يُعد انتخاب “بوريس جونسون” لرئاسة حزب المحافظين البريطاني تصحيحًا تأخر كثيرًا لوضع غير طبيعي، وهو وجود رئيس وزراء -السيدة “تريزا ماي”- ينفذ سياسة لا يقتنع بها نفسه، ذلك أن “ماي” كانت من أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي. لا يمكن بالطبع نسبة تفاقم الأزمة التي تصيب المملكة المتحدة إلى هذا العامل وحده دون غيره، ولا يجوز أيضًا التقليل من قدرات “تريزا ماي”، لكن صعود “جونسون” يُعد تطورًا قد يحرك الأزمة إلى الأفضل أو إلى الأسوأ.
السبب المباشر والقضية الرئيسية هي البريكزيت كما هو معلوم. ونلخص المسألة كالتالي:
أولًا- هل الخروج من الاتحاد هو خروج من الاتحاد وهياكله ومجالسه فقط أم هو أيضًا خروج منه ومن السوق المشتركة ومن الاتحاد الجمركي؟ علمًا بأن البقاء في السوق المشتركة يعني الموافقة على حرية حركة الأفراد والبضائع.
ثانيًا- أين توضع الحدود؟ للمملكة المتحدة حدود مع جمهورية أيرلندا الجنوبية، وإقامة الحدود على الخط الفاصل بين البلدين يعني مخالفة الاتفاقات التي أنهت الحرب الأهلية في إقليم أيرلندا الشمالية، وهو جزء من المملكة. أما إقامة الحدود والجمارك بين إقليم أيرلندا الشمالية وسائر المملكة فيقتضي تغيير الدستور، ويثير اعتراض فصائل مهمة من بروتستانت أيرلندا الشمالية. وقد نص الاتفاق الذي وقعته “ماي” مع الاتحاد -والذي رفضه البرلمان- على عدم وجود حدود بين المملكة وأيرلندا إلى أن يتم تنظيم مستقبل العلاقة بين المملكة والاتحاد. ويرفض “جونسون” وغيره بشدة هذا البند.
ثالثًا- كيف يتم تنظيم الفترة الانتقالية بين الخروج وإعادة تنظيم العلاقة بين المملكة والاتحاد. فقد نصّ اتفاق “ماي” مع الاتحاد على الخضوع لقوانين الاتحاد بعد الخروج وإلى حين توقيع الاتفاق النهائي. ويعني ذلك أن المملكة تخضع لقوانين ولوائح لا تشارك في وضعها. وبالطبع يرفض “جونسون” هذا، ويرى فيه قبولًا بما لا يمكن قبوله.
رابعًا- هناك مشكلة أكثر عمومية. شاء البريطانيون أم أبوا، فإن الشريك التجاري والاقتصادي والسياسي الأساسي لهم هو الاتحاد الأوروبي وليس الولايات المتحدة. ويرى “جونسون” (المولود في الولايات المتحدة) أن الخروج من الاتحاد سيسمح فيما يسمح بتعميق العلاقة مع الولايات المتحدة، وبإعادة تنظيمها. ومن الواضح أن تنفيذ هذا البرنامج يفترض أن الإدارة الأمريكية أيًّا كانت ستقدم عرضًا مجزيًا، أو توافق على مقترحات بريطانية، وستفضل بريطانيا على دول الاتحاد. وكل هذا غير مضمون حتى مع الرئيس “ترامب”، ذلك أن الولايات المتحدة أقل تمسكًا من المملكة بالعلاقة الخاصة بينهما، ناهيك عن ميل الرئيس الأمريكي إلى طلب ثمن باهظ من الأطراف التي يُحس بضعفها. وعلى العموم، وحتى لو افترضنا وجود إرادة صادقة من الجانبين؛ فإن عملية إحلال الارتباط بالولايات المتحدة محل الارتباط بالاتحاد الأوروبي ستستغرق وقتًا طويلًا، وستواجه صعوبات جمة (على سبيل المثال لا الحصر ستضطر المملكة إلى مراجعة كافة قوانينها ولوائحها ومعايير الجودة السائدة).
ولا يجوز التهوين من تأثير الأزمة على البنية السياسية للمملكة، ومن المبكر جدًّا الحكم على قدرة المملكة على تجاوزها. فقد نتج عن الأزمة عدد من النتائج. فمن ناحية، كان الإسهام الأوضح للأزمة هو إضعاف الأحزاب التقليدية، ليس فقط بسبب الانقسامات الداخلية حول العولمة والاتحاد الأوروبي والقضايا الهوياتية، ولكن لأن الأوساط السياسية كلها فقدت ثقة المجتمع البريطاني. ومن ناحية ثانية، أضعف اللجوء إلى الاستفتاء مبدأ الديمقراطية التمثيلية، لا سيما وأن ممثلي الشعب عجزوا إلى الآن عن تنفيذ إرادته. ومن ناحية ثالثة، فقد سممت الأزمة العلاقات بين السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ فقد حاولت “ماي” حرمان البرلمان من بحث اتفاق الخروج الذي وقّعته، وتدخلت السلطة القضائية لمنعها من هذا، مما عرض السلطات الثلاث لانتقادات. من ناحية رابعة، تسبب تفرغ الإدارات الحكومية والنخب البريطانية للاستعداد لمختلف سيناريوهات البريكزيت في تعطيل معالجة قضايا أخرى بالغة الأهمية، أبرزها ازدياد معدلات الفقر واتساع الفوارق بين الطبقات مما فاقم من أزمات المجتمع وفاقم من الاحتقان. من ناحية خامسة، يمكن القول إن البريكزيت طرح سؤالَيِ الهوية وإمكانية إعادة التأسيس، ولحظات إمكانية إعادة التأسيس هي لحظات الاستقطاب الحاد، بين الأجيال، بين المدن الكبرى المستفيدة من العولمة وسائر القطر، بين حاملي المؤهلات العليا وغيرهم.
وأخيرًا وليس آخرًا، هناك خوف على مستقبل المملكة، ذلك أن الأسكتلنديين والأيرلنديين من أنصار البقاء في الاتحاد على عكس الإنجليز وسكان ويلز. ويمكن القول فيما يتعلق بأيرلندا أن الأغلبية الساحقة للكاثوليك مع البقاء في الاتحاد، أما البروتستانت فهم منقسمون، علمًا بأن حزب المحافظين يحتاج إلى تأييد حزب أيرلندي مؤيد للخروج لممارسة الحكم، لأنه لا يتمتع بأغلبية مطلقة. ويعني هذا أن هناك احتمال اختيار أسكتلندا الاستقلال عن المملكة، واحتمال تعرض أيرلندا لهزات.
هذا هو الوضع الذي يرثه “بوريس جونسون”، وهو طبعًا شارك في إيجاده.
لقد أطال الإعلام الدولي في محاولته لفك مفاتيح هذه الشخصية الفريدة. لكنّ أعداءه يصفونه بأنه يميني عنصري، هاوٍ لا يعرف الملفات، ولا يهتم بالتفاصيل على أهميتها، ولا يأخذ أي شيء على محمل الجدية، كاذب، يقبل الجمهور أكاذيبه لأنه خفيف الظل، ابن شريحة من المجتمع اعتاد أبناؤها عدم دفع فواتير أخطائهم، مع ميل إلى اعتبار أنفسهم فوق القانون، مع عدم قدرته على لجم لسانه المحب للتنكيت، حيث يتسبب هذا في أزمات غير ضرورية مع الحلفاء والشركاء والأعداء، وعدم إيمانه بقناعات حقيقية. حياته الشخصية توحي بأنه غير مسئول وغير مستقر، لا يقاوم نزواته. وطبعًا يُقال إنه نسخة من “ترامب”، شرس، عدواني، سلطوي، محب للتسريحات المضحكة.. إلخ.
ويرد المدافعون عنه على هذا الكلام قائلين إنه مثقف ثقافة رفيعة مبهرة، متأثر بكتب “هوميروس” و”أرسطو”، وأنه نجح في أن يكون عمدة لندن لفترتين رغم أن العاصمة تميل تقليديًّا إلى اليسار. ويضيفون أنه كان عمدة ناجحًا، وأن كل من عمل معه أحبه قبل وأثناء دخوله معترك السياسة، وأنه يملك قدرة هائلة على الاهتمام بفريقه، وأن من اشتبك معه لم يغضب منه، وأن الفوضى الظاهرة في مسلكه تخفي قدرة هائلة على التركيز على تحقيق أهدافه، وأن كونه ينتمي إلى علية القوم لا يعني أنه لم يعانِ في طفولته، فالعائلة عرفت أزمة والد غائب وأم انهارت فجأة انهيارًا عصبيًّا أثر على الجميع. ويقولون إن ميله إلى الحركات البهلوانية هو نوع من الدفاع عن النفس والتمويه والرغبة في كسب حب الناس. وأخيرًا يقولون إنه يمتلك خصال القادة الكبار أو بعضًا منها على الأقل.
ولا نستطيع التفضيل والحسم، ونكتفي بسرد بعض الأفكار التي تولدت لدينا:
أولًا- هناك استياء شعبي عام في أوروبا وفي المملكة المتحدة من حكم الخبراء ومن طغيان الملمين بالملفات، الذين يلقنون العامة دروسًا ويوبخونها لأنها لا تحب سياساتهم. الإعلام الليبرالي يميل إلى اعتبار المعادين لتوصيات النخبة من الشعبويين والبهلوانات. ومن الواضح أن الوصف الأدق لـ”جونسون” أنه مثقف لا يحب الأيديولوجيات، ويفضل مقاربات دون أفكار مسبقة، وإن كان حاملوها من الملمين بالملفات. وأنه بصفة عامة يؤمن بمبادئ الليبرالية فيما يتعلق بالاقتصاد الحر والتسامح، مع استثناء بالغ الأهمية؛ فهو يكره الاتحاد الأوروبي. ولا نعرف تحديدًا إن كان هذا لأنه يؤمن بالقومية البريطانية، أم لأنه لا يثق في خبراء الملفات المنفصلين عن الواقع، المتعالين على الجميع؟. الأرجح أن العاملَيْن مؤثران، نشير فقط أنه عمل كصحفي في بروكسل، أي إن موقفه من الاتحاد -مبدئيًّا كان أم خلاصة تجربة- لا يمكن نسبته إلى الجهل بالوضع. وأخيرًا فهو قطعًا ليس نسخة بريطانية من الرئيس “ترامب”.
ثانيًا- “جونسون” يعرف العالم، ويعرف جيدًا كلًّا من المملكة والولايات المتحدة وأوروبا والصين، وموقفه من الصين قد يعرقل تطور علاقاته مع الرئيس “ترامب” لأنه من أنصار تنمية التجارة معها.
ثالثًا- “جونسون” له خصال تعجب أنصار الخروج وأخرى منفرة لهم، وله خصال تعجب أنصار البقاء في الاتحاد وأخرى منفرة لهم، أي إنه من الممكن أن يوسع من قاعدة تأييده، ومن الممكن أيضًا خسارتها بالكامل.
“جونسون” بدأ بداية قوية رغم تورطه في وعد بتخفيض الضرائب، وصفه الخبراء بعدم الواقعية، فهو أعاد تشكيل الحكومة لتكون على صوت واحد ولتأخذ على محمل الجد مبدأ المسئولية التضامنية الذي تجاهله وزراء “ماي”. وأعلن مكررًا أنه سيلتزم بالخروج من الاتحاد -سواء توصل إلى اتفاق مع بروكسل أم لا- في اليوم المحدد وهو ٣٠ أكتوبر 2019، أي إنه لن يطلب تجديد المهلة. وكلف مخلصين بتحضير التعامل مع سيناريو الخروج من الاتحاد بدون اتفاق ومع مخاطره. ويعتقد المراقبون أن هذا التوجه يهدف إلى دفع الاتحاد إلى تقديم تنازلات لتفادي السيناريو الأسوأ للطرفين.
المشكلة الرئيسية لم تتغير. لا يوجد حاليًّا حل، اتفاق ماي/الاتحاد، الخروج دون اتفاق، البقاء، تنظيم استفتاء جديد، يمكنه الحصول على تأييد أغلبية النواب. وبالتالي لا يوجد إلا مخرجان: عرض أكثر سخاء من بروكسل، أو تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة. ويبدو فعلا أن “جونسون” يجهز نفسه لهذا. وأنه سيخوضها ببرنامج واضح لا لبس فيه.
من المبكر جدًّا التوقع المتمتع بقدر من المصداقية، الكثير سيتوقف على موقف الاتحاد، وعلى توقيت الانتخابات، قبل أو بعد ٣٠ أكتوبر. وهذا التوقيت لا يتحكم فيه “جونسون” كاملًا، لأنه متوقف أيضًا على درجة شعبيته وعلى خيارات القوى البرلمانية الأخرى، ومنها معارضوه من أعضاء حزبه.
في هذه الانتخابات ستكون معضلة “جونسون” استرداد الناخبين الذين أعطوا صوتهم لحزب الاستقلال UKIP، مع الاحتفاظ بالناخبين المحافظين من أنصار البقاء في الاتحاد. ومن المتوقع مغازلته لهم بتخفيض الضرائب أو بوعود أخرى. وسيتمتع “جونسون” بعامل مساعد هو خوف الطبقات الوسطى من حزب العمال في شكله الحالي ومن زعيمه “كوربين”، لكن “ماي” اعتمدت على هذا في الانتخابات الماضية وخسرت رهانها. وقد يفضل ناخبو العمال الكارهون لـ”كوربين” التصويت للحزب الليبرالي.
باختصار، لا يمكن اليوم قراءة الخارطة الانتخابية.