بعيدا عن التحليلات المعقدة التى تتحدث عن عودة الولايات المتحدة للسيطرة على ثروات المنطقة، أو تضخيمها خطر إيرانى من أجل المزيد من ابتزاز دول الخليج، أو المساعى الإيرانية للهيمنة الشيعية على الإقليم، فإن التصعيد الحالى والمتبادل بين إيران والولايات المتحدة قد يعود الى أسباب أكثر بساطة من ذلك، وقد لا تشكل هذه الاعتبارات الاستراتيجية الكبرى جزءا أساسيا منها.
المسألة ببساطة تعود الى رهان أمريكى يقابله رهان إيرانى حول الهدف الذى يمكن الوصول اليه من التصعيد.
الرهان الأمريكى بدأه الرئيس ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران.
مبررات الانسحاب لم يكن لها ارتباط كبير باعتبارات أيديولوجية أو استراتيجية بشأن خطر إيران، و لكن كما جاء فى برقية السفير البريطانى السابق فى واشنطن الى وزير خارجيته والتى تسربت أخيرا واستقال السفير فى أعقابها، فإن الانسحاب تم لأسباب شخصية، لأن الاتفاق مع إيران كان قد وافق عليه سلفه الديمقراطى باراك أوباما، أى أنها كانت صفقة أوباما و ليس صفقة ترامب.
وتشير البرقية الى أن البيت الأبيض لم يكن لديه استراتيجية حول كيفية المضى قدماً عقب الانسحاب من الاتفاق.
هدف ترامب إذن أن يلغى صفقة أوباما و يتوصل الى صفقته هو مع إيران، و لا يهتم أن تكون هذه الصفقة الجديدة مختلفة بشكل كبير عن القديمة. وقد جاء هذا المعنى فى تقرير نشر حديثا بموقع بوليتكو الأمريكي، وكان عنوانه: صفقة ترامب الأفضل مع إيران تشبه إلى حد كبير صفقة أوباما، و جاء فيه أنه فى الأسابيع الأخيرة، أشار الرئيس ترامب إلى أن صفقة عهد أوباما قد لا تكون سيئة للغاية، وحث ترامب إيران مرارًا وتكرارًا على الدخول فى مفاوضات معه، كما تضمن التقرير آراء عدد من المحللين والمسئولين الأمريكيين السابقين، أشارت الى أن ترامب يريد إبرام صفقة تعكس بشكل أساسى الاتفاق الذى وقعه سلفه فى البيت الأبيض، رغم أنه لا يعترف به الآن.
ترامب قرر استخدام ما يعرف بإستراتيجية أقصى الضغوط كى تأتى إيران لمائدة المفاوضات، بدءاً بعودة العقوبات الاقتصادية التى تم رفعها عند التوقيع على الاتفاق، ومرورا بفرض المزيد من العقوبات، منها الحظر الكامل لتصدير البترول الإيرانى و إلغاء أى استثناءات بهذا الشأن، وحتى زيادة الوجود العسكرى بالخليج، والدعوة لإنشاء قوة دولية لحماية ناقلات البترول فى مياه منطقة الخليج.
أى ببساطة ودون تعقيدات يراهن ترامب على زيادة الضغوط على إيران من أجل تحقيق انتصار دبلوماسى شخصى بالتوصل لاتفاق جديد بشأن البرنامج النووى الإيراني، يرتبط باسمه وليس باسم سلفه أوباما.
أما الرهان الإيرانى فهو قائم على حرمان ترامب من الحصول على هذا الانتصار الدبلوماسي، الذى تعتقد إيران أنه قد يساعده فى الفوز مرة أخرى فى انتخابات الرئاسة المقبلة، وبالتالى لا تريد أن تقدم له هذه الهدية، لاعتقادها أن بقاءه فى البيت الأبيض ليس فى مصلحتها بشكل عام، حتى لو كانت أفكاره بشأن الاتفاق النووى الجديد لا تختلف كثيرا عن أفكار سلفه أوباما، وأن مجرد عودة إيران للتفاوض دون قيام إدارة ترامب بتقديم بعض التنازلات بشأن العقوبات يمثل تنازلا إيرانيا من طرف واحد لا تقبله القيادة الإيرانية، كما تدرك إيران أن ترامب لا يريد التورط فى حرب جديدة بالشرق الأوسط.
باختصار فإن إيران تراهن على الانتظار، وتحمل أعباء العقوبات حتى موعد الانتخابات الامريكية المقبلة بدلا من التفاوض والمساهمة فى فوز ترامب لو تفاوضت معه الآن، خاصة أن غالبية المرشحين المنافسين لترامب من الحزب الديمقراطى قد أعلنوا أنهم سيعودون للاتفاق النووى مع إيران لو وصل أحدهم للبيت الأبيض.
أما قيام إيران ببعض التصعيد فهدفه التلويح للولايات المتحدة بأنها قادرة على الحركة و الرد رغم العقوبات المفروضة عليها.
ختاما، فإن الرهانين الأمريكى والإيرانى محسوبان بدقة، ولايتضمن أيهما تصعيدا لعمل عسكرى شامل، كما أن كليهما يركز على القضايا المتعلقة بالبرنامج النووي، ولا يضع فى اعتباره الآن او فى حالة التوصل لاتفاق جديد المطالب الأخرى المتعلقة بتغيير السلوك الإيرانى فى المنطقة، ولا عزاء للعرب.
*نقلا عن صحيفة “الأهرام”، نشر بتاريخ ٢٦ يوليو ٢٠١٩.