يُضيف الهجوم النوعيّ الذي استهدف معسكر “الشهداء” التابع لميليشيا “حزب الله” العراقي، فجر الجمعة 19 يونيو 2019، بؤرة جديدة لبؤر التصعيد التي يشهدها الإقليم. وبحسب التفاصيل المعلنة حول العملية فإنها لا تختلف في أبعادها، ولا سيما على مستوى الشكل والنمط والأهداف، عن المواجهات غير النمطية الدائرة في المنطقة حاليًّا بين إيران والولايات المتحدة. وفي واقع الأمر، لم يكن المسرح العراقي مستبعدًا من دائرة الاحتمالات، إن لم يكن أقربها إلى التوقع لدى الكثير من المراقبين، إضافة إلى أن فصول التصعيد بين طهران وواشنطن بدأت أولى حلقاتها من على المسرح العراقي قبل أن تتصاعد على المسرح الخليجي لاحقًا.
ومن المتصور أن تمدد رقعة الأزمة بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها كإسرائيل من جهة أخرى، وفق بعض الروايات التي تبنّت أيضًا قيام إسرائيل بشن الهجوم ضمن محاولات البحث عن “من الفاعل؟”، يُعد مؤشرًا على فشل احتواء الأزمة المتصاعدة بين واشنطن وطهران، بل ويُعزز ذلك من سيناريو استمرار التصعيد والمواجهة غير النمطية. ذلك أن الساحة العراقية تختلف عن ساحات المواجهة الأخرى، فعلى المسرح العراقي تجتمع كافة الأطراف (قوات أمريكية، خبراء ومستشارون إيرانيون، ميليشيات)، بالإضافة إلى العديد من الدلالات والتداعيات والسيناريوهات الأخرى.
من الفاعل؟
ثمة سيناريوهات عديدة تم ترجيحها في سياق الإجابة عن التساؤل الرئيسي حول من الفاعل؟ وذلك بالنظر إلى الدوافع؛ فمن له المصلحة في استهداف موقع رئيسي لتسليح ميليشيا تابعة للحشد وموالية لإيران. وقد انحصرت هذه السيناريوهات في ثلاثة أطراف، هي:
السيناريو الأول- الولايات المتحدة
يستند هذا السيناريو إلى دقة الاستهداف وطبيعته، وامتلاكها طائرات دون طيار متقدمة، بالإضافة إلى امتلاكها معلومات حول الموقع. ووفقًا لتقارير استخبارية، فإن وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” اضطر إلى القيام بزيارة مفاجئة إلى العراق في أعقاب وصول معلومات عن إدخال إيران صواريخ باليستية إلى العراق عبر البصرة. وجاء ذلك في أعقاب جدل كبير حول مستقبل القوات الأمريكية في العراق بعد الأزمة التي تسببت فيها تصريحات للرئيس “ترامب” في يناير الماضي كشف فيها عن نيته نقل قواته من سوريا إلى العراق لمراقبة إيران. لكن الولايات المتحدة سارعت إلى نفي قيامها بضرب معسكر “حزب الله” العراقي، خاصة في ظل اتفاقية الدفاع المشترك مع العراق، لكن -في الوقت ذاته- كانت واشنطن قد أعلنت عن نيتها أنها ستواجه أي تهديد يواجه قواتها في العراق. كما أشارت تقارير عراقية محلية إلى أن الولايات المتحدة كانت تراقب الموقع وتشتبه فيما يحتويه. بل إن تقارير أمريكية رشحت أن يكون هجوم أرامكو في مايو الماضي جرى عبر طائرة دون طيار انطلقت من نفس المعسكر. بالإضافة إلى أن كلًّا من واشنطن وطهران تبادلتا السجال حول حادثتي الطائرتين دون طيار، الأولى استهدفتها إيران في شهر يونيو الماضي مؤكدة أنها دخلت الأجواء الإقليمية، وهو ما نفته واشنطن. والثانية كانت في 18 يوليو، حينما أعلن الرئيس “ترامب” استهداف طائرة اقتربت من إحدى قطعها البحرية، وهو نفته إيران في المقابل. إذن النفي المتبادل لا يؤكد أو ينفي حقيقة الأمور.
السيناريو الثاني- إسرائيل
تعددت الروايات التي تبنت قيام إسرائيل بالعملية، وذلك بالنظر لاعتبارات عدة، منها أن نقل صواريخ إيرانية إلى العراق يُعد المرحلة السابقة لرحلته إلى سوريا، بل إن تقديرات أخرى أشارت إلى أن موقع المعسكر الذي تم استهدافه يقع على أطراف سلسلة جبال طوز خرماتو التي تسيطر عليها قوات الحشد، ويُعد موقعًا مثاليًّا لقصف إسرائيل بتلك الصواريخ إذا ما قررت ذلك في حال اندلعت أي مواجهة. وبالتالي تُشكل ضربة استباقية من جانب إسرائيل للموقع.
وكعادتها في استهداف مواقع إيرانية داخل سوريا، لا تكشف إسرائيل رسميًّا طبيعة الضربات التي توجهها، لكن في حال كانت إسرائيل هي التي قامت بهذه الضربة فإنها تُعد سابقة في تاريخ المواجهة التي تدور رحاها مع إيران على الجبهة السورية.
ويدعم هذا السيناريو العديد من التقديرات الاستخباراتية أيضًا التي أشارت إلى أن أقمار التجسس الإسرائيلية تراقب حركة إيران عبر الحدود مع العراق، وأيضًا عبر الحدود بين العراق وسوريا، وأنها كانت وراء تقديم معلومات للجانب الأمريكي حول إدخال إيران صواريخ إلى العراق. لكنّ بعض التقارير ربطت بين تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” الخميس (18 يونيو) التي هدد فيها إيران بالطائرات الإسرائيلية التي تطال كل مكان في الشرق الأوسط، على حد قوله. وفي رواية أخرى -تبنتها العديد من المواقع الإخبارية المحسوبة على الميليشيات العراقية- فإن المعسكر تم استهدافه بثلاث رؤوس حربية إسرائيلية Loitering Munitions موجهة تم إطلاقها من طائرة F16 عبر عملية تسلل جوي إلى جنوب شرق الرطبة من فوق نقطة مفترق الطريق الدولي بغداد-عمّان وبغداد-دمشق.
السيناريو الثالث- داعش
بعض الروايات العراقية لمصادر أمنية تبنت احتمال قيام التنظيم بشن تلك الهجمات، وإن كانت تلك الروايات ضعيفة؛ فالتنظيم في حالة مطاردة قوية في محافظة صلاح الدين ضمن عملية “إرادة النصر”، وليس لديه قدرات لاستهداف الموقع على هذا النحو. كذلك، فإن التنظيم في أوج قوته لم تكن لديه تلك القدرات، بالمقارنة بالحالات التي استخدم فيها التنظيم في السابق طائرات دون طيار، كما أن التنظيم لم يتبنّ العملية على النحو المعتاد.
دلالات رئيسية
ثمة عدد من الدلالات التي يكشف عنها الحدث، بعضها يتعلق بالعملية ذاتها، وبعضها يتعلق بالأبعاد الاستراتيجية على المسرح العراقي في ضوء العملية، وبعضها يتعلق بمسار علاقات الأطراف مع إيران. وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- طبيعة الهدف: الموقع المستهدف هو معسكر لميليشيا “حزب الله” العراقي في منقطة أمرالي جنوب كركوك شمالي محافظة صلاح الدين، ويُعد من المعسكرات الاستراتيجية، كونه يشكل مخزن تسلح وورش تطوير صواريخ إيرانية، ومركز قيادة عمليات تابع لفيلق القدس يشرف عليه “إقبال بور” مساعد “قاسم سليماني” قائد الفيلق، وبالتالي يُعد هدفًا أساسيًّا لأطراف عديدة، خاصة مع تواتر العديد من التقارير الاستخباراتية الأمريكية-الإسرائيلية التي أفادت بأن طهران نقلت شحنات صواريخ إلى العراق عبر البصرة منذ أبريل الماضي، وأن هذه الصواريخ تم تخزينها في مواقع تسيطر عليها الميليشيات الموالية لإيران، فضلًا عن وجود خبراء إيرانيين وخبراء من “حزب الله”.
2- طبيعة الهجوم: يكشف أسلوب الهجوم أن الجهة التي تقف وراء العملية تمتلك قدرات وحرفية على شن هجمات دقيقة، فالهجوم كان مفاجئًا، وجرى بناء على معلومات حول طبيعة المكان، حيث تمت إصابة الهدف على مرتين على التوالي في غضون نصف ساعة تقريبًا.
3- أداة الهجوم: جرى الهجوم باستخدام طائرة هجومية بدون طيار، حملت في كل هجمة قنبلتين قابلتين لتفجير الصواريخ المخزنة وورش تطويرها، وهي نوعية ليست متاحة لتنظيمات محلية، أو سبق استخدامها على الساحة العراقية. وهي أيضًا طائرات لديها القدرة على التخفي، حيث لم يتم رصدها، وربما عامل التوقيت أيضًا لعب دورًا في تلك الحسابات. لكن من المفترض أيضًا عدم حصر الرواية في استخدام الطائرات دون طيار فقط في الهجوم، فهناك احتمال أن يكون القصف جرى باستخدام صواريخ موجهة من طائرات هجومية.
4- قواعد الاشتباك بين واشنطن وطهران: فمظاهر العلاقة بين الطرفين تغيرت بشكل كامل من “التنسيق”، حتى ولو عبر العراق كوسيط إن لم يكن مباشرًا إلى “المواجهة” -ما دون الحرب- حتى الآن، وهو ما يرتبط أيضًا بمتغيرات الموقف الاستراتيجي لدى الأطراف، فإيران حولت استراتيجيتها “الدفاعية” لحماية وتأمين تمددها الإقليمي حتى شرق المتوسط عبر العراق وسوريا إلى استراتيجية “هجومية” في إطار التصعيد مع الغرب، وكذلك رد الفعل الأمريكي والإسرائيلي أيضًا الذي يراقب إيران عن كثب في الإقليم، وكلاهما يرى أن تحويل الساحة العراقية إلى مخزن تسلح على غرار الساحة السورية يشكل تجاوزًا للخطوط الحمراء.
5- تأكيد الاحتمالات: لم تختلف التقارير التي تناولت الحادث وما أسفر عنه من انفجار صواريخ وسقوط العديد من القتلى بينهم خبراء إيرانيون، وبالتالي فإن ما كان مجرد تكهنات في السابق بأن إيران تقوم بتخزين صواريخ في العراق أصبح الآن مؤكدًا.
تداعيات محتملة
هناك مجموعة من التداعيات المحتملة لهذه العملية، نوجزها فيما يلي:
1- أن عدم الإعلان عن الجهة التي تقف وراء العملية لا يعني أنه لم يتم التعرف على من الفاعل؟ وبالتالي من المتصور أن هناك هجومًا محتملًا للرد على العملية من جانب الميليشيات العراقية الموالية لإيران، خاصة في ظل تصاعد الاحتقان بين الميليشيات والولايات المتحدة. فقبيل الحادث بيوم واحد كانت الولايات المتحدة أضافت عقوبات جديدة على زعامات الحشد. وحتى لو تبنت إيران رواية ضلوع إسرائيل في الهجوم، فستبادر إلى استهداف الولايات المتحدة بنفس الآلية أيضًا، ولن تقدم على قصف إسرائيل لأنها تدرك أن ذلك قد يعني إطلاق شرارة الحرب، وهو ما تدعمه أيضًا خبرات المواجهة في سوريا، حيث تستهدف الطائرات الإسرائيلية مواقع إيرانية فيما يتصدى الجيش السوري لذلك بأنه يحتفظ لنفسه بحق الرد. فضلًا عن أن إيران ووكلاءها لا يميزون بين الطرفين.
2- أصبح الوجود الإيراني في العراق هدفًا للعديد من الأطراف. وإن صحّت الروايات التي ترشح وقوف إسرائيل وراء الهجوم على المعسكر، فمن المتوقع أن يتحول العراق إلى مسرح جديد للهجمات الإسرائيلية على غرار الحالة السورية، لا سيما مع وجود نحو 6 معسكرات إيرانية في تلك المنطقة، بالإضافة إلى النشاط الواسع للحرس الثوري فيها.
3- ستوثر أي مبادرة للرد من جانب الميليشيات العراقية على مسار عمليات مكافحة “داعش” الدائرة حاليًّا في إطار عملية “إرادة النصر”، حتى وإن كان حضور الميليشيات العراقية المشاركة فيها أقل من مشاركتها السابقة إبان فترة العمليات الرئيسية.
4- ستؤثر العملية على محاولات إدماج فصائل الحشد، حيث توشك المهلة التي منحها إياها رئيس الحكومة في يناير الماضي وهي سته أشهر لتوفيق أوضاعها على الانتهاء. وعلى الرغم من ضعف الاستجابة من جانب تلك الفصائل، لكن من المؤكد أن الحادث سيزيد موقفها صلابة في رفض مشروع الاندماج.
إجمالًا، يمكن القول إن العراق دخل على خط المواجهة بين إيران وخصومها، ما يشكل ساحة للمواجهة قد تكون الأخطر بين الساحات التي تشهد فصول التصعيد بين إيران والولايات المتحدة، ما يضاعف من أزمات العراق على الجانب الآخر، وسيضيف المزيد من الأعباء على العراق الذي لن يكون بمقدوره تحملها أو العمل على احتوائها على النحو السابق. كما ستؤدي نتائج قواعد الاشتباك الجديدة بين طهران وواشنطن إلى فرض واقع جديد لن يقتصر على مسار العلاقة بينهما على الساحة العراقية، وإنما على معادلة التوازن الشاملة بينهما على تلك الساحة ودوره المستقبلي.