يُثير الدعم العسكري التركي الكثيف لحكومة الوفاق الليبي وميليشياتها في مواجهة الجيش الوطني خلال معركة طرابلس تساؤلًا حول مغزى تلك المغامرة التي بلغت حد المواجهة العلنية المباشرة، وهو ما برره الرئيس “رجب طيب أردوغان” في تصريحات له في يونيو الماضي بأنه نتاج اتفاق عسكري مع حكومة الوفاق، وأنهم إذا طلبوا السلاح ودفعوا ثمنًا سنقدمه.
لكن ما يلفت النظر في ذلك السلوك التركي أمران؛ الأول: أن ليبيا تقع بالأساس ضمن المناطق البعيدة جغرافيًّا التي لا تتماسّ مباشرة مع أهداف ومصالح الأمن القومي التركي، أو حتى تدفعها للاشتباك المباشر، على غرار ما يجري في سوريا أو العراق أو حتى في العمق الجيوسياسي التركي في آسيا الوسطى أو البلقان. الأمر الثاني: هو إدراك أنقرة أن سلوكياتها الصدامية في الصراع الليبي، وإن عززت تحالفها الإقليمي مع الدوحة؛ فإنها تزيد حدة توتراتها ليس فقط مع قوى الشرق الليبي، وإنما كذلك مع قوى أخرى، مثل: مصر، والسعودية، والإمارات، وفرنسا، التي تراهن في المقابل على الجيش الوطني، كمرتكز لإنهاء أزمة عدم الاستقرار في هذا البلد، منذ سقوط “القذافي” في عام 2011.
مصالح متشابكة
قد يجد البعض تفسيره للمغامرة التركية في جملة المصالح المتعددة التي تربطها مع ليبيا، خاصة ذات الطبيعة الاقتصادية، والممتدة منذ حكم نظام “القذافي” إلى السنوات التي تلت سقوطه. إذ بلغت الاستثمارات التركية في مجالات البنية التحتية الليبية قرابة 9.8 مليارات دولار في العام 2010، كما تواجدت 120 شركة تركية و30 ألف تركي في هذا البلد. لذلك، رفضت أنقرة تدخل قوات حلف الناتو ضد القذافي، وطرحت نفسها آنذاك كوسيط في الأزمة الليبية، وذلك على النقيض من موقفها الداعم آنذاك لثورتي مصر وتونس في 2011.
لكن أنقرة عادت وببراجماتية سريعة، وأسهمت في دعم حملة الناتو العسكرية كونها عضوًا فيه، ولخشيتها من الانعزال عن الساحة الليبية، ومن ثم اعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي ودعمته سياسيًّا. ومع انقسام ليبيا في صيف 2014، راهنت تركيا أكثر على قوى مصراتة والإسلاميين في تحالف “فجر ليبيا”، ودعمت المؤتمر الوطني العام وحكومة الإنقاذ في غرب ليبيا، وعادت في الوقت نفسه مجلس النواب الليبي في طبرق، وهو ما كان مقدمة لبروز أزمتها مع حكومة الشرق التي طردت آنذاك الشركات التركية في عام 2015، إثر اتهامات بدعم الميليشيات الإسلامية بالسلاح. ومن بعدها، عولت أنقرة على حكومة الوفاق المعترف بها أمميًّا في مرحلة ما بعد اتفاق الصخيرات، لإحياء مشاريع وعقود تركية في ليبيا تقدر بحوالي 18 مليار دولار.
لكن السنوات اللاحقة أبرزت هشاشة حكومة الوفاق وحلفائها في إطار توازنات القوى التي مالت باتجاه الجيش الوطني الليبي، حيث سيطر على منطقتي الشرق والجنوب ما بين عامي 2017 و2019، ثم تقدم باتجاه العاصمة طرابلس في غرب البلاد في أبريل الماضي، وبالتالي، انخرطت أنقرة بشكل مباشر لإنقاذ حليفها الأساسي في هذا البلد من السقوط، لأن حدوث ذلك كان يعني ليس فقط خسارتها لمصالحها الثنائية، ولا سيما الاتفاقات الاقتصادية والعسكرية؛ وإنما تعميق تراجع دورها الإقليمي أكثر في الرهان على الإسلاميين كوكلاء أيدلويوجيين، على أساس العلاقات الوثيقة التي برزت بعد “القذافي” بين حزب العدالة والتنمية التركي وقادة التيارات الإسلامية الليبية بمختلف اتجاهاتهم، والذين بدورهم عمقوا ارتباطاتهم أمنيًّا واقتصاديًّا مع محور أنقرة – الدوحة.
لعبة مساومة = حصد النقاط
مع أهمية هذا التفسير، فإنه لا يعطي نظرة أوسع للعبة أنقرة الإقليمية، والتي تنظر إلى الساحة الليبية على أنها إحدى أدوات لعبة المساومة التي تُمكّنها من توسيع خياراتها الخارجية في المنطقة. لعبة المساومة في العلاقات الدولية تعني أن كل لاعب إقليمي أو دولي قد يسعى لامتلاك أكبر عددٍ من النقاط وأوراق الضغط تجاه الآخر لتحقيق مصالحه؛ أولًا في منطقة الصراع المتنازع عليها، وثانيًا تقييد حركة المنافسيين الآخرين، سواء في تلك المنطقة أو مناطق وقضايا أخرى متشابكة معها.
لكن تلك اللعبة أشبه في نتائجها بالمباريات اللا صفرية؛ حيث إن اللاعبين المنخرطين فيها يدركون أن مكاسبهم وخسائرهم نسبية، وليست مطلقة، وأن زيادة حضورهم في منطقة أو قضية معينة قد يضغط أو يبتز لاعبًا آخر، دون إنهاء نفوذه كليًّا، وذلك لأن اللعبة تجري بالأساس في مناطق صراعات وأزمات يصعب حسمها لصالح طرف واحد، لكونها تشهد حضور لاعبين كثر خارجيين وداخليين وبينهم تحالفات متباينة القدرات، بما يصعب تنحية تأثيراتهم ومصالحهم.
ويُعد الصراع الليبي مجالًا خصبًا للعبة المساومة التركية، لأنه متداخل مع قضايا ومصالح تعنيها في الشرق الأوسط وإفريقيا. فليبيا تُعد معبرًا ومخزنًا جيوسياسيًّا للتهديدات والمخاطر المرتبطة بالمنطقتين، سواء المتعلقة بالإرهاب والهجرة غير الشرعية، والجريمة المنظمة، كما أن الفاعلين الإقليميين والدوليين يتنافسون بدرجات مختلفة على النفوذ من ليبيا إلى سوريا واليمن، بل وإفريقيا جنوب الصحراء، ناهيك عن أن ليبيا تُعد أحد اللاعبين في مجال الصراع على الطاقة في البحر المتوسط.
ويُعزز مساعي المساومة لدى الدور التركي انتقاله من موقف المراقب الساعي لتصفير المشكلات الإقليمية قبل 2011 إلى المشتبك معها في مرحلة ما بعد الثورات العربية. إذ بدت أنقرة تنظر للوضعية الهشة والمأزومة للمنطقة العربية كفرص تمكنها من توسيع المساومة على خياراتها الخارجية، سواء لتعظيم المكاسب (تقوية موقفها التفاوضي أمام الاتحاد الأوروبي الرافض لعضويتها) أو تحجيم المخاطر (على الداخل التركي خاصة عبر العراق وسوريا وما يثيرانه من مطالب انفصالية كردية)، أو حتى الحفاظ على ما تبقى من ترويج إقليمي للنموذج الأيديولوجي الحداثي، الذي تعرض للتراجع الحاد عقب سقوط حكم الإخوان في مصر إبان ثورة 30 يونيو 2013.
وعليه، استهدفت تركيا حصد نقاط تأثيرية في غرب ليبيا في غمار لعبة المساومة الإقليمية، لأنها تدرك معادلة جوهرية مفادها: أن كل تقدم للجيش الوطني الليبي، وسيطرته ميدانيًّا على الأمور في هذا البلد، يعني إفقادها أوراقًا أخرى يمكن أن توظفها في قضايا ثنائية أو جماعية مع القوى الإقليمية الدولية المشتبكة مع الصراع الليبي.
وبالتالي، اتجهت تركيا من الانخراط غير المباشر في ليبيا إلى الانخراط المباشر والكثيف لخلق توازن بين الفرقاء الداخليين في هذا البلد، عبر تقييد مسعى الجيش الوطني الليبي للسيطرة على طرابلس وتحريرها من الميليشيات المسلحة. وشكّل الدعم التسليحي التركي من مدرعات وطائرات مسيرة وغيرها أحد العوامل في استعادة مدينة غريان جنوب طرابلس في أواخر يونيو 2019. وكان بروز الطائرات التركية المسيرة (بيرقدار تي بي 2) في معارك طرابلس ومطار معيتيقة مؤشرًا على أن أنقرة تستهدف موازنة التفوق الجوي للجيش الوطني الليبي. ومن بعدها، هدد الجيش الليبي باستهداف المصالح التركية على الأراضي الليبية، وهو ما ردت عليه أنقرة بتحذير مضاد، ثم اتجهت المعارك في طرابلس، خاصة خلال شهري يوليو وأغسطس، إلى القصف الجوي المتبادل للقواعد بين الجانبين، سواء في مصراتة (كمرتكز للسلاح التركي والحليف الأقوى لحكومة الوفاق) أو الجفرة (كقاعدة خلفية تسهم في سيطرة الجيش الليبي على أجواء منطقة غرب ليبيا).
صحيح أن تركيا حققت بعض التوازن بين المتنازعين في معركة طرابلس في لعبة حصد الأوراق والمساومة، لكنها تدرك أن هذا قد لا يستمر كثيرًا، سواء لاستراتيجية الصبر التي يملكها الجيش الليبي في القدرة على الاستمرار في المعارك، أو لاعتبارت التحالفات الميليشياوية المؤقتة التي توحدت في لحظة معركة طرابلس، وقد تتغير ولاءاتها الهشة في أي لحظة بما يُهدد ذلك التوازن الراهن، أو بمعنى أدق حالة اللا حسم الميداني.
بل إن هذا التوازن الذي يشوب معركة طرابلس يبدو في مضمونه جزئيًّا، حيث يقتصر مناطقيًّا على غرب ليبيا، فلم يمتد ذلك إلى بقية ميزان القوى في الفضاء الليبي ككل، والذي لا يزال يميل للجيش الوطني الليبي، كونه يسيطر على غالبية الأراضي الليبية ومصادر النفط والطاقة، بخلاف الدعم من قوى إقليمية ودولية متعددة، كمصر والسعودية والإمارات وروسيا وفرنسا، وهي أطراف أساسية أخرى لا يمكن تنحية قدراتها التأثيرية في لعبة المساومة داخل الساحة الليبية. لذلك، تحرص أنقرة على تحويل النقاط التي جنتها في غرب ليبيا في الأشهر الأخيرة إلى مكاسب سياسية محتملة قادمة، وهو ما بدا جليًّا في دعمها لهدنة وقف إطلاق النار في عيد الأضحى.
توظيفات المساومة
لكن السؤال هنا: ما الذي تفيده نقاط التوازن الجزئية والمؤقتة التي حازتها أنقرة في لعبة المساومة على ليبيا؟ هنا يمكن طرح عدة توظيفات على صعيد التفاعلات التركية مع القضايا الإقليمية الأخرى، ومنها ما يلي:
1- تحجيم التراجعات الإقليمية
ليس من قبيل المفارقة مثلًا أن يتزامن صعود الدور التركي في غرب ليبيا، وإصراره على موازنة المعادلة العسكرية مع الجيش الوطني، مع تراجعه النسبي -مع حليفته قطر- على الساحة السودانية إثر خلع “البشير” في أبريل الماضي إثر ثورة شعبية. وبدا الوضع السوداني الجديد أميل نسبيًّا لصالح المحور المصري- السعودي- الإماراتي أو حتى على الأقل تخلى حتى الآن عن منطق “البشير” في التقلب بين المحاور الإقليمية.
وكانت أنقرة تراهن على نظام “البشير”، كجزء من توسيع نفوذها في البحر الأحمر، عندما اتفقا في عام 2018 على إعادة تأهيل جزيرة سواكن، في مؤشر آنذاك على إعطاء أنقرة “نقطة نفاذ” تعزز وجودها التنافسي مع المحور السعودي–الإماراتي بالمنطقة، ولا سيما أن الدور التركي تغلغل إنسانيًّا وتنمويًّا وعسكريًّا في الصومال، بخلاف إثيوبيا التي تحظى بتواجد استثماري تركي يفوق كلًّا من السودان والصومال، وعُدَّ ذلك أيضًا ورقة من أوراق الضغط التركي غير المباشر لأنقرة على مصالح الأمن القومي المصري في منطقتي حوض النيل والبحر الأحمر.
على الجانب الآخر، فإن الارتباط الليبي بمنطقة شمال إفريقيا التي تسعى تركيا لتوسيع نفوذها فيها، خاصة المغرب والجزائر وتونس، يجعلها تستميت في معركة غرب ليبيا، لأن خروجها من ليبيا خالية الوفاض ودون أوراق ضاغطة قد يعني تأثر أدوارها في باقي المنطقة، وفقًا لنظرية “الأواني المستطرقة”، لا سيما وأن أنقرة تخوض صراعًا مع الفرنسيين في هذا المجال الجغرافي، بدأ مبكرًا منذ أيام “ساركوزي” ولا يزال مستمرًّا إبان حكم “ماكرون”، وينتقل إلى ساحات إفريقية أخرى مع توسيع أنقرة تواجدها في دول القارة. إذ ضاعفت تركيا عدة مرات معدلات التبادل التجاري مع إفريقيا، ليرتفع من 3 مليارات إلى 23.7 مليار دولار، ما بين عامي 2003 و2018، بخلاف ارتفاع عدد السفارات التركية إلى 41 سفارة، وفقًا لتقارير رسمية تركية.
2- امتلاك فرص ضاغطة
الساحة الليبية تمثل مخزن فرص لتركيا لتعزيز المساومة وابتزاز القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على ليبيا، ذلك أن سعيها لبناء توازن بين أطراف المعركة في طرابلس يستهدف في أحد أبعاده الضغط على القاهرة في عدة ملفات أخرى، منها الملف الليبي الذي يمثل أولوية قصوى ومباشرة في تأثيراته على الأمن القومي المصري، والذي استطاعت القاهرة إحراز نجاحات في هذا الملف في سياق استعادة دورها الإقليمي بعد ثورة 2013، عبر مقاربة دعم الجيش الوطني وبناء مؤسسات الدولة الوطنية. هذا بخلاف ملف آخر، وهو اكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط، حيث عزلت التحركات الإقليمية المصرية تركيا، من خلال بناء تحالفات تعاونية مع كلٍّ من قبرص واليونان عبر منتدى شرق غاز المتوسط.
في هذا الإطار، تظهر تشابكات الجغرافيا البحرية في الشرق الأوسط، حيث تمثل منطقة غرب ليبيا نقطة جغرافية قريبة من سواحل اليونان، وبالتالي تسعى تركيا لاستثمار دعمها لحكومة الوفاق في هذه المنطقة لامتلاك شريك لها في الصراع الإقليمي والدولي على غاز المتوسط، والذي يميل للمفارقة أكثر في حالة ليبيا باتجاه غرب البلاد. ولعل ذلك الأمر هو ما يجعل تركيا وإيطاليا تتلاقيان أكثر عبر الساحة الليبية، وقد يفسر إلى حد كبير كون روما، التي تتركز مصالحها في غرب وجنوب ليبيا، مستفيدة من لعبة التوازن الذي تسعى لها أنقرة في معركة طرابلس، بالنظر إلى أن ثمة وجودًا عسكريًّا إيطاليًّا قبالة سواحل غرب ليبيا بدا صامتًا أمام شحنات الأسلحة التركية المتدفقة إلى ميليشيات حكومة الوفاق.
مع ذلك، فإن لعبة المساومة التركية تبدو مقيدة في ذلك المجال، بسبب موقف الاتحاد الأوروبي في ملف اكتشافات الطاقة في البحر المتوسط، حيث فرض بالمقابل على تركيا إجراءات عقابية في يوليو الماضي بسبب تنقيبها عن الغاز قبالة سواحل قبرص، حيث اعتبر ذلك غير شرعي. ولمواجهة هذا القيد، تسعى أنقرة أيضًا لتوظيف تواجدها في غرب ليبيا كورقة ضغط تساومية تجاه القوى الأوروبية التي تعترف هي الأخرى بحكومة الوفاق، حيث تدرك أنقرة مدى أهمية دعم هذه الحكومة للأوروبيين في وقف الهجرة القادمة من إفريقيا عبر البحر المتوسط. كما أنه ليس من المستبعد أن توظّف أنقرة ورقة نقل الإرهابيين من إدلب في شمال سوريا إلى طرابلس للضغط على الأوروبيين، خاصة أن روسيا كانت قد حذرت من حدوث ذلك على لسان الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في شهر يوليو الماضي.
3- الانتقال لنموذج القوة الإقليمية الصلبة
يمكن القول إن النموذج التركي الذي اعتمد في أحد أبعاده الإقليمية على ترويج القوة الناعمة له عبر فكرة الدمج الإسلامي مع الحداثة الغربية؛ لم يعد جذابًا لا لدول منطقة الشرق الأوسط التي اختلطت فيها أزمة تيار الإسلام السياسي بموجات الإرهاب بالمنطقة، ولا حتى القوى الأوروبية الرافضة لانضمام أنقرة في الاتحاد الأوروبي. فبخلاف فشل النماذج الإسلامية في الحكم، خاصة مصر، فإن ذلك النموذج يواجه إشكاليات جمة، سواء من حيث الانتقادات الأوروبية لانتهاكات حقوق الإنسان المتصاعدة ضد المعارضة التركية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في مارس 2016، أو كذلك لما شابه من تسلطية من حيث المضمون وليس الشكل (إجراءات ديمقراطية)، حيث ركز “أردوغان” قبضة السلطة في يده مع التحول من النظام البرلماني إلى الرئاسي في عام 2018، بل إن هذا النموذج يواجه تضعضعًا في شرعيته الداخلية، خاصة بعد فوز المعارضة ببلدية إسطنبول في الانتخابات البلدية الأخيرة، ناهيك عن المشكلات الاقتصادية الحادة من تراجع للنمو الاقتصادي وتدهور العملة التركية.
لذلك، تتجه تركيا أكثر في تفاعلات المنطقة نحو الترويج لنموذج القوة الإقليمية الصلبة، أي الاعتماد المكثف على الأداة العسكرية في سياستها الخارجية، وهو ما ظهر ليس فقط في شمال سوريا، وإنما في غرب ليبيا عبر الاستعراض التسليحي التركي، ومن قبل ذلك في قطر والصومال، حيث إن لدى أنقرة قاعدتين عسكريتين في هاتين الدولتين. ويعزز ذلك توسع الصناعات العسكرية التركية وسعيها لإيجاد منافذ تصديرية لها في المنطقة، حيث ارتفعت الصادرات العسكرية بنسبة 20% ما بين عامي 2017 و2018 لتصل إلى 2.1 مليار دولار، بل إن ميزانية الإنفاق العسكري التركي كانت قد زادت بنسبة 24% في عام 2018، لتصل إلى 19 مليار دولار، وهي أعلى نسبة إنفاق سنوية بين أكبر 15 دولة إنفاقًا عسكريًّا في العالم وفقًا لتقرير SIPRI.
في الوقت نفسه، فإن مخاطرة تركيا بشراء منظومة الدفاع الصاروخي (إس 400) من روسيا برغم التهديد الأمريكي بعقوبات عليها، قد يدعم هذا المسعى في الانتقال إلى نموذج القوة الإقليمية الصلبة الذي قد تراه تركيا يعطيها قدرة أكبر على ممارسة لعبة المساومة في القضايا الإقليمية، سواء في ليبيا أو الطاقة أو سوريا أو حتى في مجابهة ضغوطات الناتو، وهو ما يُقلل نسبيًّا من التفسيرات الأيديولوجية لسلوكيات السياسة التركية الخارجية، دون إنكار أنها توظفها إن واتتها الفرصة لذلك.
مواربات غير صفرية
مع ذلك، فإن طبيعة التفاعلات غير الصفرية للعبة المساومة تنتج بموازاتها نمطًا من المواربات الإقليمية والدولية في المنطقة، أي إن تأزم العلاقات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين لا يجعلهم يتجهون للحالة الصفرية في إدارة الضغوطات المتبادلة، نظرًا لإدراكهم عدم قدرتهم على تحمل الخسائر الكاملة لمختلف أطراف اللعبة.
ويدلل على ذلك أن تركيا وهي تتحالف مع قطر في مواجهة مع المحور المصري- السعودي– الإماراتي على الساحة الليبية، تحتفظ في الوقت نفسه باستمرار العلاقات الاقتصادية مع تلك الدول لأنها تمثل جزءًا من حسابات شرعية الداخل التركي أكثر من الخارج، ولا سيما في ظل ما تعانيه تركيا من أزمة اقتصادية. فعلى سبيل المثال، لم تمنع التوترات السعودية التركية -التي برزت مع دعم أنقرة للدوحة في أزمة المقاطعة في يونيو 2017 والابتزاز التركي للرياض في أزمة مقتل الصحفي “جمال خاشقجي” في أكتوبر 2018، بخلاف الموقف إزاء ليبيا- من استمرار العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث بلغت الصادرات التركية إلى السعودية 2.6 مليار دولار، بينما تربو الواردات على 2.3 مليار دولار في عام 2018.
وبالمثل أيضًا، فبرغم التوترات الحادثة بين القاهرة وأنقرة في ملفات ليبيا، والإسلاميين، واكتشافات الطاقة في البحر المتوسط والساحة السورية؛ إلا أنهما تفصلان المسار الاقتصادي عن تلك التوترات، حيث ارتفع التبادل التجاري بينهما بنسبة 9.7% ليصل إلى 2.2 مليار دولار في عام 2018، مقارنة بنحو ملياري دولار في 2017، وفقًا للهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات في مصر.
ويتعزز أكثر منطق المواربات في لعبة المساومة الإقليمية بسبب نمط التحالفات المتغيرة وغير المستقرة في الشرق الأوسط، فبرغم أن روسيا وتركيا تتناقضان من حيث مصالحهما في ليبيا وسوريا، بل وبلغ التوتر بينهما مبلغًا حادًّا عندما أسقطت تركيا مقاتلة حربية روسية في نوفمبر 2015؛ إلا أن النمط البراجماتي التركي عاد لينظر إلى روسيا كموازن عسكري للولايات المتحدة في المنطقة في ظل دعم الأخيرة للأكرد في سوريا والعراق، كما برز في إبرام صفقة النظام الدفاعي الصاروخي (إس 400) مع موسكو. وعكس ذلك محاولة الأتراك الاستغلال المزدوج لكل من سياسة واشنطن في تقليص الالتزامات الإقليمية في الشرق الأوسط إبان إدارة “ترامب”، وصعود موسكو كقوة رئيسية غيرت مسار الصراع السوري منذ تدخلها العسكري في هذا البلد في سبتمبر 2015، وتمدد نفوذها في المنطقة حتى الأزمة الليبية، حيث تدعم الجيش الوطني الليبي ولكن تعطي مساحة للانفتاح على حكومة الوفاق.
وهكذا، فإن لعبة المساومة التي تتعامل بها تركيا مع الساحة الليبية كمسعى لامتلاك نقاط قوة تمكّنها من توسيع خياراتها في ملفات المنطقة الأخرى، سواء في الشرق الأوسط وإفريقيا، وهي لعبة صارت على ما يبدو نمطًا عامًّا يجري في تفاعلات القوى أو اللاعبين المتنافسين على النفوذ والصراع في قضايا وأزمات المنطقة، ويجعل السياسات الخارجية للدول تتحين الفرص لتعزيز حضورها لإدراك أن ذلك قد يُحقق مصالحها، سواء في مناطق قريبة أو بعيدة عن أمنها القومي، التي باتت متشابكة من حيث الفرص والقيود، ولا تعترضها عوائق الجغرافيا السياسية التقليدية.