ثمة دلائل عديدة ظهرت في السنوات الأخيرة تؤشر على تسارع الخطوات التركية لبناء قدرات نووية. المؤشر الأول، هو الشروع في بناء محطة نووية تحت ذريعة إنتاج الكهرباء في منطقة أكويو Akkuyu بمقاطعة ميرسين على ساحل المتوسط. وقد اختارت تركيا نوعًا من المحطات يمكن إنجازه خلال خمس سنوات فقط (بينما المعروف أن بناء مثل هذه المحطات تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة النووية يستلزم فترة لا تقل عن عشرة أعوام). وقد وقّعت تركيا عدة عقود لبناء أربع محطات نووية مع الشركة الروسية Rosatom، ومع شركات أخرى فرنسية ويابانية بقيمة تزيد على ٤٤ مليار دولار منذ عام ٢٠١١.
المؤشر الثاني، ينصرف إلى تكثيف تركيا العمل في مشروع تصنيع الصواريخ الباليستية الضرورية لحمل الرؤوس النووية. وظهر أول صاروخ في هذه المنظومة التركية الصنع في أبريل ٢٠١٧. أيضًا في سبتمبر عام ٢٠١٥ نشر موقع the national interest تقريرًا منسوبًا للمخابرات الألمانية يؤكد أن “أردوغان” يسعى لتحويل تركيا إلى دولة نووية.
في اتجاهٍ مغايرٍ ولكن له دلالته في السياق نفسه، نشر مركز بيجِن-السادات للدراسات الاستراتيجية في الرابع من يوليو الجاري، ورقة بحثية، طرح فيها خبير التسلّح النووي الإسرائيلي “روفائيل أوفيك” Raphael Ofek تساؤلًا حول مصير السلاح النووي التابع لحلف الناتو المتواجد على الأراضي التركية بموجب عضويتها في الحلف.
دواعي طرح التساؤل، حسب “أوفيك”، أن توجهات تركيا الصدامية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا تبدو أنها توجهات مؤقتة، بل ربما تعبر عن تغيير جذري في التوجهات الاستراتيجية التركية بموجبها يقود “أردوغان” بلاده نحو بناء تحالفات قوية مع الدول المشتبكة في صراعات مع الغرب، وعلى رأس هذه الدول روسيا وإيران.
وأيًّا كان الأمر حول مدى دقة التقارير والتحليلات التي تناولت القضية حتى الآن، فمن الضروري مناقشة الملف بقدر من التفصيل.
أولًا- الشخصي والقومي في التوجهات التركية النووية
رغم أن التقارير التي تناولت الطموحات النووية التركية ادّعت أن أنقرة حاولت منذ سبعينيات القرن الماضي الدخول في المجال النووي؛ إلا أن هذه التقارير افتقرت لمعلومات موثقة أو مصادر وتصريحات رسمية تركية ودولية تؤكد هذا المنحى، ما يقلل من قيمتها بشكل عام. أضف إلى ذلك حقيقة عدم معقولية سعي تركيا للحصول على قدرات نووية في هذه الفترة التي امتدت حتى نهاية الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1992، لسببين رئيسيين:
١- أن تركيا التي تمتّعت بعضوية حلف الناتو منذ عام 1953، واستضافت على أراضيها مخزونًا أمريكيًّا من الرؤوس النووية، لم تكن في حاجة للبحث عن سلاح نووي لحمايتها في مواجهة التهديدات التي مثّلها الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو على أمنها القومي حتى نهاية الحرب الباردة.
٢- مرت تركيا منذ السبعينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة بحالة من عدم الاستقرار السياسي، كما افتقرت لقاعدة اقتصادية قوية تمكنها من التفكير في البديل النووي.
وبالتالي، يمكن افتراض أن التوجهات النووية التركية الجادة ربما بدأت على استحياء في تسعينيات القرن الماضي عندما كان السؤال المطروح على أنقرة هو: ما مدى إمكانية استمرار الغرب في دعمها في حالة تفكك حلف الأطلنطي وعدم وجود احتياج غربي لها في النظام الدولي الذي كان قيد التشكل بعد سقوط التهديد السوفيتي؟
لكن حتى لو كانت هواجس فقدان الأهمية الاستراتيجية لتركيا قد شغلت عقل القادة الأتراك بعد عام 1992، إلا أن استمرار عدم الاستقرار السياسي وضعف القدرات الاقتصادية التركية، كان سيحول حتمًا دون ترجمة الطموحات النووية التركية “الافتراضية” إلى سياسة عملية. كما أن استمرار حلف الأطلنطي، بل وتوسعه لاحقًا بدلًا من تفكيكه أو تقليص مهامه، والذي كان طرحًا نظريًّا في ذلك الوقت، ربما منح القادة الأتراك نوعًا من الارتياح الذي خفف من شعورهم بالقلق جراء احتمال فقدان بلادهم لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للغرب، وبالتالي قلل ذلك من حاجتهم للتفكير في البديل النووي. المرجّح -إذن- أن تركيا بدأت في التفكير في حيازة التقنية النووية مع وجود “أردوغان” على رأس السلطة في تركيا، وإن أتى هذا التوجه بشكل تدريجي بعد نحو خمس سنوات من وصول حزبه العدالة والتنمية إلى السلطة (أي عام 2007).
الدواعي التي حملت “أردوغان” على التفكير في تطوير القدرات النووية ستدخلنا مباشرة إلى مناقشة ما يمكن تسميته “متلازمة خوف النظم الدينية من السقوط” والتي تستتبع دومًا تفكير هذه الدول في حيازة السلاح النووي.
ثانيًا- متلازمة خوف النظم الدينية من السقوط.. البحث عن البديل النووي
باستثناء الدول الخمس النووية الأولى (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي -روسيا لاحقًا- بريطانيا، فرنسا، الصين) التي حازت السلاح النووي لأسباب استراتيجية تتعلق بتطورات النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، دخلت دول أخرى لاحقًا إلى النادي النووي رغم كل القيود التي فُرضت من قبل الدول الخمس النووية الأولى للحيلولة دون امتداد التسليح النووي إلى بلدان أخرى، وكانت دوافعها شبه واحدة تقريبًا. فقد تمكنت الهند وباكستان من إجراء تفجيرات نووية في حقبتي السبعينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كما تؤكد تقارير موثوق بها حقيقة امتلاك إسرائيل للسلاح النووي منذ الستينيات رغم إنكارها ذلك رسميًّا حتى الْيَوْمَ. وأصبحت كوريا الشمالية دولة نووية فعلية رغم عدم وجود تقارير عن حجم ما تمتلكه من السلاح النووي. وحاليًّا تقول تقارير مؤكدة أيضًا إن إيران يمكن أن تنضم للنادي النووي بعد عام واحد من الآن إذا استمرّت أزمتها مع الولايات المتحدة بعد انسحاب إدارة “ترامب” من الاتفاق الذي وُقّع مع إيران في عام 2015 دون حل! فإذا أضفنا الوقائع الخاصة بضرب إسرائيل للمفاعل النووي العراقي أوزيراك عام 1981 تحت شبهة سعي العراق لإنتاج سلاح نووي آنذاك، يمكن القول إن سياسة محاصرة الطموحات النووية ومنع تمددها أبعد من الدول الخمس الكبرى قد فشلت فشلًا ذريعًا، وأن احتمالات نجاح دول أخرى في الالتحاق بالنادي النووي بما في ذلك تركيا هو أمر وارد بشدة.
لكن الملاحظة الأهم -في هذا السياق- أن وصول أنظمة حكم تتبنى أيديولوجيات دينية أو قومية-دينية إلى بلدان العالم الثالث قد زاد بشدة من احتمالات سعي هذه الأنظمة للحصول على البديل النووي، فمن بين الدول التي امتلكت بالفعل سلاحًا نوويًّا أو تقترب من حيازته أو يمكن أن تسعى إليه في المستقبل القريب (إسرائيل، الهند، باكستان، كوريا الشمالية، إيران، تركيا)، نجد أن الهند التي أجرت أول تفجير نووي لها عام 1974، كانت الدولة الوحيدة بين الدول الست المذكورة التي يمكن أن يكون دافعها للحصول على البديل النووي كامنًا في الدواعي التي فرضتها عليها البيئة الاستراتيجية المحيطة بها (المخاطر التي تهدد الأمن القومي من جانب الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة والصين). أما الدول الأخرى فكانت الدوافع الدينية ومتلازمة الخوف من المؤامرات الخارجية المؤسسة على أساطير عقائدية هي الدافع وراء سعي هذه الدول للحصول على السلاح النووي؛ فالمشروع النووي الباكستاني بدأ في عهد الرئيس “ضياء الحق” ذي التوجهات الإسلامية المتشددة في السبعينيات لمواجهة ما أسماه “العجرفة الهندوسية”. وفِي كوريا الشمالية تعتبر الفكرة الفلسفية المسماة بالزوتشية أشبه بديانة متكاملة الأركان تخشى على وجودها ونقائها من الآخر أيًّا كان موقعه دينيًّا أو أيديولوجيًّا. كذلك، فإن نظام الملالي في إيران يتغذى على أسطورة عداء الغرب للنظم الإسلامية. وحتى إسرائيل التي تقدم نفسها كنموذج غربي، لا يمكنها الهروب من حقيقة أن دوافع امتلاكها للسلاح النووي غائرة في عمق العقل واللاهوت اليهوديين المؤمن بأسطورة شعب الله المختار وبالعداء للسامية الذي يهدد بقاء الشعب اليهودي. بمعنى آخر، ثمة ما يؤكد أن النظم التي تتأسس على توجه ديني ستكون أقرب بشكل مؤكد للتفكير في حيازة السلاح النووي لاعتقادها بأنه السلاح الوحيد الذي يمكن أن يردع الخصوم في الخارج من تهديدها.
بهذا المعنى، لا يمكن استبعاد تفكير الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في الحصول على سلاح نووي، فتوجهه الراعي لجماعة الإخوان المسلمين، وطموحاته لاستعادة الإمبراطورية الإسلامية بقيادة تركية (العثمانية الجديدة)، وشعوره بأن الغرب لم يعد ينظر إلى مشروعه بعين الرضى بعد فشله (أي أردوغان) في تقديم تركيا كنموذج إسلامي معتدل يمكن أن يتواءم مع القيم الغربية؛ كل ذلك قد حمله على تغيير توجهاته الخارجية والدخول في مواجهات حادة مع الولايات المتحدة وأوروبا في السنوات الأخيرة، والتمسك أكثر بنظرية المؤامرة التقليدية التي تتبناها النظم التي تدعي تمثيلها للإسلام. ويعتقد “أردوغان” أن الغرب قد قرر إسقاط تجربته ليس بسبب فشله في تقديم نموذج إسلامي معتدل يدعمه الغرب ويعتمد على جماعة الإخوان ويمكن نشره في المنطقة العربية لخلق تحالف سني في مواجهة التمدد الشيعي الذي تقوده إيران وفقط، بل لكون الغرب لا يقبل أن تكون تركيا الإسلامية قوة إقليمية مستقلة، بل مجرد جزء من استراتيجية غربية لمواجهة التطرّف السني والتمدد الإيراني لا أكثر ولا أقل.
لقد اكتشف الغرب عبر علاقته بـ”أردوغان” عبث محاولة خلق نموذج إسلامي “معتدل” من الأصل، بعد أن كشف سلوك “أردوغان” خلال فترة حكمه الطويلة عن توجه استبدادي واستعداد كامن لتبني خطاب شعبوي يساعد على تأجيج العداء الغربي-الإسلامي أكثر مما يصب في اتجاه تهدئة هذا العداء. بدأ هذا التصعيد غداة المواجهة التي حدثت بين تركيا وإسرائيل في مايو 2010 على خلفية تصدي إسرائيل للسفينة التركية “مافي مرمرة” التي كانت تستهدف كسر الحصار الإسرائيلي حول غزة، واستمر مع تزايد شكوك تركيا في إمكانية قبول الاتحاد الأوروبي لعضويتها التي كانت هدفًا مركزيًّا من أهداف السياسة التركية. وجاءت محاولة الانقلاب الفاشلة ضد “أردوغان” عام 2016 بمثابة التصعيد الأخطر في التوتر بين تركيا وكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث رفضت الولايات المتحدة تسليم المعارض التركي “فتح الله جولن” المقيم بالولايات المتحدة والذي يتهمه “أردوغان” بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة. كما عارض الاتحاد الأوروبي سياسات “أردوغان” القمعية تجاه معارضيه بعد الانقلاب الفاشل. وخلال السنوات الثلاث التالية للانقلاب الفاشل تزايدت شكوك “أردوغان” تجاه الولايات المتحدة بسبب الدعم الكبير الذي تقدمه للجماعات الكردية المقاتلة في شمال سوريا والتي تتهمها أنقرة بالسعي لتقويض الأمن القومي التركي. كما نشبت خلافات واسعة بين تركيا والاتحاد الأوروبي على خلفية عدم وفاء تركيا بالتزاماتها حيال منع تدفق اللاجئين السوريين من أراضيها إلى دول الاتحاد.
وكانت محصلة هذه التطورات التي اكتملت بإعلان تركيا شراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية S400 رغم معارضة واشنطن وحلف الناتو، أن تركيا قد قطعت شوطًا واسعًا نحو تغيير توجهاتها الاستراتيجية، بحيث لم يعد الكثير من الخبراء والمحللين يستبعدون حدوث انقلاب جوهري في تحالفات تركيا التاريخية في المستقبل المنظور.
يقول الباحث “سونر جاغابتاي”، مدير برنامج الأبحاث التركية بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، في مقال نشره في ١٥ يونيو ٢٠١٦: “تهدف الثورات المضادة عامة إلى إعادة النظام السياسي إلى وضعه السابق، وهذا ما يقوم به “أردوغان” في تركيا؛ فالثورة المضادة التي يشنها تركز على جعل الإسلام محور السياسة التركية، وترى دور السياسة الخارجية للبلاد باعتبارها معادية للغرب بشكل أساسي. ويعتقد “أردوغان” أن هذه هي الطريقة التي سيعيد فيها النظام العثماني”. وفِي 20 يونيو 2018 نشر Michelangelo Guida أستاذ العلوم السياسية بجامعة إسطنبول مقالًا قال فيه، إن التوجه الإسلامي المتنوع الخطاب المسيطر على الشارع التركي لا يعطي مجالًا للشك في أن مستقبل تركيا بات مرهونًا بالإسلام السياسي.
ورغم ذلك، ما يزال من المبكر الحديث عن إمكانية نجاح “أردوغان” في إحداث هذا التحول الاستراتيجي. ونستعرض في مقال لاحق التوقعات الخاصة بتحول تركيا لامتلاك السلاح النووي من حيث المحفزات لامتلاكه والعقبات التي تعترضه داخليًّا وخارجيًّا.