دفعت الهزائم المتتالية التي تعرض لها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وفقدانه مناطق نفوذه الرئيسية، إلى البحث عن ملاذات ومناطق تمدد جديدة. وتُشير التحركات الحالية للتنظيم إلى أن أفغانستان هي الدولة المرشحة لتكون المقر الجديد لقيادته، ولا سيما في ضوء تدفق كثير من المقاتلين إلى آسيا، بالتزامن مع ما أثبتته “ولاية خراسان” من قدرة قتالية ومرونة تكتيكية.
وفي هذا السياق، أشار وزير الدفاع البريطاني “غافين ويليامسون”، في سبتمبر 2018، في حديثه لصحيفة “التايمز” إلى “أن الإرهابيين يجمعون شتاتهم في أفغانستان”. كذلك حذر وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو”، في مايو 2019، من “استخدام تنظيم داعش أفغانستان كمعبر لتعزيز وجوده في المنطقة”. ولم يكن البريطانيون والروس وحدهم من تحدثوا عن هذا الاحتمال، فقد شاركهم في التخوف ذاته الأمريكيون، ففي الأول من مايو 2019، نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مصدر أمريكي استخباراتي قوله إن “عناصر داعش اختاروا أفغانستان ملجأ لهم”. كما أكد السيناتور الأمريكي “جاك ريد”، هذا الطرح بعد زيارته لأفغانستان، حيث أشار إلى أن “ولاية خراسان” قد طورت من حضورها ونفوذها.
هذا التوافق يثير تساؤلات مُهمة حول طبيعة وقدرات “ولاية خراسان”، والعوامل التي تؤهل أفغانستان لتكون المقر الجديد لقيادة التنظيم؟
ولاية خراسان
أعلن “أبو محمد العدناني”، المتحدث السابق باسم تنظيم “داعش”، في يناير 2015، عبر تسجيل صوتي له، عن قيام تنظيم “ولاية خراسان” باتخاذ كلٍّ من باكستان وأفغانستان محلًّا لنشاطه، وذلك بهدف مد الخلافة الداعشية إلى أفغانستان. ويُشير تنظيم “داعش” إلى فرعه في أفغانستان باسم “ولاية خراسان”، استلهامًا للاسم التاريخي الذي كان يُطلق على أجزاء من أفغانستان وإيران وآسيا الوسطى في العصور الوسطى. ويعد تنظيم “ولاية خراسان” في أفغانستان واحدًا من أهم فروع “داعش” وأخطرها.
ويُقدر عدد أعضاء ولاية خراسان في بداية تشكيلها بحوالي 150 داعشيًّا؛ إلا أن التنظيم نجح في تجنيد أعضاء من التنظيمات الإرهابية الأخرى بما فيها حركة “طالبان” وحركة “أوزبكستان”، بالإضافة إلى عناصر من آسيا الوسطى والشيشان، والهند وبنغلاديش، وأقلية الإيغور الصينية. كما نجح التنظيم في اجتذاب شرائح عمرية مختلفة من الرجال والنساء الأفغان إلى صفوفه، وتطورت قدرات المقاتلين نتيجة لانتقال مقاتلين أجانب اكتسبوا خبرة قتالية في سوريا والعراق. ووفقًا لتقديرات كثيرة، يتراوح عدد عناصر “ولاية خراسان” ما بين 2000 إلى 3000 داعشي، لكن هناك تقديرات أخرى ترى أن الأعداد تتجاوز هذه الأرقام بكثير، إذ صرح المندوب الروسي الدائم لدى منظمة الأمم المتحدة “فاسيلينيبينزيا”، في نهاية نوفمبر 2017، بـ”أن عدد مسلحي تنظيم داعش في أفغانستان بلغ 10 آلاف مسلح”.
وفي إطار سعي القوى الدولية لمكافحة تمدد تنظيم “ولاية خراسان”، نفّذت الولايات المتحدة ضده غارات جوية في أفغانستان، والتي شهدت استخدام ما وصفته بـ”أم القنابل”، حيث استهدفت موقعًا للتنظيم في “ولاية ننغرهار” بهدف تدمير بنيته التحتية. وبالرغم من الهجمات التي تعرض لها التنظيم من جانب القوات الأمريكية، وقتل العديد من أعضائه، وقطع خطوط إمداده؛ إلا أن التنظيم نجح في المقاومة والصمود بسبب استراتيجيته المرنة، وقدرته على البقاء والحفاظ على بنيته الهيكلية رغم اغتيال عددٍ من قادته، وكان آخرهم “خوسمان أبو سيد أوركازي” الذي قتل في أغسطس 2018، وهو رابع قائد للتنظيم يتم اغتياله بعد مقتل “أبو سيد” في يونيو 2017، و”عبدالحسيب” في أبريل 2017، و”حفيظ السيد خان” في يوليو 2016.
وبصفه عامة، يتركز تنظيم “ولاية خراسان” في “ولاية ننغرهار، كما أن له وجودًا بارزًا في شمال أفغانستان، وتوسع مؤخرًا في “ولاية كونار”. وبفضل نشاطه وتمدده نجح التنظيم في السيطرة على مناطق رئيسية ومرتفعات، ما يمكنه من الوصول بسهولة إلى المال والسلاح والمعدات. وبالتالي، شن هجمات مؤثرة وفاعلة. ويُعد الهدف العسكري الأول للتنظيم في المرحلة الحالية هو المزيد من التوسع للسيطرة على مساحات أكبر من الأراضي في شرق أفغانستان.
لماذا أفغانستان؟
هناك عدد من العوامل التي تؤهل أفغانستان لكي تكون مقر القيادة الجديدة لتنظيم “داعش”، أبرزها ما يلي:
1- انهيار مؤسسات الدولة في أفغانستان: حيث تأتي الدولة الأفغانية في ترتيب متقدم بين الدول الفاشلة، ما يخلق بيئة مناسبة لانتشار التنظيمات الإرهابية بشكل عام، على خلفية ضعف الحكومة المركزية وعدم قدرتها على القيام بوظائفها التقليدية، وعلى رأسها الوظيفة الأمنية. أضف إلى ذلك حالة عدم الاستقرار السياسي، وانتشار تجارة السلاح، والانقسامات الدينية والعرقية. ناهيك عن صعوبة التضاريس الجغرافية التي تُسهّل تخفي العناصر المتطرفة. وتجدر الإشارة إلى أن وزارة الدفاع الأفغانية أعلنت في أواخر عام 2018 عن نشاط إحدى وعشرين جماعة إرهابية على الأراضي الأفغانية. وتضم هذه الجماعات ما يزيد عن 50 ألف فرد.
2- انقسامات طالبان: نجح تنظيم “داعش” في استثمار الانقسامات التي حدثت داخل حركة “طالبان”، إذ انضمت عناصر كبيرة من الحركة إلى “ولاية خراسان” تحت تأثير دافعين؛ أولهما: جاذبية أُطروحات تنظيم “داعش” التي تتجاوز حدود أفغانستان وتسعى لتدشين خلافة أممية. ثانيهما: صراعات السلطة القائمة داخل حركة “طالبان”، التي تُلقي بظلالها على البعد العقائدي والفكري للحركة، ما دفع أعضاء الحركة إلى البحث عن بديل يتسق مع توجهاتهم المتشددة. ناهيك عما قد ينتج عن المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وطالبان من انضمام مقاتلي طالبان الأكثر تشددًا إلى “ولاية خراسان”، نتيجة لعدم رضى بعض أجنحة الحركة عن تلك المفاوضات.
3- الاستراتيجية الأمريكية: تراجعت أولوية مكافحة الإرهاب لدى الإدارة الأمريكية الحالية. ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة، منها: انخفاض عدد الهجمات الإرهابية التي استهدفت الولايات المتحدة والمصالح الأمريكية، وتطور قناعة لدى العديد من المسئولين الأمريكيين بهزيمة تنظيم “داعش” وفقدانه معاقله، فيما تحول تركيز الولايات المتحدة من مكافحة الإرهاب إلى المنافسة الاستراتيجية مع القوى الكبرى كالصين وروسيا. وأبرز مؤشرات هذا التحول هو إعلان “دونالد ترامب” سحب القوات الأمريكية من سوريا وأفغانستان. ومن ثم، فقد يساهم الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في زيادة نفوذ ولاية خراسان، لا سيما وأن ظهور تنظيم “داعش” لأول مرة في أفغانستان في 2014 تزامن مع انسحاب قوات حلف الأطلسي من أفغانستان وتسليمها المسئولية لقوات الأمن الأفغانية. وفي هذا السياق، تناولت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية في يناير 2019، تقريرًا صدر عن الحكومة الأمريكية مؤخرًا أكد أن الحكومة الأفغانية لا تسيطر سوى على 55% من الأراضي داخل أفغانستان، فضلًا عن انخفاض أعداد قوات الأمن إلى 40 ألفًا، وهو أدنى مستوى لها منذ عام 2012، ما يلقي بظلاله على الفراغ الأمني المحتمل من انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، وبالتالي زيادة نشاط التنظيم.
4- التمدد الداعشي: سعى تنظيم “داعش” إلى الحفاظ على بقائه بعد فقدانه مناطق نفوذه الرئيسية في سوريا والعراق، وذلك بالبحث عن مناطق بديلة. لذلك، كان الانتقال الاستراتيجي للتنظيم إلى آسيا لما يتوافر فيها من أسباب محفزة لانتشار الإرهاب والتطرف. يتعلق أولها بانتشار الصراعات الطائفية، والانقسامات العرقية، والتباينات الدينية. ويتصل ثانيها بوجود مناطق نفوذ للتنظيم من أبرزها: أفغانستان (ولاية خراسان)، والفلبين (جماعة “أبو سياف” وجماعة “ماوتي”)، وإندونيسيا (أنصار دولة الخلافة)، وبنجلاديش (أنصار الله)، وماليزيا (ولاية ماليزيا)، والهند (ولاية الهند)، وباكستان (ولاية باكستان). وينصرف ثالثها إلى تدفق أعداد كبيرة من مقاتلي تنظيم “داعش” من سوريا والعراق إلى إندونيسيا وأفغانستان وسريلانكا وبورما. وكل هذه التحركات تُشير إلى سعي التنظيم إلى التمدد الداعشي في آسيا، وتحويلها لمناطق نفوذ جديد. غير أن ما يؤهل أفغانستان على وجه الخصوص لقيادة التنظيم في آسيا ثلاثة مقومات رئيسية تتمثل في: كون أفغانستان نقطة مشتركة للحضور الأمريكي والروسي؛ الأول بالوجود والثاني من خلال الحدود. ومرونة تنظيم ولاية خراسان وقدرته على الصمود. وأخيرًا كونها القبلة التاريخية للإرهاب.
مجمل القول، على الرغم من تعدد المسارات المحتملة لانتقال “داعش”، سواء بالتحرك إلى إفريقيا أو آسيا؛ إلا أن أفغانستان تعد من الدول المرشحة بقوة لتشهد “الصحوة الجديدة” للتنظيم؛ وذلك في ظل الفشل الأمني والصراع مع حركة “طالبان”، ناهيك عن نجاح تنظيم “ولاية خراسان” في بناء هيكل تنظيمي قوي متماسك نجح في مواجهة التحديات المختلفة التي تعرض لها، سواء في إطار صراعه مع طالبان أو في سياق الضربات العسكرية التي تعرض له. غير أن التنظيم قد يشهد عوائق تحد من نفوذه تتمثل في رفض روسيا لتمدده، وذلك لاقتراب أفغانستان من آسيا الوسطى، وهي منطقة حيوية بالنسبة لروسيا.