شهدت العاصمة الروسية موسكو، يوم السبت الموافق 27 يوليو 2019، احتجاجات خرج فيها الآلاف من المواطنين، اعتراضًا على استبعاد العديد من مرشحي المعارضة في انتخابات بلدية موسكو المقرر عقدها في 8 سبتمبر المقبل. وقد مثّلت هذه الاحتجاجات أمرًا غير مسبوق في بلد يلتف غالبية مواطنيه حول سياسات الرئيس “بوتين”. لكن يبدو أن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وانتشار الفساد، كانت حاضرة بشكل غير مباشر في هذه الاحتجاجات.
الاحتجاجات نددت باستبعاد مرشحي المعارضة من الانتخابات المحلية، ودعت لمزيد من الحريات السياسية والشفافية في روسيا. وكانت السلطات الروسية قد أعلنت في وقت سابق عدم قانونية الاحتجاج، وسعت لمنعه، لكن عدة آلاف انضموا إلى المظاهرة التي أصبحت واحدة من أكبر الاحتجاجات في روسيا في السنوات الأخيرة.
وكان زعيم المعارضة “أليكسي نافالني”، دعا للاحتجاج قرب مكتب رئيس بلدية العاصمة للضغط على السلطات للسماح لمجموعة من المرشحين بالمشاركة في الانتخابات البلدية، لكن الشرطة الروسية تعاملت بقسوة مع هذه الاحتجاجات وألقت القبض على ما يقرب من 1400 من المشاركين في هذه التظاهرات، كما ألقت القبض على المعارض “أليكسي نافالني” نفسه، حيث تمت إدانته بالدعوة لتظاهرة غير مرخصة، وحُكم عليه بالسجن ثلاثين يومًا. وفي وسط موسكو، ردد المحتجون هتافات تطالب “بوتين” بالاستقالة، وردت شرطة مكافحة الشغب بضرب بعض المحتجين واحتجاز آخرين.
وتُعد حملة الاعتقالات هذه هي الأكبر في الآونة الأخيرة، حيث تزداد المعارضة تحديًا للرئيس الروسي “فلاديمير بوتن”.
السبب الرئيسي لغضب المحتجين هو منع عدد من المرشحين المعارضين من خوض انتخابات المجلس التشريعي لمدينة موسكو التي ستُجرى في 8 سبتمبر المقبل، ما ترتب عليه اندلاع احتجاجات تخللها استخدام العنف، ما دفع الشرطة الروسية إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضدها، شملت -كما سبق القول- اعتقال ما يقرب من 1400 شخص، واحتجاز زعيم المعارضة “أليكسي نافالني”. ورغم أن هذه الانتخابات ذات طابع محلي، إلا أنها تُعتبر مؤشرًا على ما قد يحدث في الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في عام 2021.
وكانت قوى المعارضة قد استطاعت جمع عدد كبير من التوقيعات لخوض الانتخابات المحلية الروسية المقبلة، لكن الحكومة الروسية رفضت قبول أوراق ترشحهم؛ بحجة أن التوقيعات التي قاموا بجمعها تشمل قدرًا كبيرًا من التزوير. ورغم إثبات المعارضة بالأدلة صحة تلك التوقيعات؛ إلا أن الحكومة الروسية أصرت على رفض أوراق ترشحهم، لذلك دعا المعارض “أليكسي نافالني” المعارضين للخروج للتظاهر.
ما يميز الاحتجاجات الأخيرة في موسكو أن قوى المعارضة التي خرجت للتظاهر هي قوى غير منظمة، إذ انتمى معظم المتظاهرين إلى الشباب الساخطين على تردي الأوضاع الاقتصادية في موسكو، غير مدفوعين بأي أجندات خاصة.
وكان أبرز الشخصيات المعارضة المشاركة في هذه الاحتجاجات “أليكسي نافالني” المقرب من “ليبوف سوبول” Lyubov Sobol، وهما الشخصان اللذان تم منعهما من خوض الانتخابات الرئاسية الروسية السابقة. ومن بين هؤلاء أيضًا كلٌّ من: إيليا ياشين IIya Yashin، وديميتري جودكوف Dmitry Gudkov، وكلاهما سعى لخوض الانتخابات المحلية.
وعلى الرغم من أن انتخابات أعضاء مجلس برلمان موسكو ليست انتخابات عامة؛ فإن نشطاء المعارضة يعتبرونها فرصة لمحاولة إيجاد موطئ قدم لهم في العاصمة الروسية، حيث تبين في السابق تراجع التأييد للمرشحين المدعومين من الكرملين.
والسؤال الذي يُثار هنا: هل ستؤدي ردود الفعل القاسية من جانب الحكومة الروسية تجاه المحتجين إلى إثارة مزيد من الاحتجاجات في الفترة المقبلة؟
بشكل عام، فإن المتتبع لمجريات الأحداث في موسكو يرصد تغييرًا نوعيًّا مهمًّا في طبيعة هذه المظاهرات ورد الكرملين عليها بالمقارنة بالاحتجاجات السابقة، ويبرز ذلك في نوعية القاعدة الشعبية للمعارضة، والتي أصبحت تضم نسبة أكبر من الشباب.
ورغم أن هذه الاحتجاجات ليست جديدة على موسكو، لكن حجم التعامل الذي تعاملت به شرطة موسكو مع المحتجين أثار غضب العديد من المراقبين السياسيين. وربما يعود ذلك إلى عدد من الأسباب، أبرزها ما يلي:
1- أن مجلس مدينة موسكو هو هيئة ضعيفة نسبيًّا، ونادرًا ما تثير انتخاباته الكثير من القلق. ففي عام 2014 حصل التحالف الموالي للحكومة الروسية على 38 مقعدًا من أصل 45 مقعدًا، بينما ذهبت البقية إلى مرشحين مستقلين لكنهم موالون بشكل ما للحكومة، وكانت نسبة الإقبال ضعيفة (حوالي 21%).
2- أن تأثير انعكاسات الانتخابات المحلية لمدينة موسكو على السياسات المحلية الروسية محدود نسبيًّا، ومع ذلك فإن رد الشرطة على هذه الاحتجاجات بدا وكأنه تهديد للدولة الروسية بشكل مباشر. فضلًا عن أن الاعتقالات التي تمت على خلفية هذه الاحتجاجات هي الأكبر منذ أكثر من عقد من الزمن.
كما أن الاقتصاد الروسي المتعثر، وانخفاض الرواتب، والغضب الشعبي من سياسات الحكومة، والضرائب المرتفعة، وتفشي الفساد، وتراجع مستويات المعيشة؛ كل ذلك أضرّ كثيرًا بالمواطنين الروس.
كما تنبغي الإشارة إلى أن إجراء الانتخابات تزامن مع انخفاض في شعبية الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، الذي تراجعت شعبيته بنسبة ١١٪، إذ أعلن ٣٨٪ من الروس أنهم لا يريدون أن يروه رئيسًا في عام ٢٠٢٤.
الأمر المقلق أيضًا هو أنه حتى وإن تمكن “بوتين” وحزبه من الفوز بانتخابات مجلس الدوما 2021، فسيكون من الصعب عليهما استخدام نفس الأدوات للبقاء في السلطة بنفس السياسات المُتبعة. وتدرك الحكومة الروسية أن الحياة اليومية للمواطنين أصبحت أكثر صعوبة، فبعد تسعة عشر عامًا من حكم الرئيس الروسي الحالي، لا تزال البلاد تُعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا (مركز استطلاع روسي مستقل) أجري في شهر يونيو الماضي، أن 27% من المشاركين في الاستطلاع قالوا إنهم سيكونون على استعداد للتظاهر ضد مستويات المعيشة المتدنية.
كل هذه الأمور دفعت الرئيس الروسي خلال برنامجه التلفزيوني السنوي الذي يجيب فيه على أسئلة مواطنيه للاعتراف بتراجع مستوى معيشة الروس، محملًا المسئولية في ذلك للعقوبات الاقتصادية الغربية وانخفاض سعر النفط، حيث وعد بالعمل على مواجهة كل هذه المشكلات.
ويبدو أن “نافالني” والمعارضة الروسية الحالية لا يشكلان تهديدًا مباشرًا لحكم “بوتين” حتى الآن؛ إذ لا تزال المظاهرات ضعيفة وهشة حتى اللحظة، ولم تتمكن من ضم أعداد كبيرة من المواطنين إليها، كما أن قوات الأمن تتمتع بقدرة كبيرة على التعامل مع هذه الاحتجاجات. لكن ذلك لا يعني أن هذه الاحتجاجاات لا تمثل مصدر قلق بالنسبة لحكومة “بوتين”، وتثير العديد من المخاوف والتساؤلات بشأن ما قد يحدث في عام 2024، وهو العام الذي سيهشد نهاية فترة الحكم الحالية للرئيس “بوتين”، وما ستئول إليه الأوضاع بعد ذلك، أو الخطط المستقبلية لبلد كبير مثل روسيا الاتحادية.