظيفها بشكل عادل يخدم على قدم المساواة باقي المناطق الليبية. وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن أزمة النازحين بالداخل والمهاجرين غير الشرعيين هي أحد الملفات المعقدة لدى السياسيين الليبيين؛ حيث تدير حكومة الوفاق والمجموعات المسلحة في مدينة مصراتة تلك القضية بشكل يضمن لها توثيق علاقاتها مع بعض العواصم الأوروبية، وتوظيف المهاجرين بالصراع والمعارك الدائرة دون النظر إلى تداعيات هذه السياسات على تكوين وطبيعة الدولة الليبية في المستقبل. أضف إلى ذلك إشكالية التهجير ببعض المناطق لاختلاف توجهاتها السياسية، كأزمة تاجوراء.
وانطلاقًا مما سبق، استهدف مؤتمر البرلمان الليبي بالقاهرة طرح ملفات الأزمة الليبية بشكل صريح، وإدارة حوار بنّاء للوصول إلى مسار يضمن الخروج منها إلى بدء تفعيل مسارات الحل السلمي للأزمة. وبرز في هذا الإطار ملفات النازحين الليبيين، والهجرة غير الشرعية، وتأثير الصراع الداخلي على الاقتصاد الليبي والكلفة المادية والبشرية للصراع، وتقييم المسارات الأممية والدولية السابقة وأسباب فشلها. كما ناقش المشاركون مشكلة تدفق السلاح، وكيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى انهيار جهود حفظ الدولة الوطنية الموحدة، بالإضافة إلى استعراض التجارب السابقة لبناء الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الصراع، وكيف كانت الحوارات الوطنية بين المكونات الداخلية هي أساس الوصول إلى مخارج وحلول لتلك الأزمات.
مُخرجات الاجتماع.. أولويات مقترنة بتفاؤل حذر
جاء البيان الختامي للنواب المجتمعين في القاهرة مؤكدًا على عدة نقاط جوهرية، تمثل انطلاقة للمبادرات التي سيقودها البرلمان الليبي عند صياغة خطة العمل القادمة لتسوية الصراع.
فقد أعلن المشاركون تمسكهم بمبدأ الدولة الوطنية الموحدة، وأشار البيان الختامي للاجتماع إلى أهمية وحدة الدولة الليبية وسيادتها على كامل أراضيها، ما يقطع أي سبيل على المخططات التي جاءت في عدد من التقارير والمبادرات التي تحدثت عن دولة “فيدرالية”، أو تقسيمها إلى عدد من الأقاليم المستقلة، واعتبار ذلك خطًّا أحمر، ما يعني أن أي حل للأزمة سينطلق من أرضية الحفاظ على الدولة الوطنية الموحدة، وهو ما ينعكس بدوره على حتمية توحيد المؤسسة العسكرية، ووجود حكومة مركزية معبرة عن كافة المكونات الوطنية. وأكد النواب أن حل الأزمة الليبية سيكون من خلال مجلس النواب الليبي بصفته السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة بالبلاد من قبل الشعب والممثل الشرعي له، وهو ما يمهد لعودة الجهود الدولية الراغبة في تقديم حل حقيقي للأزمة يتعاطى مع الممثل الشرعي للشعب الليبي، وكشف أي محاولات لتأجيج الصراع من خلال التعاطي مع كيانات دون البرلمان المنتخب.
وقد شدد المجتمعون على مدنية الدولة الليبية، والمحافظة على المسار الديمقراطي، والتداول السلمي للسلطة التزامًا بالإعلان الدستوري وتعديلاته التي تنظم المرحلة الانتقالية في البلاد. وفي خطوة إيجابية أعلن النواب عن اتجاههم إلى توجيه الدعوة لكافة النواب الذين لم يحضروا الاجتماع؛ لاستكمال النقاشات المتقدمة لحل الأزمة الليبية بما يحفظ سلامة الليبيين، ويحقق الاستقرار والسلام والوئام المجتمعي، والعودة للحوار السلمي في ظل سيادة الدولة، وهو ما من شأنه فتح صفحة جديدة لالتئام شمل البرلمان الليبي بعد أن تأثر بالصراع الجاري واتجاه بعض مكوناته إلى الانضمام لمعسكرات الأطراف المتصارعة. وقد حدد المشاركون المسار القادم لمبادرة البرلمان الليبي في تشكيل حكومة وحدة وطنية، ووضع خارطة للحل وفق جدول زمني وآليات تنفيذ واضحة، ما يمهد لإسقاط البرامج المستهدفة لزعزعة وضرب ثوابت المجتمع الليبي، والعودة إلى المسار الشرعي المحقق لتطلعات الشعب الليبي. لكن نجاح هذا المسار سيعتمد على بعض العوامل، منها حجم الدعم الذي ستقدمه العواصم والمنظمات الدولية للبرلمان لاستكمال خارطة الطريق التي يمكن أن يطرحها البرلمان في المستقبل.
ودون شك، فإن استضافة القاهرة لوفد أعضاء البرلمان الليبي يكشف الدعم السياسي المصري للمؤسسات الشرعية الليبية، ودعم دورها في عملية التسوية السياسية في ليبيا.