في السابع عشر من يوليو 2019، اغتيل نائب القنصل التركي العام في كردستان العراق “عثمان كوسه”، بالإضافة إلى شخصين آخرين، في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان شمالي العراق. وتشير التقارير الصحفية إلى قيام مُسلَّحَيْن بإطلاق النار -بشكل مباشر- على الدبلوماسي التركي بينما كان يتناول الطعام في أحد المطاعم بالمدينة. ويُعد هذا الحادث هو الأول من نوعه الذي يتم فيه استهداف دبلوماسيين بتلك المدينة.
وبحسب التليفزيون العراقي، نفى حزب العمال الكردستاني مسئوليته عن الحادث. كما تعهدت قيادة أمن أربيل بعدم السماح بزعزعة الأمن والاستقرار في إقليم كردستان، وبفتح تحقيق حول الحادث، ونيل الجناة عقابهم. وفي المقابل، توعدت تركيا عبر المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم كالن” “بالرد المناسب” على منفذي الهجوم. وأعقب ذلك إعلان الرئيس التركي استمرار الجهود التركية، بجانب السلطات العراقية وحكومة الإقليم، لضمان الوصول إلى منفذي الهجوم.
استهداف تركيا لمواقع كردية
يأتي حادث اغتيال الدبلوماسي التركي في سياق التصعيد التركي الحالي ضد الأكراد، إلى جانب ما يُثار حول قيام عناصر من جهاز المخابرات التركي باغتيال أحد كبار القادة الميدانيين في حزب العمال الكردستاني “ديار قرداغي”، بما يرجح احتمال أن يكون هذا الحادث ردًّا على التصعيد التركي. وقد عمدت تركيا خلال الفترة الماضية إلى قصف بعض مواقع تواجد الوحدات الكردية بسوريا والعراق. وعلى الجانب السوري، تقوم تركيا بقصف مواقع للوحدات الكردية بين حين وآخر. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، شهد النصف الأول من شهر يوليو قصفًا صاروخيًّا تركيًّا طال مناطق متعددة خاضعة لسيطرة القوات الكردية بريف حلب الشمالي. ويأتي القصف التركي في أعقاب مقتل جندي تركي واحد على الأقل، وإصابة أكثر من ٣ جنود آخرين جراء قصف صاروخي نفذته القوات الكردية على القاعدة التركية بالمنطقة ذاتها.
وعلى الجانب العراقي، شهدت الفترة الماضية نشاطًا كبيرًا للجيش التركي بمناطق شمال العراق. ففي الثامن والعشرين من مايو 2019، أعلنت وزارة الدفاع التركية أن الجيش قد بدأ عملية عسكرية واسعة ضد مخابئ منظمة “بي كا كا” بمنطقة “هاكورك” شمالي العراق، أُطلق عليها عملية “المخلب”. وقد استهدفت تلك العملية تدمير المخابئ والمغارات التي يستخدمها التنظيم، وتحييد العناصر الإرهابية في تلك المنطقة. وسبق هذا البيان في 20 مايو 2019 قيام سلاح الجو التركي بغارات استهدفت مواقع للتنظيم بذات المنطقة المذكورة سابقًا.
كما شهد شهر أبريل تنفيذ الجيش التركي عمليات عسكرية استهدفت تدمير أهداف تابعة للتنظيم بمناطق غارا وهاكورك وباسيان-أفاشين. وبحسب المصادر التركية، فقد دمرت تلك العمليات مواقع أسلحة ومخابئ وتحصينات ومستودعًا للذخيرة، تابعة لحزب العمال الكردستاني.
وقد أثارت العمليات العسكرية التركية حفيظة الجانب العراقي، حيث أعرب رئيس حكومة إقليم كردستان العراق عن “قلق أربيل البالغ من الغارات التركية التي تستهدف مسلحي حزب العمال الكردستاني”، داعيًا الجميع إلى احترام سيادة الإقليم. كذلك، أعربت الخارجية العراقية في يونيو 2019 عن “إدانتها قيام مقاتلتين تابعتين لسلاح الجو التركي بقصف مكثف على منطقة “كورته ك” بمحافظة السليمانيّة بإقليم كردستان، مما تسبب -وفقًا للوزارة- في مقتل أربعة مواطنين وجرح أربعة آخرين.
المسارات المحتملة خلال الفترة المقبلة
كما تمت الإشارة سابقًا، تعهد الجانب التركي بالقيام بالرد المناسب على حادث الاغتيال. وجاء الرد في صورة قيام الطيران التركي بشن سلسلة من الغارات على مواقع ومقار لحزب العمال الكردستاني، في سلاسل جبال قنديل خلال الساعات اللاحقة لوقوع حادث الاغتيال. وقد أسفرت هذه العمليات -بحسب بيان للحزب- عن مقتل قيادي ميداني بارز في الحزب وأربعة من مرافقيه. وأعقب ذلك إعلان وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” أن بلاده قد “أطلقت أوسع عملية جوية ضد حزب العمال ردًّا على اغتيال نائب القنصل التركي في أربيل”، وهو الأمر الذي مثّل إيذانًا بسلسلة من الغارات على قرى بمحافظة “دهوك”، إلى جانب مخيمات للاجئين من أنصار حزب العمال الكردستاني شرق مدينة الموصل.
بناءً على ما تقدم، يمكن تصور أن تدور التحركات التركية المقبلة في إطار أربعة مسارات متوازية.
المسار الأول: يتمثّل في استمرار سلاح الجو التركي في قصف مواقع كردية بمنطقة شمال العراق بشكل مكثف. وقد يصاحب ذلك تحركات لقوات من الكوماندوز التركية مصحوبة بغطاء جوي بالمناطق الكردية الواقعة على الحدود العراقية التركية. كذلك، من المتصور قيام عناصر من الجيش التركي -بالتعاون مع قوات أمنية عراقية في إطار من التنسيق الأمني الرسمي- بإلقاء القبض على عناصر كردية، واتهامها بالانتماء لتنظيم “بي كا كا”. وستتزامن التحركات الأمنية التركية مع اتجاه الحكومة التركية إلى دعم علاقاتها الأمنية والتجارية مع كلٍّ من العراق وإقليم كردستان. وقد شهدت العلاقات التركية-العراقية تطورًا ملحوظًا خلال الفترة الماضية، على خلفية حجم وطبيعة الزيارات الرسمية المتبادلة، أو اتجاه البلدين نحو رفع مستوى التبادل التجاري. أضف إلى ذلك ما أعلن عنه الجانب التركي بشأن إعادة تفعيل المساهمة بمشاريع إعادة إعمار العراق، واتفاق الجانبين على أهمية تعاونهما العسكري وضرورة تطهير العراق من تنظيم “بي كا كا”. وفي هذا الإطار، اجتمع الرئيس التركي في العاشر من يوليو الجاري مع وفد عراقي مكون من وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ورئيس جهاز المخابرات الوطني، بهدف التحضير للوثيقة المشتركة للتعاون في المجالين العسكري والأمني بين البلدين.
المسار الثاني: يرتبط بمنطقة الشمال السوري، وتحديدًا بالمناطق الخاضعة للسيطرة الكردية. فمن المتصور أن يقوم الجيش التركي بتكثيف الضربات الموجهة إلى تلك المناطق، إلى جانب إعادة إثارة تركيا الحديث بشأن إنشاء “منطقة آمنة” -حسب تصورها- بهدف تأمين حدودها الجنوبية مع سوريا، وصد أي خطر كردي. وستعتمد في ذلك على احتمال تكرر الحوادث الإرهابية كتلك التي طالت دبلوماسييها بالعراق. ويرتبط تحقق هذا المسار بما صرح به الرئيس التركي في 14 يوليو 2019، خلال لقائه مع رؤساء تحرير مؤسسات إعلامية تركية، حول “خطوات مرتقبة لبلاده بمنطقتي تل أبيض وتل رفعت شمالي سوريا بهدف تحويل ما يُسمى بـ”الحزام الإرهابي” إلى منطقة آمنة”. من ناحية أخرى، يرى الرئيس التركي أن الولايات المتحدة “لم تفِ بوعودها المتعلقة بإخراج إرهابيي “بي كا كا” من منطقة منبج شمال سوريا”. ولذلك، من المتوقع أن يُثار الحديث حول المنطقة الآمنة خلال الاجتماع المرتقب بين الجانبين العسكري التركي والأمريكي بأنقرة بشأن بحث إقامة منطقة آمنة بشمال سوريا.
المسار الثالث: يتعلق بالتحركات داخل تركيا ذاتها، حيث سيعمد النظام التركي إلى تكثيف ما يمارسه من قمع موجه ضد المعارضة، وتحديدًا ضد الأكراد الأتراك. وقد يتطور الأمر إلى تقييد أو حظر نشاط حزب “الشعوب الديمقراطي الكردي” بدعوى صلته بتنظيم “حزب العمال الكردستاني”.
وارتباطًا بحادث الاغتيال، كشفت مديرية مكافحة الإرهاب بإقليم كردستان العراق عن هوية منفذ الحادث، وهو “مظلوم داغ” الكردي من ديار بكر. لكن لا يتوقف الأمر عند حد كونه كرديًّا، لكن “داغ” هو أخ لنائبة برلمانية عن حزب الشعوب الديمقراطي “درسيم داغ”. وبذلك، قد يمثل الحادث الأخير فرصة أمام السلطات التركية لتبرير ما قد تقوم به من تضييق على المعارضة الكردية.
وبشكل عام، عمدت السلطات التركية خلال الفترة الماضية إلى تضييق الخناق على المعارضة الكردية. فمن ناحية، فإن زعيم “حزب الشعوب الديمقراطي” “صلاح الدين دميرطاش” قيد السجن منذ نحو سنتين بتهم أمنية. وبرز شكل آخر من التضييق خلال عملية الانتخابات البلدية الأخيرة بمنطقة الأناضول الشرقية. ورغم نجاح مرشحين عن حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد بخمس مقاطعات تابعة لهذه المنطقة، لكن لم يحصل هؤلاء المرشحون على موافقة رسمية من اللجنة العليا للانتخابات لتولي مهامهم، بل وقررت السلطات تسليم مكاتب رؤساء البلدية الخمس لمرشحي حزب العدالة والتنمية (الذين جاءوا في الترتيب الثاني). واستند هذا الإجراء إلى “قرار الطوارئ” الصادر عن الحكومة التركية قبيل الانتخابات ضد هؤلاء المرشحين بمنعهم من ممارسة الخدمة المدنية. ولا تعتبر حالة الاستبدال تلك هي الحالة الأولى التي يواجهها الأكراد، بل سبق ذلك إبدال العشرات من رؤساء البلديات الأكراد بجنوب شرق البلاد، وقيام وزارة الداخلية بتعيين موظفين مكانهم من دون انتخابات، وذلك بعد محاولة انقلاب عام 2016.
المسار الرابع: يرتبط بالخطاب الأردوغاني، إذ يعتمد “أردوغان” في جزء من خطابه على تبرير تحركاته، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي، بمواجهة التهديدات الإرهابية. ويمكن الاستدلال هنا بخطابه المبرر لعملية “غصن الزيتون”، حيث أعلن “أردوغان” حينها عن شروع تركيا في “إخلاء شرق الفرات من الإرهابيين الانفصاليين”، وذلك في إشارة إلى وحدات حماية الشعب الكردية. كما أكد سابقًا في نوفمبر 2017 أنه لن يسمح بتمرير ما أسماه “مخططات التقسيم” إلى تركيا، ما يبرر -من وجهة نظره- استمرار تركيا في حربها على الإرهاب بسوريا والعراق. ولذلك، من المتوقع أن يوظف “أردوغان” حادث الاغتيال بشكل مكثف، سواء في خطابه الداخلي الموجه للشعب التركي أو الخارجي الموجه إلى العالم الخارجي، لتبرير سياساته الداخلية الخاصة بتضييق الخناق على المعارضة المحلية، وتبرير تحركاته العسكرية الخارجية، وربط كل ذلك بمبرر حرب بلاده على الإرهاب.
ووفقًا لما تقدم، من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تحركات تركية واسعة، على المستويين السياسي والعسكري، الهدف المعلن منها هو القضاء على أنشطة حزب العمال الكردستاني، وفي الوقت ذاته العمل على تطبيق رؤيتها الإقليمية، خاصة تلك المرتبطة بمنطقة الشمال السوري وإنشاء منطقة آمنة.