أضحت العملات الافتراضية (مثل: “البيتكوين” و”زكاش” و”مونيرو” و”الإثريام”) مصدرًا ووسيلةً لتمويل الإرهاب، بالنظر إلى مزاياها المتعددة التي يأتي في مقدمتها القدرة على إخفاء هويات المتعاملين بها، وانتشار معاملاتها في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من الاستخدام المحدود لتلك العملات في الوقت الراهن؛ إلا أن ذلك الاستخدام قد يتزايد مستقبلًا مع تزايد فعالية جهود مكافحة تمويل الإرهاب التي تركز على تتبع تدفق الأموال عبر الحسابات المصرفية، ومنع المعاملات المالية التي يمكن استخدامها لدعم الهجمات الإرهابية، وغيرها.
وتتم غالبية عمليات تمويل الإرهاب عن طريق الخدمات المصرفية التقليدية وتحويل الأموال. ومع ذلك، لا يمكن التغاضي عن تزايد استخدام العملات الافتراضية في هذا المجال؛ ذلك أن نجاح استراتيجيات مكافحة الإرهاب في الحد من وصول التنظيمات الإرهابية إلى العملات الورقية أثار مخاوف من تزايد توظيف تلك التنظيمات للعملات الافتراضية لتمويل أنشطتها.
مزايا العملات الافتراضية
وفقًا لتقرير اليوروبول الصادر في عام 2015، استُخدم البيتكوين في أكثر من 40٪ من المعاملات غير المشروعة في الاتحاد الأوروبي؛ فقد أدركت العصابات العالمية المزايا المتعددة التي توفرها العملات الافتراضية، فنجحت في جذب مواقع مثل “طريق الحرير” المتخصص في التحويلات المالية غير القانونية الذي تُقدر معاملاته بأكثر من مليار ومائتي مليون دولار.
كما انتشرت العملات الافتراضية بين مجموعات الجريمة الإلكترونية التي تتعامل مع معدات القرصنة، والوثائق المزورة، والمخدرات، والأسلحة، في أسواق بالشبكة المظلمة. وسعت مجموعة قرصنة غير معروفة تُعرف باسم “شادو بروكرز” (وسطاء الظل) لعرض معداتٍ ووثائق مسروقة تابعة لوكالة الأمن القومي للبيع بالمزاد مقابل البيتكوين. وتعرض حاليًّا اشتراكًا للنفاذ إلى مزيدٍ من المستودعات باستعمال نظام “زادكاش”.
ويزداد استخدام التنظيمات الإرهابية للعملات الافتراضية بالنظر لما تقدمه هذه العملات من مزايا تتعلق بإمكانية التحويل الفوري إلى جميع أنحاء العالم دون استخدام البنوك التي تتطلب مزيدًا من الشفافية والإبلاغ عن المعاملات المشبوهة، وصعوبة تتبع عمليات الشراء والبيع التي تتم بواسطتها، وإمكانية استخدام التنظيمات الإرهابية بعض التقنيات لتبييض العملات المشفرة أو تنفيذ عمليات إلكترونية على الإنترنت للحصول على الأموال. ناهيك عن اعتماد تلك العملات على تقنية “البلوك تشين” الآمنة؛ وهي التقنية التي لا تحتاج إلى أسماء أو عناوين فعلية أو معلومات تعريفية. بمعنى آخر، فإن كافة المعاملات الخاصة بهذه العملات تُحاط بسريةٍ بالغة، وهو الأمر الذي يقوض الجهود الدولية للكشف عن المعاملات الفردية وربطها بالمستخدمين
ومن ثمّ، فإن العملات الافتراضية توفر “الأمان المالي”، وتضمن عدم تكرار المعاملات في حالة الازدواج، الأمر الذي يُمكّن التنظيمات الإرهابية من استخدامها بسهولة؛ حيث لا يقتصر استخدامها على المتخصصين فقط. لذا، فإنها (العملات الافتراضية) تُمكّن التنظيمات الإرهابية من شراء مختلف السلع والخدمات على الشبكة السوداء. ناهيك عن تراجع جدوى طرق الدفع التقليدية بما في ذلك النقود الورقية، في ظل تنامي الجهود الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال.
“داعش” والعملات الافتراضية
يُعد تنظيم “داعش” أحد أكثر التنظيمات الإرهابية توظيفًا للعملات الافتراضية؛ حيث أصدر أحد مؤيدي التنظيم وثيقة بعنوان “بيتكوين وصدقة الجهاد” ليحدد فيها الأحكام الشرعية لاستعمال “البيتكوين”، مشددًا على ضرورة استعمالها لتمويل الأنشطة الجهادية .وجاء في الوثيقة أن البيتكوين تمثل حلًّا عمليًّا للتغلب على الأنظمة المالية للحكومات “الكافرة”.
وشرحت الوثيقة كيفية استخدام العملات الافتراضية، وكيفية إنشاء الحسابات المالية على الإنترنت، وكيفية نقل الأموال دون لفت الأنظار؛ حيث لا يمكن للمتبرع تحويل أموال لشخصٍ مشتبهٍ به أو على لائحة الإرهاب، لكنه يستطيع فعل ذلك باستخدام حسابٍ رقمي لا يعلم أحد من يملكه. لكنّ “داعش” لم تتبنَّ رسميًّا تلك الوثيقة، ولم يظهر على صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي أي إشارة لجمع التبرعات باستخدام البيتكوين.
وعلى الرغم من ذلك، قام عددٌ من الموالين لتنظيم “داعش” بمبادلاتٍ مع أشخاص في سوريا باستخدام البيتكوين والبايبال. كما تم توجيه تهمة لمراهقٍ من ولاية فرجينيا لتقديمه دعمًا ماديًّا لداعش عن طريق استخدام تويتر لإرشاد أتباع التنظيم لطريقة استعمال البيتكوين. وفي عام 2014، أكدت تقارير قيام مقاتلي الدولة الإسلامية في الرقة بسوريا بتسهيل عمليات الشراء الصغيرة والمحلية في مكاتب تحويل الأموال، وإجراء معاملاتٍ دولية بعيدة المدى باستخدام العملات الافتراضية مثل البيتكوين.
وفي يناير 2015، دعا “باسم أبو مصطفى” (أحد كبار حملة جمع التبرعات لداعش) إلى ضرورة استخدام الشبكة السوداء لجمع الأموال من خلال العملات الافتراضية. وعلى خلفية ذلك، تم جمع خمس عملات بيتكوين بقيمة ألف دولار تقريبًا قبل إغلاق الحساب. وقد جاء ذلك على خلفية الحملات التي شنتها سلطات إنفاذ القانون الأمريكية على المنصات المالية السائدة.
وفي يونيو 2015، أدانت السلطات الأمريكية “شكري أمين” البالغ من العمر 17 عامًا من ولاية فرجينيا، لدعمه المادي لداعش. وقد تم تكليف “أمين” بمساعدة أنصار الدولة الإسلامية على السفر إلى سوريا من خلال استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تم تشجيعهم على المساهمة في توفير البيتكوين.
وفي ديسمبر 2017، تم القبض على امرأة في نيويورك لحصولها على 62 ألف دولار من البيتكوين بهدف إرسالها إلى “داعش”. ففي أعقاب محاولة فاشلة للانضمام إلى “داعش”، استخدمت المرأة معلوماتٍ كاذبة للحصول على قروضٍ وبطاقات ائتمان متعددة، تم تحويلها إلى بيتكوين وعملات افتراضية أخرى قبل إرسالها عبر باكستان والصين وتركيا في يناير 2016.
وقد لعبت البيتكوين دورًا في العملية الإرهابية التي استهدفت سريلانكا مؤخرًا؛ فقد استخدم التنظيم بوابة الدفع CoinPayments لتحويل البيتكوين إلى نقودٍ ورقية. وقد أكدت الشركة إجراء معاملاتٍ واسعة بين المحافظ التي وظفها التنظيم لجمع التبرعات من ناحية، وحسابات البيتكوين التي تحتفظ بها CoinPayments من ناحيةٍ أخرى. فقد ارتفعت الأرصدة في محفظة شركة الدفع من 500 ألف دولار إلى 4.5 ملايين دولار قبيل وقوع الهجمات بيوم واحد، ثم عادت للتراجع في أعقاب وقوعها.
استراتيجيات المؤسسات الدولية
على الرغم من اعتماد بلدان عدة مناهج مختلفة لتنظيم العملات الافتراضية، والحيلولة دون الاستجابة الموحدة؛ فإن هيئات إنفاذ القانون والاستخبارات والخدمات التنظيمية والمالية تهدف إلى منع التنظيمات الإرهابية من استخدام العملات الافتراضية، رغم صعوبة الكشف عن هويات مستخدميها وتتبعهم، خاصة في حالة استخدامها على نطاقٍ واسع.
في هذا الإطار، تتأسس استراتيجيات مكافحة تمويل الإرهاب من خلال استخدام العملات الافتراضية على ثلاثة مبادئ حاكمة. يعطي أولها الأولوية لمكافحة تمويل الإرهاب على الجرائم المالية الأخرى، ويحفز ثانيها الابتكار، ويؤكد ثالثها ضرورة وأهمية تعزيز التنسيق بين القطاعين العام والخاص بشأن تمويل الإرهاب. ومن شأن الركائز الثلاث مجتمعةً أن تتصدى لتهديدات تمويل الإرهاب الحالية والناشئة، وتوازن بين عبء الابتكار ودعم تقنيات العملات الافتراضية.
في هذا السياق أيضًا، أطلق الاتحاد الأوروبي حزمةً من الإجراءات في مواجهة العملات الافتراضية والمدفوعات النقدية مجهولة المصدر. ومن هذه الإجراءات بطاقة الدفع المسبقة، وتدابير تعزيز الرقابة على وسائل الدفع غير المصرفية مثل المدفوعات الإلكترونية مجهولة المصدر، والعملات الافتراضية، وتحويل الأموال، والمشتريات عن طريق البطاقات المدفوعة مسبقًا.
ودعت مجموعة العمل المالي “جافي” Groupe d’Action Financière Internationale (GAFI) في أكتوبر 2018 الدول إلى اتخاذ تدابير عاجلة لمنع استخدام العملة الافتراضية في تمويل الإرهاب، وذلك من خلال اتخاذ تدابير قانونيةٍ وعملية عاجلة للحد من الاستخدام السيئ للأصول الافتراضية. وجاءت تلك الخطوة استجابةً لمطالبات وزراء المال ومحافظي البنوك المركزية في مجموعة العشرين بالمضي قدمًا في تطبيق المعايير العالمية على صعيد العملات الافتراضية، بما يتلاءم مع المعايير المعمول بها في القطاع المالي، وذلك بهدف تفادي عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وفي الوقت نفسه، أشارت الهيئة المصرفية الأوروبية The European Banking Authority (EBA) إلى إمكانية توظيف العملات الافتراضية من قبل التنظيمات الإرهابية. وخَلُص “التوجيه الأوروبي الخامس لمكافحة تبييض الأموال” AMLD5 إلى ضرورة إخضاع العملات الافتراضية للقواعد الواردة في التوجيه، وهو إطار قانوني للمراقبين الماليين الأوروبيين لتنظيم العملات الافتراضية بهدف الحيلولة دون غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وذلك على غرار منصات التداول Virtual Currency Exchanges والجهات التي توفر محافظ إلكترونية خاصة بتلك العملات.
استراتيجيات أخرى عديدة
وبالمثل، ناشدت الحكومة الأمريكية في مقاربتها المعروفة باسم “مشروع ماديسون فاليوود” الشركات التكنولوجية والترفيهية لتقديم المساعدة في مجال محاربة الإرهاب، وتطبيق شروط الخدمات الخاصة بكل واحدة منها. كما أصدرت الولايات المتحدة في عام 2013 بيانًا اعتبرت فيه أن العملات الافتراضية مصدر من المصادر المحتملة لتمويل الإرهاب.
وأشارت “فرقة العمل للإجراءات المالية المعنية بغسيل الأموال” The Financial Action Task Force ((FATF في بيانٍ لها، إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية و”القاعدة” يستخدمان العملات المشفرة، داعيةً الحكومات في جميع أنحاء العالم لوضع قواعد لاستخدامها، وهو ما يعد خطوةً مبكرة رادعة من جانب واشنطن.
كذلك، وافق مجلس النواب الأمريكي على إنشاء فرقة عمل مستقلة للتكنولوجيا المالية لبحث استخدام الإرهابيين للتكنولوجيات المالية الجديدة، وعلى وجه التحديد لمكافحة استخدام العملة المشفرة من قبلهم. واشترطت الولايات المتحدة حصول شركات التكنولوجيا المالية التي تتعامل مع العملات الافتراضية على تراخيص في جميع الولايات التي تعمل فيها، والامتثال لكل من المعايير الفيدرالية ومعايير الولايات حتى يتم ترخيصها. ففي ظل وجود سجلٍ فيدراليٍ واحدٍ لشركات العملة الافتراضية، يمكن تفعيل برامج مكافحة غسل الأموال، والتعامل في العملات الافتراضية وفقًا لسجلاتٍ محكمة.
ويتناقض النهج الأمريكي مع مثيله السويسري على سبيل المثال؛ فقد أطلقت البورصة السويسرية منصةً للعملات الافتراضية بواسطة ما يسمى “المبادلات الست” Six Exchange لتسهيل عملية التداول، وتسوية الصفقات، وحفظ الأصول. وهو ما يتطلب استخدام برامج خاصة تتيح تتبع أنشطة البيتكوين والبيتكوين-بلوكشين Bitcoin Block-chain، مثل برنامج كريستال.
وللتغلب على إجراء المعاملات بالعملات الافتراضية على الشبكة السوداء باستخدام برنامج إخفاء الهوية The Onion Router (Tor)، سعت وزارة المالية البريطانية -على سبيل المثال- إلى مطالبة مستخدمي صراف العملات الافتراضية بالكشف عن هوياتهم. وتسعى من جانب آخر إلى اتخاذ تدابير أخرى لجعل العملات الافتراضية تتماشى مع التشريعات الحالية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
أفكار مقترحة للمواجهة
نقطة البداية في الاستراتيجية المقترحة لتقويض توظيف الإرهاب للعملات الافتراضية تكمن في إمكانية تتبع المعاملات الفعلية التي تتم باستخدام سلسلة “البلوك تشين” والتي يتم بالفعل تسجيلها علنًا، وهو ما يعني إمكانية تسجيل وتتبع واستنتاج الأنماط التاريخية المختلفة لمعاملات التنظيمات الإرهابية من خلال سجلات المعاملات.
ناهيك عن تعدد الطرق التي يمكن من خلالها تتبع معاملات التنظيمات الإرهابية التي تتم بالبيتكوين على سبيل المثال، ذلك أن عملية تجميعها من مختلف المستخدمين ثم إعادة توزيعها تسرع من وتيرة عملياتها. بعبارةٍ أخرى، فإن المعاملات الكبيرة تؤثر في أسعار العملات الافتراضية. وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن إخفاء المعاملات الفردية عالية القيمة، وبالتالي، فالارتفاع المفاجئ في حجم المعاملات من شأنه أن يلفت الانتباه.
وفي هذا الإطار، طُرحت العديد من الأفكار لتقويض استخدام التنظيمات الإرهابية للعملات الافتراضية، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1- تطوير الأطر الرقابية والقانونية لضمان تحديد هوية العملاء، وإقرار التشريعات اللازمة للكشف عن هوية مستخدمي هذه العملات الافتراضية.
2- عقد شراكات فاعلة مع كل من القطاعين المالي والخاص، وتفعيل مشاركة كلٍّ منهما عند تنفيذ المبادئ التوجيهية وتحليل المعاملات المشبوهة للكشف المبكر عنها.
3- تعزيز الإطار المحلي القانوني والعملياتي لكي تقوم السلطات الوطنية بجمع المعلومات وتحليلها وتبادلها، وفرض الجزاءات الجنائية الفعالة الرادعة.
4- الاستفادة من الابتكارات الحديثة في مجال الهوية الرقمية والعمليات الرقمية للنهوض بالشمول المالي.
5- الالتزام بمعايير فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية فيما يتعلّق بالأصول المشفّرة، والمضي قدمًا في تنفيذ تلك المعايير في جميع دول العالم.
6- تعزيز التعاون على صعيد المجال الرقمي بين المنشآت الرائدة في مجال الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، ووحدات الاستخبارات المالية، وغيرها لمكافحة تمويل الإرهاب، واعتماد مبادئ توجيهية صارمة تنظّم خدمات الدفع لتجنب المخاطر المترتبة على جمع التبرعات عبر الإنترنت.
7- تمكين وحدات الاستخبارات المالية على الصعيد الوطني، وتوفير مصادر تكنولوجيا المعلومات المناسبة لجمع المعلومات المتصلة بتمويل التنظيمات الإرهابية، وتحديد الشبكات المالية التي تدعمها، واتخاذ القرارات، وتوجيه الطلبات بشأن تجميد أصولها.
8- تحسين إمكانية تعقّب التدفقات المالية وشفافيتها، وتعزيز أطر تبادل المعلومات للتصدي للمخاطر المترتبة على نظم التحويلات المالية غير الرسمية.
9- تلبية طلبات التعاون بشأن تمويل الإرهاب، على وجه السرعة وحسب الأصول، ومن خلال تبادل المعلومات فورًا، بمساعدة المنظمات الدولية والوكالات المختصة.
وختامًا، يمكن من خلال النقاط السابقة مجتمعة تقويض التدفقات المالية للتنظيمات الإرهابية، وهو ما يتطلب بالأساس اتخاذ مواقف سياسية تفرض رقابة صارمة على التكنولوجيا المالية، بما يحفظ الفوائد التي تقدمها العملات الافتراضية، ويحول دون إساءة استخدامها.