تُعد الصين من أكثر الدول المتأثرة بأزمة الخليج الراهنة، حيث يُعد النفط الخليجي أهم مصدر نفطي بالنسبة للصين. وقد تصاعدت حدة الأزمة بالخليج الناتجة عن تزايد حالة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، والتي بدأت بإعلان الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات، ثم قرار وقف الإعفاءات الخاصة بشراء النفط الإيراني التي كانت ممنوحة لثماني دول من بينها الصين، ثم نشر قطع بحرية استراتيجية من بينها حاملة الطائرات الأمريكية “إبراهام لينكولن”، وهو الأمر الذي واجهته إيران بتحركات تصعيدية موسعة بدأت بإعلانها منع أي طرف في المنطقة من تصدير النفط حال مُنعت -أي إيران- من تصدير نفطها. ثم تطور الأمر ليصل إلى إسقاط طائرة أمريكية بدون طيار، واستهداف واحتجاز ناقلات نفطية في الخليج. لذلك، من المهم فهم الموقف الصيني من الأزمة، لا سيما وأنها من أهم مستوردي النفط الإيراني الذين شملهم قرار إلغاء الإعفاءات من جانب، إضافة إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية الكبيرة التي تربطها بدول مجلس التعاون الخليجي (الطرف الأكثر تأثرًا بالأزمة) من جانب آخر.
مصالح الصين المتنامية في الخليج
تنظر الصين إلى منطقة الخليج بشكل عام، ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص، نظرة استراتيجية لعددٍ من الأسباب، أبرزها: كونه أحد المصادر الرئيسية للطاقة وعلى رأسها النفط الذي تُعد الصين ثاني أكبر مستهلكٍ له بعد الولايات المتحدة، ووفقًا لوكالة معلومات الطاقة الأمريكية US Energy Information Agency بلغت واردات الصين من السعودية في مايو 2015 (16%) من إجمالي وارداتها النفطية، مقابل 10% من سلطنة عمان، و3% من الإمارات، و3% من الكويت. لذلك، باتت دول الخليج تنظر إلى الصين كسوق ضخمة ليس فقط لصادراتها من النفط الخام، وإنما أيضًا من المنتجات البتروكيماوية والصناعات المعدنية، بجانب اتساع الفرص الاستثمارية في مجالات العقارات والمقاولات والبنية التحتية والنفط.
وفيما يتعلق بالعلاقات التجارية، بلغ حجم التجارة البينية مع السعودية خلال 2017 حوالي 50 مليار دولار، مقابل حوالي 40 مليار دولار مع الإمارات، وحوالي 16 مليار دولار مع سلطنة عُمان، وحوالي 12 مليار دولار مع الكويت، وحوالي 8 مليارات دولار مع قطر، وحوالي مليار دولار مع البحرين (https://comtrade.un.org). والصين مرشحة لأن تكون الشريك التجاري الأهم لدول الخليج بحلول عام 2020. وعلى الجانب الآخر، تُعتبر منطقة الخليج حلقة مهمة ضمن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، حيث تشكل دول مجلس التعاون الخليجي محورًا أساسيًّا في المبادرة، بالنظر إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي.
أما عن التواجد العسكري، فقد أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي لمكافحة القرصنة البحرية. وبالتالي، فإن إنشاء قاعدة عسكرية سعودية في جيبوتي يعني وجود إطار للتعاون بين الطرفين لحماية الملاحة البحرية في مضيق باب المندب الاستراتيجي. كما شاركت بكين مع دول مجلس التعاون الخليجي في عمليات مكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال. أما عن مبيعات الأسلحة، فتشير بعض التقارير إلى استخدام الإمارات والسعودية الطائرات الصينية بدون طيار في عملياتها العسكرية ضد الحوثيين في اليمن. ووفقًا لبعض التقديرات بلغت قيمة واردات السلاح السعودية من الصين 20 مليون دولار عام 2017.
في الوقت ذاته، تُعد الصين الشريك التجاري الأول لطهران، حيث بلغ حجم التجارة البينية في عام 2017 حوالي 37.2 مليار دولار، وبلغ حجم الصادرات الإيرانية إلى الصين حوالي 16.9 مليار دولار، ومثّلت صادرات النفط الخام نسبة 64% من إجمالي تلك الصادرات بقيمة 11.9 مليار دولار، لتحتل إيران بذلك المرتبة الرابعة لأهم مورّدي النفط للصين من منطقة الشرق الأوسط. وتُمثل الواردات الصينية من النفط الإيراني نحو 6% من إجمالي واردات الصين النفطية (https://comtrade.un.org).
وفي أعقاب الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي، قامت الصين بافتتاح خط جديد للسكك الحديدية لنقل البضائع، يربط بين مدينة بايانور في منطقة منغوليا الداخلية شمالي الصين، وبين مدينة طهران. وفي يونيو 2018، اتفقت الحكومة الإيرانية مع نظيرتها الصينية على استخدام العملات المحلية للبلدين بدلًا من الدولار في التبادلات التجارية الثنائية. ومع انسحاب الشركات العالمية من إيران بعد تطبيق العقوبات، اتجهت شركات صينية إلى توسيع حجم استثماراتها لتحل محل الشركات الأجنبية؛ حيث وقّعت شركة النفط الصينية “سينوبك” في مايو 2018 صفقة بقيمة 3 مليارات دولار لتطوير حقل يادافاران، لتحل بذلك محل شركة “رويال داتش شل”. وأيضًا، حلت مؤسسة البترول الوطنية الصينية في نوفمبر 2018 محل شركة “توتال” في تشغيل المرحلة 11 من مشروع حقل بارس الجنوبي، لتصبح بذلك حصة الشركة الصينية بعد انسحاب “توتال” 80.1%.
وينصرف الاهتمام الصيني في جزءٍ كبيرٍ منه إلى موقع إيران الجغرافي. فخليج عمان الذي تطل عليه إيران يمثل ركيزة اهتمام صينية في إطار “مبادرة الحزام والطريق”، حيث يمكن من خلاله نقل النفط والغاز مباشرة إلى الصين. من ناحية أخرى، تُهيمن إيران على طرق التجارة بآسيا الوسطى، ومن المتوقع أن تلعب إيران دورًا محوريًّا في الربط بين منطقتي آسيا الوسطى والشرق الأوسط بما يُسهم في دعم تجارة الصين عالميًّا.
أما في مجال التعاون النووي والعسكري، فقد وقّع الجانبان في أبريل 2017 اتفاقًا لإعادة تصميم وتجديد مفاعل “آراك” لإنتاج المياه الثقيلة، وذلك في إطار ما تم الاتفاق عليه بين إيران والدول الموقّعة على الاتفاق النووي. ومن ناحية أخرى، تعد إيران من أكبر مستوردي السلاح الصيني، حيث تعود علاقات التعاون العسكري بين الطرفين إلى أوائل الثمانينيات، لكنها مرت بمرحلة من التراجع بفعل العقوبات. وفي أعقاب توقيع الاتفاق النووي، عادت علاقات التعاون مرة أخرى. ومع نهاية عام 2016، وقّع وزيرا دفاع الجانبين اتفاقًا لتعزيز التعاون العسكري في عددٍ من المجالات، أبرزها: التدريبات المشتركة، وعمليات مكافحة الإرهاب، وتبادل الخبرات العسكرية.
تأثير الأزمة على المصالح الصينية
ذهبت بعض التحليلات إلى وضع الصين على رأس دوافع الولايات المتحدة وراء التصعيد في الخليج، لا سيما مع عدم حاجة الولايات المتحدة إلى نفط الخليج، وتوسّعها في إنتاج النفط الصخري. في هذا الإطار، ألحقت أزمة الخليج أضرارًا عدة بالمصالح الصينية في المنطقة، أبرزها ما يلي:
أولًا- تهديد استقرار تدفقات النفط إلى الصين، سواء المستورد من دول مجلس التعاون الخليجي أو إيران. ولا يرتبط ذلك فقط بإلغاء الاستثناءات التي مُنحت للصين فيما يتعلق بالواردات النفطية من إيران؛ وإنما بتهديد الملاحة في الخليج واستهداف ناقلات النفط. ويتعلق بتهديد استقرار سوق النفط أمران، الأول: عدم انتظام مواعيد التوريد، سواء بسبب اضطرابات في الدول المصدِّرة، أو التهديدات التي تواجهها ناقلات النفط في الخليج. والثاني: تباين أسعار النفط، سواء بسبب نقص الكمية المعروضة، أو ارتفاع تكلفة تأمين النقل، ولا سيما بعد إعلان الرئيس الأمريكي ضرورة قيام كل من الصين واليابان وكافة الدول الأخرى بحماية ناقلاتها النفطية في مضيق هرمز، حيث أشار إلى أن الولايات المتحدة لم تَعُدْ بحاجة إلى الوجود عند مضيق هرمز بعدما أصبحت أكبر منتج للطاقة في العالم.
ثانيًا- عرقلة مبادرة “حزام واحد طريق واحد” بسبب حالة عدم الاستقرار المرشحة في منطقة الخليج، انطلاقًا من أن المشروعات التنموية والاستثمارات تتطلب درجة من الاستقرار والأمان، كما تتطلب درجة من التوافق والتقارب بين الأطراف. بمعنى آخر، فإن وقوع صدام بين الصين وأي طرف في الخليج قد يعيق استمرار المبادرة الصينية.
ثالثًا- تصاعد وتيرة الأزمة قد يُساهم في خلخلة العلاقات الصينية-الخليجية بعدما أخذت منحى تصاعديًّا خلال الفترة الأخيرة، ذلك أن تصاعد الأزمة سيتطلب من الصين التعبير عن موقفها صراحة، بمعنى أن الأزمة ستتطلب من الصين أن تعبر صراحة عن دعمها لأحد الطرفين الخليجي أو الإيراني. وبالتالي، فإن انحيازها لأحد الأطراف يعني خسارة الطرف الآخر، وتراجع علاقاتها الاقتصادية والتجارية معه.
رابعًا- أن تصاعد الأزمة سيدفع دول مجلس التعاون الخليجي إلى التقارب العسكري والأمني الشديد مع الولايات المتحدة في مقابل تراجع التقارب والتنسيق العسكري مع الصين. وفي هذا الإطار، أعلن وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو”، في 13 يوليو 2019، أن الولايات المتحدة بصدد تشكيل تحالف عالمي لتأمين الممرات المائية الدولية، لضمان تأمين سلامة عبور البضائع عبر مضيق هرمز والممرات المائية الأخرى. وفي هذا الصدد، أطلقت واشنطن “عملية الحارس” لضمان الملاحة في الخليج. وارتباطًا بذلك، أعلنت مملكة البحرين في 18 يوليو استعدادها لاستضافة اجتماع دولي بشأن أمن الملاحة البحرية والجوية. وهو ما تم ترجمته بالفعل في استضافتها اجتماعًا عسكريًّا دوليًّا في أواخر شهر يوليو الماضي تم فيه بحث سبل “التصدي للاعتداءات المتكررة التي تقوم بها إيران والجماعات الإرهابية التابعة لها، والتي تستهدف أمن الملاحة البحرية الدولية في مياه الخليج العربي ومضيق هرمز”.
خامسًا- تُولِي الصين أهمية لعلاقتها مع الولايات المتحدة على حساب علاقتها مع الجانب الإيراني، وهو ما يفسر اتجاه الصين نحو إبطاء أو تعليق عملها بعدد من المشروعات الإيرانية (النفطية والنووية) تجنبًا للعقوبات، فضلًا عن تراجع حجم التجارة البينية وصادرات النفط الإيراني إلى الصين. كذلك، تعمل الصين جاهدةً على إيجاد مخرجٍ من حربها التجارية الحالية مع الولايات المتحدة، لذا فمن غير المتوقع أن تضحي الصين بمصالحها مع الولايات المتحدة في سبيل إيران.
سادسًا- باتت الصين تبعًا لتطورات التصعيد القائم بين الولايات المتحدة وإيران في وضع حرج ما بين الحفاظ على سياستها المستقلة والالتزام الرسمي المعلن الخاص برفضها للعقوبات وما بين التزامها الفعلي بالمطالبات الأمريكية وما يرتبط به من الاتجاه نحو تدعيم علاقتها -وبالأخص التجارية- مع دول مجلس التعاون الخليجي المعارض للسياسة الإيرانية.
السلوك الصيني تجاه الأزمة
المتابع للسياسة الخارجية الصينية يجدها في أغلب الأوقات تتجنب الاشتباك مع الصراعات، وتنأى بالصين عن الدخول في الأزمات الخارجية. وتسعى الصين من وراء هذه السياسة إلى التركيز على المصالح الاقتصادية وعدم التضحية بها، فضلًا عن سعيها لتأكيد التزامها بالقانون الدولي. ومن ثم، يُمكن تحليل السياسة الصينية من هذا المنطلق، استنادًا إلى عدم رغبتها في الاشتباك بشكل مباشر كطرف في الأزمة، أو الانحياز بشكل أساسي كداعم مباشر لطرفٍ على حساب آخر.
لذلك، ترى الصين أن تصاعد التوترات وتزايد الصادمات يُمثل مصدرًا للقلق. وقد رفضت الصين الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي، وكذا طالبت بدعم دولي للاتفاق النووي. كما أدانت العقوبات الأمريكية على إيران، وكذا لم ترضخ بشكل كامل لمطالبة الولايات المتحدة بتصفير النفط الإيراني. ويُمكن القول بشكل عام، إن تهدئة الأزمة ستسمح للصين بالتواصل مع كافة الأطراف، وتقليل حجم الخسائر التي قد تطالها. إلا أن تصاعد الأزمة سيضع الصين في موقف حرج، لأنه قد يتطلب منها اختيار دعم أحد الأطراف، لا سيما وأن الأمر قد يُصبح عبارة عن مقايضة علاقتها بإيران مع الخليج والعكس. إذن، سيكون الهدف الأساسي للصين هو العمل على تهدئة الأزمة، وتجنب تفجر الأوضاع في الخليج. كما ستحاول أن تستمرّ في علاقاتها المتوازنة مع كل الأطراف (الولايات المتحدة، الخليج، وإيران) حتى لا تتضرر مصالحها الاقتصادية.
ومن غير المرشح، أن تُلقي الصين بكل أوراقها مع إيران، وذلك لتجنب خسارة مصالحها مع دول مجلس التعاون الخليجي من جانب، وعدم خسارة التقدم الذي وصلت إليه المباحثات التجارية مع الولايات المتحدة، خصوصًا بعد التقدم المحدود الذي نجم عن لقاء الرئيسين الأمريكي والصيني على هامش قمة العشرين.
واستنادًا إلى ما تقدم، يمكن القول إن الصين قد اتّبعت سياسة براجماتية في تعاملها مع الأزمة الراهنة. فمن ناحية، عمدت في خطابها الرسمي إلى التأكيد على رفضها للعقوبات الأمريكية أحادية الجانب وسياسة تصفير النفط الإيراني، لما قد يسفر عنه الأمر من عدم استقرار بمنطقة الشرق الأوسط. ومن ناحية أخرى، اتجهت الصين بشكل عملي إلى الالتزام بالعقوبات المقررة. فقد أشارت بعض التقديرات إلى انخفاض الصادرات الصينية إلى إيران بنسبة 56%. كما علقت مؤسسة البترول الوطنية الصينية الحكومية استثماراتها بمشروع حقل بارس الجنوبي في ديسمبر 2018 بعد إجراء بكين أربع جولات من المحادثات مع مسئولين أمريكيين كبار، حثّوا بكين على الامتناع عن ضخ تمويل جديد في إيران. كما اتجهت بكين أيضًا إلى إبطاء أعمالها بمفاعل “آراك” النووي. وارتباطًا بذلك، تضاربت البيانات حول حجم واردات النفط الإيراني إلى الصين. فعلى الرغم مما أكده المدير العام لإدارة الحد من الأسلحة بوزارة الخارجية الصينية على مواصلة بكين استيراد النفط الإيراني، إلا أن صحيفة “وول ستريت جورنال” أشارت في مايو الماضي إلى أن الصين قد توقفت عن شراء النفط من إيران مع سريان العقوبات الأمريكية.