في عدد يوليو ٢٠١٦ بمجلة “فورين أفيرز”، كتب وزير خارجية ألمانيا -آنذاك- مقالةً دافع فيها عن سجلّ وحصاد السياسة الداخلية والخارجية لبلده، ووصف بلده بالدولة الأوروبية التي لا يمكن الاستغناء عنها. يقول، إنه في سنة ١٩٨٩ كانت ألمانيا عملاقًا اقتصاديًّا وقزمًا في السياسة الخارجية، ولكن الوضع تغير الآن وأصبح لألمانيا دور مهم على الساحة الدولية، وهي لم تسعَ إلى هذا الدور، ولكنه فرض نفسه نتيجة عوامل عدة، أهمها: تعثر أو فشل السياسة الخارجية الأمريكية، والأزمة الاقتصادية العالمية في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، وضعف الاتحاد الأوروبي بعد اتساع قاعدته، وقدرة ألمانيا على الحفاظ على مكانتها كأقوى اقتصاد أوروبي رغم مرورها بظروف صعبة خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي. وذهب الوزير إلى أن السلوك الألماني يتحلى بالحكمة، ويحرص على إرساء نظام عالمي يحكمه القانون، ويحرص على خفض التوتر، ويسعى إلى حل النزاعات بطريقة سلمية، وإلى منع عودة أجواء الحرب الباردة، ويساعد الدول الفقيرة. وأضاف أن الساسة الألمان لا يقررون التدخل العسكري إلا بعد دراسة متأنية، وبعد بحث كل البدائل وحساب تبعات التدخل بدقة، أي إنه باختصار تدخل إيجابي. وعدد الوزير إسهامات ألمانيا الإيجابية، وحاول الرد على بعض الانتقادات.
في لحظات ومراحل اعتبر بعض المدافعين عن بنية النظام العالمي الحالي أن ألمانيا هي القائد البديل لمعسكرهم، خاصة بعد انتخاب الأمريكيين لرئيس يندد بالعولمة، وبالقوانين المنظمة للتجارة العالمية، ولا يؤمن بضرورة التحالفات، ويرى أن كل عمل جماعي يدفع حلفاء واشنطن إلى عدم الاضطلاع بمسئوليتهم تاركين المهمة للولايات المتحدة.
وفي مقالةٍ له نُشرت في عدد مايو ٢٠١٩ بمجلة “فورين أفيرز، جمع “روبرت كاجان”، أبرز المحافظين الجدد، بين الإشادة بليبرالية ألمانيا وحبها للسلام وبين القلق على تمسكها بتلك القيم في المستقبل، فأوضح أن اعتناق ألمانيا لتلك القيم جاء في ظرف تاريخي معين، توافرت فيه أربعة عوامل، ولكن الظرف زال والعوامل تتآكل.
وتلك العوامل هي: التزام الولايات المتحدة بضمان أمن ألمانيا، وبناء واشنطن لأسس نظام عالمي قائم على مبادئ الليبرالية والتجارة الحرة، والانتشار المستمر للنموذج الديمقراطي في كل أنحاء المعمورة، والرفض العالمي للتعصب القومي المقيت.
العامل الأول ساعد ألمانيا على عدم الإنفاق على دفاعها، وعلى التفرغ للإنفاق في الشئون الاجتماعية، ما أدى إلى ترسيخ دعائم النظام الديمقراطي. العامل الثاني سمح لها ببناء نظام اقتصادي قائم على التصدير وعلى الاستثمار في الخارج، كما أن “شيطنة” القومية حثت ألمانيا على التنبه إلى ضرورة اقتلاع ما تبقّى من قلاع للنازية. بينما خلق تمدد النظام الديمقراطي وضعًا لا يوجد فيه نموذج سلطوي جذاب.
ويُذكرنا “كاجان” بأن تلك العوامل الأربعة تتآكل؛ فالولايات المتحدة ملت من الإنفاق على دفاع أوروبا، والتجارة الحرة في خطر، وهناك بعث أو طور جديد للأيديولوجيات القومية في أوروبا، وهناك نماذج سلطوية ناجحة، بينما تبدو الديمقراطية في أزمة وعاجزة عن مواجهتها.
ويُذكرنا “كاجان” أيضًا بماضي ألمانيا من ناحية، وبقواعد اللعبة في النظام الدولي، وإن آجلًا أم عاجلًا ستعود ألمانيا إلى وضع طبيعي: قوة كبيرة أنانية تفكر في مصالحها. وحرص “كاجان” على القول بأن الجغرافيا (تقع ألمانيا في وسط أوروبا، ومساحتها صغيرة مقارنة بعدد سكانها) لديها القدرة على التفسير أكثر من العوامل الثقافية العدوانية الألمانية (أو قل الميل إلى التمدد. ومما يزيد الطين بلة أن ألمانيا أقوى بكثيرٍ من جيرانها) على عكس اليابان.
مقالة “كاجان” محقة في الإشارة إلى وجود قلق من ألمانيا في دوائر الدول المجاورة وفي واشنطن، ولكنني أرى أن الصواب جانبه في عرض القضية. أولًا، يمكننا التشكك القوي في منطق الحجة الرئيسية. نعم تبنّي ألمانيا للنظام الديمقراطي والقيم الليبرالية هو وليد لحظة تجمعت فيها عوامل أصبحت الآن أضعف، ولكن هذا لا يعني أن النظام هش، أو أن القيم مرفوضة، أو أنها لم تتجذر داخل المجتمع، فالابن لا يموت بوفاة والديه. ثانيًا، يمكننا رفض الثنائية المطروحة بين ألمانيا سابقة قطعًا -وربما حالية- هي مثال لنكران الذات وألمانيا عائدة ستكون أنانية. إذ يرى كثيرون أن ألمانيا ظلت دومًا -شأنها شأن كل الدول- أنانية تفكر في مصالحها أولًا وثانيًا وثالثًا. الجديد أنها فهمت في مطلع الستينيات من القرن الماضي أنها ستتمكن من تحقيق أهدافها عن طريق الاقتصاد والاستثمار لا عن طريق القوة العسكرية. وثالثًا، نرى أن العامل الرئيسي الحاكم للمعادلة الألمانية يجعل من المستبعد لجوؤها إلى القوة العسكرية والقوة الخشنة، فألمانيا دولة “شاخت”، وعدد سكانها يقل ولا يزيد، وندرة الشباب لا تشجع على المغامرات العسكرية. وعلى أي حال لن تعوض بسرعة تأخرها عن فرنسا والمملكة المتحدة في الشئون العسكرية. وأخيرًا سنرى في سياق العرض أن بعض العوامل المخيفة قد تكون أيضًا سببًا قويًّا للتفاؤل.
ونلاحظ أيضًا أن المخاوف من ألمانيا يُناقض بعضها بعضًا، ولا يعني هذا أنها ليست مشروعة. فعلى سبيل المثال، لست متأكدًا من أن الشاجب لإخفاق ألمانيا في الاضطلاع بمسئولياتها الدفاعية سيكون مستريحًا إن أصبحت ألمانيا قوة عسكرية يعتد بها وتشكل تهديدًا واضحًا. وقد يرى يومًا من يتشكك في عمق ولاء ألمانيا للمعسكر الغربي أن المسافة بينها وبين الدول الغربية الأخرى خير إن كان قائدو تلك الدول من الشعبويين، بينما تظل ألمانيا ليبرالية رافضة للتدخلات العسكرية وللعنصرية.
ونلاحظ أيضًا أن أغلب الشاكين من السياسة الألمانية (وأراهم محقين في كثير من أقوالهم) لا يتفهمون دوافعها وهواجسها. ألمانيا كما أسلفنا تستعد لمرحلة شيخوختها، وتريد نظامًا عالميًّا آمنًا للدول المسنّة.
ويبقى أن من يُناقش كوادر غربية، ويطلع على إنتاج مراكز الفكر والأبحاث لتلك البلاد، ويتابع تطور هواجسها؛ يلاحظ بسرعة شديدة استياء كبيرًا من الألمان وتململًا من مواقفهم وسياساتهم. ونحاول هنا القيام برصد أولي لأوجه الخلاف والمخاوف.
1- هناك شك مستمر في الهوى والهوية الألمانيين، وفي عمق انتماء ألمانيا للمعسكر الغربي. من الصعب عرض تفاصيل المشكلة هنا ولكن لا بأس من المحاولة. من الناحية الفكرية، يمكن القول إن ألمانيا تاريخيًّا تنتمي إلى معسكر التنوير وتلفظه وترفضه في آن واحد. ذروة المشروع التنويري الغربي هي فكر كل من الألمانيين “كانط” و”هيجل”، ولكن أقوى رد فعل رافض لهذا المشروع جاء أيضًا من ألمانيا. وتفصيل هذا أن التنوير أصلًا مشروع فرنسي بريطاني يعظم من قيمة العقل والتفكير العلمي والتسامح، أو على الأقل ينبذ التعصب، ويرى أن هناك قيمًا أخلاقية وسياسية عالمية صالحة لكل زمان ومكان، ومفهومًا واحدًا للحضارة وطريقًا واحدًا نحوها، وهو الطريق الذي سلكته فرنسا والمملكة المتحدة في بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر. ولكن الإقرار بهذا كان إقرارًا بتخلف ألمانيا، وولدت ألمانيا مشروعًا مضادًا أطلق عليه اسم “رد الفعل الرومانسي” يرى أن التنوير مشروع فرنسي/ بريطاني يخفي رغبة في الهيمنة، وأن الإرادة والأصالة أهم من العقل، وأن العواطف سابقة له، وتشكل القاعدة المتينة للانطلاق والبناء، وأن الطرق إلى الحضارة متعددة متشعبة، وأن القول بوجود مفهوم واحد للحضارة هو قول خطر على التنوع البشري، ويقدس حب الوطن، ولهذا الجناح فرع مسيحي وآخر شديد العداوة للمسيحية وثالث عدمي.. إلخ.
قد يبدو هذا الكلام كلامًا نظريًّا مرسلًا، ولكن له ترجمة في الواقع، وهو تشكك ورفض قطاعات مهمة من النخبة ومن الشعب الألماني في أو من يمثله، خاصة الولايات المتحدة، مقابل تعاطف كبير مع روسيا له جذور تاريخية قديمة (الإمبراطورة كاترين أصولها ألمانية). ومنذ أواخر ستينيات القرن الماضي لعب هذا المنظور دورًا يُعتد به في السياسة الخارجية الألمانية مع إطلاق “السياسة الشرقية”، سياسة الانفتاح على الاتحاد السوفيتي. ولعب ميل الولايات المتحدة إلى الحلول العسكرية دورًا في تأجيج المشاعر السلبية تجاهها، وفي بث الأفكار المطالبة بتقارب مع روسيا. وهناك من يقول (همسًا) إن ألمانيا لم تعد في حاجة إلى الدخول أو إلى الاستمرار في أحلاف عسكرية بعد انهيار المعسكر الشيوعي، لأنها أصبحت محاطة بدول صديقة. وأشارت “فورين أفيرز” في مقالة منشورة في عدد يناير ٢٠١٥ إلى أن نصف الألمان كانوا يريدون أن تلعب بلادهم دور الوسيط بين واشنطن وموسكو لعدم اندلاع الأزمة الأوكرانية. وقال كاتبها إن الاقتصاد كان وما يزال المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية الألمانية، وإن التبادل التجاري مع الشرق (روسيا والصين) يزداد أهمية يومًا بعد يوم، مما يحث على تبني سياسة أقل انحيازًا للغرب. ولفت نظرنا إلى أن تخلي ألمانيا عن المحطات النووية لتوليد الكهرباء عزز تبعيتها لروسيا. ولكي نكون واضحين نقول إن هذا التباعد لا يعني بالضرورة لفظ نظام سياسي واقتصادي، بل يعني رفض خطاب وسلوك. ونضيف أن أنصار البقاء في المعسكر الغربي كثيرون أيضًا، وأن المنادين بالتقارب مع روسيا والصين أو بنوع من الحياد لا يتغنون بالنموذج السلطوي للحكم، بل بالسلام العالمي، ويرون في الولايات المتحدة المهدد الرئيسي له.
2- هناك امتعاض كبير من تأثير (أو غياب تأثير) السياسات الألمانية على الوضع العسكري والأمني للعالم الغربي. فمن ناحية، يظل الإنفاق العسكري الألماني دون المستوى، رغم الزيادات الكبيرة خلال السنوات الماضية، ما يعطي مصداقية للاتهام القائل بأن ألمانيا “راكب لا يدفع التذكرة”، وهناك تململ من توجس ألمانيا من التدخل الخارجي، رغم التحسن الكبير في العقدين الأخيرين (ألمانيا متواجدة في أفغانستان والبلطيق). من ناحية أخرى، يعترض الكثيرون في واشنطن وفي أوروبا على مشروعات ألمانيا المختلفة التي تزيد تبعيتها للغاز الروسي وتعمق التعاون مع موسكو، وفاجأت ألمانيا الكثير من حلفائها بموقفها من موجات الهجرة الشرق أوسطية لها، حيث فتحت أبوابها دون التنسيق معهم. وسمع كاتب هذه السطور وزيرًا فرنسيًّا سابقًا يتهم ألمانيا بالسذاجة في الشئون الاستراتيجية والجيوبوليتيكية.
3- السياسات الاقتصادية والنقدية والتجارية والاستثمارية والبيئية الألمانية محل انتقاد دائم، يراها البعض مضرة بألمانيا نفسها وبالدول الأخرى، لا سيما الأوروبية والولايات المتحدة. ونعود هنا إلى كتاب فرنسي صدر منذ سنوات عنوانه “صدام الإمبراطوريات”، للصحفي الاقتصادي “جان ميشيل كاتربوان”، وإلى مقالات صدرت في “فورين أفيرز” منذ مطلع الألفية الجديدة، وبعض مواقع مراكز الفكر الأوروبية. وليس من الضروري تبني مقاربة “كاتربوان” الذي يرى أن ألمانيا نفذت بصرامة وقسوة خطة محكمة طويلة الأجل للاتفاق معه في تشخيص الوضع الحالي. هو يرى أن الاقتصاد الألماني اعتمد على التخصص في إنتاج عالي الجودة لسلع مطلوبة دوليًّا، وأنه تم ترتيب الأحوال بحيث تكون أغلب المصانع خارج ألمانيا (في أوروبا الشرقية بصفة رئيسية) بهدف تخفيض تكلفة العمل والعمال، واقتصدت أيضًا في نفقات الدفاع وفي النفقات المتعلقة بالطفولة والشباب، إذ تبنت سياسات تصعب من الإنجاب. هذا الوضع والتفوق الألماني في عدد من التخصصات والمجالات خلقا الحاجة إلى عملة قوية مرتفعة القيمة، وإلى سياسة نقدية تركز بصفة أساسية على محاربة التضخم. ونجحت ألمانيا في فرض تصوراتها وأجندتها فيما يتعلق باليورو وبالسياسة النقدية الأوروبية. لكن ارتفاع قيمة اليورو أضر ضررًا بليغًا باقتصادات دول جنوب أوروبا التي فشلت كلها في تطوير اقتصادها وبنيته لتتأقلم ووضع العملة. ونجحت ألمانيا في الهيمنة على مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وفي إفشال كل مشروع يناهض مصالحها (مثل إجهاض مشروع قانون يضع شروطًا لوصف منتج بأنه صنع في بلد معين).
4- سياسات بالغة القسوة؛ ولا نتحدث فقط عن كيفية التعامل مع اليونان ومع من استدان، إذ تم فرض سياسات تقشفية قاسية، لها آثار جانبية (هجرة العقول/ تدمير الطبقات الوسطى/ زيادة معدلات الفقر). والقسوة ليست فقط على الأجانب؛ فالولايات الألمانية الدائنة شديدة الصرامة مع الولايات المستدينة، وتواصل ألمانيا سياسة تخفيض ديونها بانتظام رغم حاجتها الماسّة إلى استثمارات داخلية (وإلى الاقتراض) لتحديث بنيتها التحتية وشبكة طرقها ونظامها التعليمي، والتحول إلى صناعات نظيفة. الحاجة ماسة إذا ظلت ألمانيا (الدولة والقطاع الخاص) لفترة طويلة تستثمر أموالًا طائلة في الخارج على حساب الداخل. وأدركت حكومة “ميركل” عمق المشكلة سنة ٢٠١٦، وأقرت خططًا طموحة يجري تنفيذها ولكنها لا تزال دون الحد الضروري. ومن الواضح أن مشكلة البنية التحتية الألمانية تؤثر سلبًا على كل أوروبا، وأن الاستثمار في الخارج من شأنه إيجاد مصالح مشتركة مع دول هي موضوعيًّا ليست من حلفاء الغرب.
5- الفائض التجاري الألماني موضع نقد كما هو معلوم، لأنه يعني أن مرتبات العمال والموظفين الألمان دون المستوى المفروض، ما يؤثر -فيما يقال- على استهلاكهم، وبالتالي على الواردات من الخارج. لست متأكدًا من وجاهة النقد؛ ذلك أن الألمان يميلون إلى الإدخار لشكوكهم في قدرة الدولة على تمويل المعاشات في المستقبل، ولكن من الواضح أن فائضًا تجاريًّا بهذا الحجم ليس صحيًّا.
خلاصة القول، إن ألمانيا تواجه اليوم فواتير نهضتها المذهلة بعد هزيمة النازية؛ نهضة قامت على التضحية بالمستقبل وعلى عدم الإنفاق العسكري. وقوتها المالية والاقتصادية قد لا تكفي لمواجهة التحديات المستقبلية. وبصفة عامة، يبدو أن حقبة “ميركل” هي حقبة لم يتم فيها التعامل مع المشكلات البنيوية على وجه مُرْضٍ، فازداد حجم التحديات. لا نشارك الزملاء في موقفهم السلبي من تطورات المجتمع الألماني وسياسته الخارجية، كما لا نتبنى كلام من يرى في ألمانيا قوة لا تعمل إلا للخير ولإقامة نظام دولي ليبرالي حافظ للسلام. ألمانيا دولة قوية تواجه تحدي الشيخوخة، تجيد الدفاع عن مصالحها الآنية، مع ميل إلى التصرف كراكب لا يدفع التذكرة، ولكنها تملك من الأدوات ما يسمح بشراكة سياسية واقتصادية وثقافية.