جاء الحادث الإرهابي المؤلم أمام المعهد القومي للأورام ليكشف لنا تناقض القيم في المجتمع المصري، ما بين القيم الإسلامية السمحة -وكيف أمكن استغلالها للنقيض- والهوية المصرية متعددة الأبعاد، وقيم النهضة التي تم استيرادها في وقت سابق من الدائرة المتوسطية كما أشار إليها “طه حسين” في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، وقيم ما بعد الحداثة لعصر المعلومات الحالي.
لقد نبّهنا هذا الحادث المريع إلى أهمية إعادة بناء المواطن المصري، رغم أن ذلك من أصعب المهام التي يمكن أن تقوم بها الدولة؛ فالإنسان عامة تؤثر فيه عوامل عديدة، بعضها يكون بوعي وبعضها بدون وعي، بعضها مسئولة عنها الدولة، وبعضها ليس من مهام الدولة أساسًا. أضف إلى ذلك أننا الآن نعيش في عصر المعلومات في ظل أعمق وأشمل وأسرع ثورة علمية مرت بها البشرية حتى اليوم. هذه الثورة العلمية تغير الواقع المادي أمام أعيننا وبين أيدينا وتحت أقدامنا، وهذا يسبب مأزقًا غير مسبوق تاريخيًّا يتمثل في أننا نسعى إلى بناء المواطن الفرد في ظل تغيير حاد تتعرض له الدولة ذاتها. ورغم ما يترتب على ذلك من تعقيدات؛ إلا أن هذه التغييرات التي تتعرض لها الدولة اليوم تغير من نظرتنا إلى ذاتنا، وإلى الطبيعة المحيطة بنا وإلى العالم الذي نعيش فيه، أي إننا أصبحنا نفتقد معنى الوجود نفسه، وأصبحنا في مسيس الحاجة لإعادة بناء المواطن الفرد باعتباره محور هذا الوجود، وباعتباره خطَّ دفاع أساسيًّا في سياسات مكافحة الإرهاب ودعم تماسك المجتمع والدولة.
طبيعة الثورة العلمية الحالية
كذلك فإن الثورة العلمية التي نشهدها تتسم بدرجة عالية من الشمول والتعقيد لأنها ليست قائمة على دراسات نظرية فقط، وإنما هي ثورة تفاعلية مع جميع عناصر الوجود من الإنسان إلى الطبيعة، ولذا فإنها تعيد تشكيل الهوية والانتماء والاقتصاد، أي إنها تعيد تشكيل الحياة كلها، وتتجه بنا إلى حقبة حضارية جديدة هي “حضارة ما بعد الإنسانية” التي تستند إلى تعزيز الإنسان بتطبيقات تكنولوجية لزيادة قدراته الذهنية أساسًا CYBORG، وتحويل البيئة المحيطة بنا بمختلف عناصرها إلى بيئة ذكية تتفاعل فيها مختلف أنواع التكنولوجيات مع بعضها بعضًا دون تدخل من الإنسان.
الثورة العلمية هي السبيل الوحيد أمامنا لتفسير واقعنا المادي الجديد المعزز الذي نعايشه بمختلف أبعاده، مثل: ظهور المنصات الاقتصادية، والحرب السيبرانية، وسرقة الهوية، والشبكة العنكبوتية الذكية، والحوسبة السحابية، والهواتف الذكية غير المرئية، والمركبات بدون سائق بمختلف أنواعها، والتحولات النفسية في العالم، والحركات الاحتجاجية الجديدة، وضعف الأحزاب السياسية، وضعف النخبة السياسية، وإنترنت الأشياء، وإجراء عمليات جراحية عن بعد، والتعليم المخلوط، والعلاج الجيني، وصعود اليمين القومي، ووسائط الإعلام الاجتماعي، وبناء النماذج والعالم المطبوع، والحوسبة القابلة للارتداء، والاتصال الدائم، والفجوة الرقمية، والاحتكاك المعلوماتي، وأزمة الديمقراطية التمثيلية، وصعود دور المواطن الفرد.. إلخ.
جميع الظواهر السابقة هي جوانب مختلفة لتوجه واحد كبير وشامل يحكم تطورنا اليوم، لأن تكنولوجيا الاتصالات تحولت من مجرد أداة للتواصل والتفاعل مع العالم ومع بعضنا بعضًا؛ إلى أنها أصبحت قوى بيئية ومجتمعية تعيد تشكيل واقعنا المادي الذي تحول إلى واقع مادي معزز بهذه التكنولوجيا. كما أنها تغير ذواتنا والعالم المحيط بنا، وتحور وسائل ارتباطنا وتفاعلنا مع بعضنا بعضًا، وتحسن تفسيرنا للعالم. ويتم كل ذلك بعمق وسرعة رهيبة، وشمول محكم.
الإنسان في هذا الإطار هو كائن معلوماتي INFORG، أي إنه كائن حي يعيش في غلاف معلوماتي كثيف ينتشر بصورة مكثفة في جميع أنحاء الغلاف الأرضي ودائم التفاعل مع هذه المعلومات، ومن هنا فإنها ثورة علمية تُعيد بناء المعنى لوجودنا لنبدأ هذه الحقبة الحضارية الجديدة.
الإنسان وبناء المعنى
إن إعادة التفكير في الحاضر والمستقبل والماضي في عالم يعتمد أساسًا على المعلومات هي فكرة جديده في جذور ثقافتنا، خاصة أن وسائط الإعلام الاجتماعي لم تتحول إلى واقع إلا قريبًا جدًّا. وقد أدى ذلك إلى قصور في المفاهيم، ثم التباسها، عند محاولة تطبيقها على جميع مناحي الحياة. نحن في حاجة ماسة لفلسفة جديدة تستوعب طبيعة المعلومات ذاتها، وتوجه البعد الأخلاقي لها وتأثير تكنولوجياتها علينا وعلى بيئتنا، وذلك حتى نحسن الآليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمعلومات وتسخيرها لدعم الدولة، وهو اتجاه عام في العالم أجمع.
إذن، نحن في مرحلة تتطلب بناء إطار فكري مناسب يساعدنا على إدراك دلالات المعلوماتية SEMANTICIZE، أي إعطاء معنى وإيجاد منطق لفلسفة المعلوماتية حتى يسهل علينا بناء مجتمع المعلومات. وهذا المعنى الجديد يعكس فلسفة عصرنا ومن أجل عصرنا، ولذا من المهم التعرض لفلسفة التاريخ بوصفه التاريخ المفرط (عصر ما بعد الإنترنت) وللفلسفة الطبيعية بوصفها فلسفة الأنفوسفير أو للغلاف المعلوماتي.
إذا كنا ندرك الوقت بعلاماته، والزمان بمميزاته، فلدينا اليوم أكبر عدد شهدته البشرية من البشر على قيد الحياة، ومتوسط العمر في ازدياد دائم في جميع مناطق العالم بغض النظر عن درجة التقدم الاقتصادي، والفقر في تناقص على مستوى العالم، بالرغم من أن نسبة عدم المساواة -سواء بين الدول أو داخل الدولة الواحدة- لا تزال مخزية بتأثير من العولمة.
كذلك فشكل الدولة وتنظيمها اختلف، وأبعاد نظرية الأمن القومي اختلفت، وظهرت مفاهيم جديدة، مثل: النوع الاجتماعي GENDER، والديمقراطية التشاركية، وظهرت أبعاد وحدة الاقتصاد على مستوى العالم أجمع، وظهرت ملامح لتغيير الهوية والانتماء وكل ما يرتبط بممارسة النفوذ وأنماط القوة.
في الوقت نفسه، من المؤكد أننا امتداد لإنسان ما قبل التاريخ Prehistory، وإنسان التأريخ History، وهذا التقسيم للتاريخ مترادف مع عصر المعلومات أو عصر التاريخ المفرط:
أ- فما قبل التاريخ لا وجود لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات (طيبة في مصر، وأور بالعراق) وإن وجدت الكتابة منذ 6000 عام، وهي فترة وجيزة في عمر الأمم.
ب- في عصر التاريخ (منذ ظهور مطبعة جوتنبرج عامة وحتى ما قبل ظهور الإنترنت) استمر لأقل من 600 سنة، حيث وجدت علاقة بين تكنولوجيا المعلومات ورفاهية الإنسان.
ج- في عصر التاريخ المفرط (من ظهور الإنترنت حتى اليوم، أي خلال الثلاثين عامًا الأخيرة) وضح ارتباط رفاهية المجتمع والأفراد بالاعتماد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أساسًا، فهي المولّدة للثروات وهي الحاكمة للعنف، وهي مقدمة ومدخل لحضارة المعلومات الكثيفة والبيئة الذكية، أي عصر ما بعد الإنسانية.
كذلك، من المؤكد أننا امتداد لإنسان ما قبل التاريخ وإنسان التاريخ، فإذا كان عصر ما قبل التاريخ وعصر التاريخ اهتما بنقل خبرة كيف يعيش الإنسان، فإنه مع ارتباط رفاهية الإنسان بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أصبحنا نهتم بكيف يعيش الناس؟ وأين؟ ومتى؟ ومن ثم في إطار هذه الفلسفة الجديدة لعلم المعلوماتية تحتل الشبكية محورًا مركزيًّا فيها باعتبارها التعبير المادي والتنظيم الواقعي لعصر المعلومات، وهي فكرة أشبه بتنظيم النظم متعددة الوكلاء، خاصة عند التعامل مع القضايا العالمية. ومن هنا تتزايد المسئولية الأخلاقية لإنسان هذا العصر.
هذه المسئولية الأخلاقية تنطوي على تناقض؛ فبقدر سعينا للاستفادة القصوى من إيجابيات هذه الثورة العلمية، وضرورة تجنب سلبياتها، هل سيمكننا تحديد مخاطر تحويل العالم إلى بيئة صديقة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات؟ وكيف تساعدنا هذه التكنولوجيا على حل مشكلاتنا الاجتماعية الأكثر إلحاحًا مثل تغيير القيم والمشكلات البيئية مثل التصحر والاحتباس الحراري؟ وهل هذه التكنولوجيا ستستمر في اتجاه تمكيننا وزيادة قدراتنا؟ أم إنها ستقيد ما حبانا به الله من إمكانيات مادية وفكرية؟ ولو قيدتنا بعد فترة هل سنتكيف مع الوضع الجديد أم سنعجز عن ذلك؟
هذه الأسئلة تؤكد أننا أمام فرصة غير مسبوقة لإعادة صياغة حياة جديدة بمختلف أبعادها؛ إلا أن هذه الفرصة مرتبطة بمسئولية فكرية وأخلاقية ضخمة من أجل فهمها والاستفادة منها بطريقة مناسبة، وهذا يتطلب تطوير واستكمال العديد من الرؤى السابقة في فلسفة العلم ذاته، وبخاصة تلك التي ترسخت في عصر الصناعة، وتحديدًا كل ما تعلق بالحتمية العلمية والحتمية الجغرافية بل والحتمية الاستراتيجية.
لدينا نوع من الترقب الحذر للمتغيرات الكثيرة الشاملة السابق الإشارة إليها وتعاملاتنا فيما بيننا ووجهة نظرنا للبيئة المحيطة بنا ولذواتنا، والأهم أن هذا الإدراك ناتج عن تحولات في الواقع أساسًا وليس ناتج أبحاث علمية، ولكنه ناتج تطبيقات فكرية نجريها كل يوم في ظل تغيير العالم واقعيًّا تغييرًا شاملًا أمام أعيننا وبين يدينا وتحت أرجلنا، ويتم بصورة متزايدة تصاعديًّا، مما يستدعي ضرورة الوصول إلى نقطة توازن جديدة في الحياة قائمة على وضع فلسفة جديدة تعكسها الثقافة السيبرية والبيئية والمعلوماتية.
فإذا أدركنا اتجاه التحولات أدركنا أن “كوبرنيكس” عام 1543 أكد أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها كوكب صغير في المجموعة الشمسية يدور حول الشمس، فتمت إزاحة الأرض من المركزية الكونية وبدأنا إعادة النظر في مكاننا ودورنا.
وجاء “رينيه ديكارت” (1596-1650) بمقولته الخالدة: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، مؤكدًا أن مكانة الإنسان في الكون هي مكانة عقلية وليست فلكية، وتنبع من قدرتنا على الوعي والتأمل الواعي لذاتنا والسيطرة عليها، وبالتالي أعاد تشكيل نظرتنا لأنفسنا باعتبارها أساس الوجود، وأنها تبدأ بالنظرة إلى الذات وليس الكون. ثم جاء “باسكال باليز” (1623-1662) موازيًا لفكر “ديكارت” وأكثر تطورًا حينما أكد أن قيمة الإنسان تنبع من قدرته على التفكير، وتطوير هذا الفكر من أجل تحقيق قدر أكبر من الرفاهية، خاصة بعد نجاحه في اختراع آلة حاسبة.
وجاء “داروين” (1809-1882) بنظريته عن التطور ليؤكد أن جميع الكائنات الحية تخضع لمبدأ الانتخاب الطبيعي، ومن ثم فقد أزاح الإنسان من مكانته المميزة من مركز المملكة البيولوجية إلى مكانة أكثر تواضعًا، وهو ما يتسق وفكر “كوبرنيكس” و”ديكارت” و”باسكال باليز” قبله.
وأخيرًا جاء “فرويد” (1856-1939) الذي عارض -دون دليل- أفكار “ديكارت” و”باسكال باليز” معًا، مؤكدًا أن العقل يفكر بطريقة لا شعورية أيضًا، ويخضع لآليات لا شعورية دفاعية مثل الكبت والكذب، وأننا كثيرًا ما نتصرف لا شعوريا، ثم يقوم العقل ببناء قصص منطقية لتبرير أفعالنا. والخلاصة أن “فرويد” أزاح الإنسان من مركز مملكة الوعي.
هذه التحولات في دور الإنسان وبناء المعنى والمواكبة للثورة العلمية الحالية قد يرى الأخذ بها في الاعتبار عند إعادة صياغة دور المواطن، خاصة أن إعادة التفكير في الحاضر والمستقبل والماضي في عالم يعتمد أساسًا على المعلومات هي فكرة جديدة في جذور ثقافتنا، كما أن وسائط الإعلام الاجتماعي لم تتحول إلى واقع إلا قريبًا جدًّا.
وهذه الثورة للمعلومات والاتصالات تستند إلى معالجة هذه المعلومات، وهو عمل عقلي بحت يتوازى مع كلٍّ من منهج التحليل النفسي بالعلوم العصبية وعمليات بناء الجهاز العصبي للشبكات الاجتماعية التي تسيطر على قلب القوة السيبرية التي تعد أساس التحولات السياسية والمجتمعية في العالم، وعلى صناعات الروبوت، وعلى مجمل عصر التاريخ المفرط. وهذا يفتح أمامنا بابًا واسعًا للحاق بهذا العصر مباشرة، خاصة أن أحد أبناء مصر تخصص في هذا الفرع من العلوم وحقق نجاحًا باهرًا اعترف به العالم.
إن البدء في بناء إطار فكري من القيم الخاصة بالانتماء والهوية والمواطنة يساعدنا في إدراك دلالات المعلوماتية SEMANTICIZE، أي إعطاء معنى، وإيجاد منطق لفلسفة المعلوماتية حتى يسهل علينا بناء مجتمع المعلومات والبيئة الذكية. وهذا المعنى الجديد يعكس فلسفة عصرنا ومن أجل عصرنا، ولذا من المهم التعرض لفلسفة التاريخ بوصفه التاريخ المفرط (عصر ما بعد الإنترنت) وللفلسفة الطبيعية بوصفها فلسفة الأنفوسفير أو الغلاف المعلوماتي، وأداة التغيير السياسي-الاجتماعي هي شبكات التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها، لأن المعلوماتية تحتل فيها الشبكات محورًا مركزيًّا باعتبارها التعبير المادي الواقعي للتنظيم في عصر المعلومات، وهي فكرة أشبه بتنظيم النظم السياسية متعددة الوكلاء، خاصة عند التعامل مع القضايا العالمية.
ومن هنا تتزايد المسئولية الأخلاقية لهذا العصر، وتتزايد مسئولية مصر السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ويكون أساس بناء المواطن دعم قيم المواطنة والهوية بمختلف مستوياتها والانتماء، وكلها قضايا في قلب الحضارة المعلوماتية، وواجبنا أن نطرح رؤيتنا بدلًا من الانتظار لمجهول نعلم جيدًا جميعًا أنه ما لم يجدنا مستعدين له برؤية متكاملة تعكس جوهر المعلوماتية، ومعنى وجودنا على كوكب واحد، وجوهر إدراكنا لأدوات العصر (الشبكات)؛ فمن المؤكد أنه سيداهمنا هو بفكره ورؤيته وأهدافه التي نعلم أنها لا تناسبنا شئنا أم أبينا.