ينطوى التسجيل الصادر عما يطلق عليه “المكتب الإعلامى في تونس” التابع لتنظيم داعش خلال شهر يوليو 2019 على تهديدات محتملة أمام الدولة التونسية، فبالرغم من قدرة تونس على تقييد تحرك التنظيمات الإرهابية، بشكل أو بآخر، داخل أراضيها خلال السنوات الأخيرة، لاتزل التهديدات الإرهابية قائمة في ظل استراتيجية داعش للتمدد الجغرافى بعد فقدان التنظيم الأراضى التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق، ناهيك عن الصراعات المستمرة داخل ليبيا منذ سقوط نظام القذافى والتي تخلق سياقا محفزا لداعش لاتخاذ ليبيا كدولة “ترانزيت” يمكن عبرها الانتقال إلى دول الجوار الأخرى بما فيها تونس.
دلالات رئيسية
أصدر ما يطلق عليه “المكتب الإعلامى في تونس” التابع لتنظيم داعش تسجيل فيديو على شبكة الإنترنت في 16 يوليو 2019، دعا فيه إلى شن المزيد من الهجمات داخل تونس، والتأكيد على الإرتباط بتنظيم داعش، حيث ظهر بالتسجيل مجموعة من المسلحين الملثمين حاملين الرشاشات، وهم يؤكدون على ولائهم لداعش.
وبوجه عام، يحمل التسجيل عددا من الدلالات المهمة، أبرزها ما يلي:
1- تجديد البيعة: فقد أظهر الفيديو مجموعات من الأفراد وهم يقولون “نبايع أمير المؤمنين وخليفة المسلمين الشيخ أبو بكر البغدادى الحسينى القرشي على السمع والطاعة… الله أكبر، دولة الإسلام باقية”. ويستدعي ذلك إلى الأذهان فكرة البيعة كأحد الأفكار المهيمنة على العلاقة بين تنظيم داعش والعناصر التابعة له منذ إعلان التنظيم خلافته المزعومة في يونيو 2014، ومطالبة المسلمين بالولاء للتنظيم وزعيمه.
لقد وجدت فكرة “البيعة” للتنظيم صدى لدى البعض داخل تونس؛ ففي ديسمبر 2014 أصدرت جماعة تُطلق على نفسها “جند الخلافة في تونس” تسجيلاً صوتياً تعهدت فيه بالولاء. كما أيدت جماعة تُدعى “شباب التوحيد”، من خلال شبكة الإنترنت، مبادرة أطلقت عليها “إماراة القيروان: تونس الإسلامية”، وهى المباردة التي بدت كمحاولة لتأسيس إماراة جديدة لداعش داخل تونس.
ودفعت هذه التطورات تنظيم داعش المركزى إلى إعطاء المزيد من الإهتمام الدعائى بتونس، حيث نشر التنظيم تسجيل فيديو بعنوان “رسالة موجهة إلى شعب تونس”، في 17 ديسمبر 2014 تضمنت دعوة التونسيين إلى مبايعة التنظيم وشن هجمات باسمه. وفي أبريل 2015 تم توجيه خطاب من قبل أحد عناصر داعش الملقب بـ “أبو يحيى التونسى” حث فيه التونسيين على السفر إلى ليبيا للتدريب ثم العودة إلى تونس مجدداً لإقامة فرع لداعش.
2- حساسية الترابط sensitivity interdependence: ويشير ذلك إلى أن أعضاء الشبكة الإرهابية، بسماتها اللامركزية، يصبح لديهم حساسية تجاه الأفعال والإجراءات التي تطال أحد أعضاء الشبكة. ومثل هذا الأمر بدا واضحاً، بشكل أو بآخر، في الفيديو الصادر عن “المكتب الإعلامى في تونس”، إذ ظهر التسجيل كما لو كان محاولة من عناصر داعش لدعم التنظيم وقيادته نفسياً ومساندته في ظل الهزائم التي تعرض لها في سوريا والعراق.
وفي هذا السياق، ظهر في التسجيل شخص يُدعى “أبو عمر التونسى” وهو يوجه كلامه إلى زعيم تنظيم داعش “أبو بكر البغدادى” قائلاً “إن جنودك وأبناءك في أرض القيروان بخير ونعمة، ثابتون على الحق بإذن الله رغم الشدائد والابتلاءات، فأبشر بما يسرك وإخوانك”. وبعيداً عن احتمالات أن تكون هذه الرسالة لا تعكس قوة فعلية لأتباع التنظيم فيما يطلق عليه “أرض القيروان”، إلا أنها تنطوى على محاولة لمساندة التنظيم والتعاطى مع الصدمة النفسية الناجمة عن انهيار الخلافة المزعومة لداعش.
بمعنى آخر، تعكس هذه الرسالة نوعا من إنكار الواقع كآلية من آليات الدفاع النفسى التي تلجأ إليها التنظيمات الإرهابية، إذ تفترض هذه الآلية حالة من التجاهل والإنكار الذهنى للواقع الخارجى بصورة تكشف عن أزمة جوهرية في إدراك أعضاء التنظيم لهذا الواقع، خاصة عقب الهزائم التي يتعرضون لها.
3- دلالة التوقيت: التسجيل صدر بعد أيام من تنفيذ تنظيم داعش هجومين إرهابيين داخل تونس؛ ففي 27 يونيو 2019 قام إنتحارى بتفجير نفسه بالقرب من دورية للشرطة في وسط العاصمة تونس. وبعد ذلك الهجوم قام إرهابى آخر بتنفيذ هجوم بالمتفجرات على مركز للشرطة في منطقة قرجانى بالعاصمة.
ربما يكون إطلاق الفيديو بعد هذه الهجمات بأيام هو محاولة من جانب عناصر التنظيم لاستغلال الزخم الناتج عن هذه الهجمات، وتعزيز جدية التهديدات التي تواجهها الدولة، لاسيما أن الفيديو تضمن تهديدات صريحة للدولة التونسية، إذ عرض الفيديو شخص يُعرف بـ “أبو خالد التونسى” وهو يقول “التحقوا بإخوانكم المجاهدين، ومن عجز عن ذلك فدونكم أعداء الله، حولوا أمنهم رعباً، وفرحهم حزناً، ودونكم رعايا دول الصليب في بلادكم، أكتموا أنفاسهم وحولوا سياحتهم نياحاً”.
تهديدات محتملة
أطلق تنظيم داعش في 29 أبريل 2019 تسجيل فيديو بعنوان “في ضيافة أمير المؤمنين”، ظهر خلاله زعيم التنظيم “أبو بكر البغدادى” وهو يستعرض آخر تطورات التنظيم وعملياته. ومن الأمور المثيرة للإنتباه في هذا التسجيل أن البغدادى ظهر في التسجيل وهو يمسك بيديه ملف بإسم “تونس”. ولا يمكن إغفال أن الجمع بين هذا التسجيل والفيديو الأخير الصادر عما يُعرف بـالمكتب الإعلامى في تونس التابع لداعش، يكشف عن رغبة داعش لتوسيع نشاطه في منطقة شمال أفريقيا، وبالتبعية إنتاج موجة جديدة من التهديدات المحتملة للدولة التونسية.
ربما تتعزز هذه التهديدات بفعل المتغيرات الإقليمية والداخلية. فعلى الصعيد الإقليمى، قد يستغل تنظيم داعش ما يجرى داخل ليبيا والصراعات القائمة من أجل تدعيم تواجده داخل ليبيا. وظهر ذلك -على سبيل المثال- في الفيديو الصادر عن داعش خلال شهر يوليو 2019 تحت عنوان “العاقبة للمتقين”، والذي أظهر مجموعة من الأشخاص وهم يجددون البيعة لزعيم داعش ويؤكدوا على استمرار قتالهم ضد ما أسموه “ملل الكفر” ومواصلة الجهاد في ليبيا.
وأشار بيان صادر عن وكالة أعماق -الذراع الإعلامية لداعش- عن الهجمات التي نفذها التنظيم خلال النصف الأول من عام 2019 إلى أن التنظيم نفذ 12 هجوما في ليبيا أدى إلى مقتل وإصابة ما يقرب من 135 شخص. وأوضح البيان أيضاً أن التنظيم نفذ عدة هجمات في مناطق وسط وجنوب ليبيا، وهو ما يكشف عن تحولات في النطاق الجغرافى لعمليات التنظيم.
تشكل هذه المعطيات عنصر ضاغط على تونس، خاصة مع الحراك الجغرافى الذي يتبناه داعش في مرحلة ما بعد فقدان أراضيه في سوريا والعراق، ذلك أن التنظيم قد يسعى إلى التمدد في منطقة شمال أفريقيا، بما في ذلك تونس وليبيا، باعتبارها منطقة حيوية، فضلاً عن إمكانية استخدامها كمنطقة “ترانزيت” يمكن عبرها الإنتقال إلى منطقة الساحل الإفريقى بوصفها أحد المناطق المرشحة للتمركز الجديد لداعش.
وعلى الصعيد الداخلى، من المحتمل أن يوظف تنظيم داعش العلاقة التي أسسها مع المقاتلين التونسيين، الذين يقدر عددهم بالآلاف، أثناء إنضمامهم للقتال في سوريا والعراق لاسيما أن العديد من التونسيين قد شاركوا في هياكل القيادة الخاصة بالتنظيم على غرار “أبو سياف التونسى” الذي كان يشغل، قبل مقتله، منصب رئيس ديوان الركاز التابع لداعش في محافظتى دير الزور والحسكة. وفي السياق ذاته، قامت “أم ريان” التونسية بتأسيس “لواء الخنساء” الشهير التابع لداعش. كما تشير بعض المصادر إلى أن “فاضل منسى” المعروف بـ “أبو يسرى التونسى” كان أحد أهم مطورى برنامج داعش الخاص بالطائرات بدون طيار.
هذا الإرث يمكن أن يقدم لداعش مدخلا للبحث عن مؤيدين له داخل تونس واستقطاب عناصر جديدة. وقد يستغل التنظيم هنا أيضاً الأحداث السياسية في تونس والإنتخابات القادمة، خاصة بعد وفاة الرئيس التونسى “الباجى قايد السبسى”، من أجل زعزعة الاستقرار الداخلى في تونس. ومن ثم، من المرجح أن يتريث التنظيم للتعرف على ديناميات التفاعل والعلاقة بين الفاعلين السياسيين خلال الفترة القادمة ويتحين فرصة حدوث خلافات وصراعات سياسية تنعكس إيجابياً على نشاطه الإرهابى.
وختاماً، بالرغم من أن الفيديو الصادر عن المكتب الإعلامى في تونس التابع لداعش لا يكشف عن تحول نوعى في مساحة تواجد داعش داخل تونس، بيد أن السياقات والمتغيرات المصاحبة للفيديو وتوقيت صدوره تحتم أخذ التهديدات المتضمنة فيه على محمل الجد، ناهيك عن أن التسجيل قد يدلل على إحتمالية تصاعد موجة من “إرهاب الهواة”، أو ما يطلق عليه “ريتشارد هاس” إرهاب التجزئة terrorism of retail actions الذى يتم تنفيذه من خلال أفراد ومجموعات صغيرة لاستهداف أى مكان متاح داخل الدولة، وذلك باستخدام أدوات وآليات متنوعة تبدأ بأرخص الأسلحة كالأسلحة الحادة، وتنتهى بأكثر الأسلحة والأدوات تعقيداً وتدميراً.