لم يكن إعلان القاهرة لمبادرة سياسية لتسوية الأزمة في ليبيا تراهن عبرها على مجلس النواب الليبي، كقوة تشريعية وحيدة في هذا البلد؛ إلا استكمالًا للمسار السياسي الذي سلكته في الآونة الأخيرة، عندما احتضنت في شهر يوليو الماضي اجتماعات ضمت أكثر من 70 نائبًا من ذلك المجلس، من أجل التوافق على إيجاد مخرج ليبي- ليبي.
وبينما تعد القاهرة ذلك المسار السياسي متوازيًا مع دعم الجيش الوطني الليبي، كجزء من الرؤية المصرية لبناء مؤسسات الدولة الوطنية القادرة على احتكار وظيفة الأمن، وإنهاء فوضى السلاح والميليشيات؛ فإن ردود فعل القوى الليبية تجاه المبادرة بدت مختلفة، ما بين مؤيدين رأوا أنه يمكن البناء عليها وتطويرها لدعم الحل السياسي، وآخرين عارضوها، معتبرين أنها تدخل خارجي، برغم أنها تحوي العديد من البنود المتفق عليها بالأساس بين القوى الداخلية والخارجية، كأرضية مشتركة لحل الأزمة الليبية.
المبادرة وردود الأفعال السابقة تثير تساؤلات حول دلالات هذه المبادرة، من حيث سياقات إطلاقها، والمضامين التي حوتها، فضلًا عن دوافع الاختلاف حولها بين الفرقاء الليبيين، والأهم من هذا وذاك، مستقبل تلك المبادرة، وما إذا كان يمكن أن تشكل إطارًا تفاوضيًّا مستقبليًّا أكثر مرونة، واستجابة لمتطلبات للأطراف الليبية.
سياقات طرح المبادرة
جاء إطلاق المبادرة المصرية في ظل سياقات الانسداد السياسي بين الفرقاء الليبيين، إذ بدت المسارات التفاوضية التي عرفتها الأزمة الليبية منذ اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، وما تلاها من مبادرات إقليمية ودولية سواء في باريس أو روما، أو حتى خطط أممية خلال عامي 2017، 2018 تواجه تعثرًا مزمنًا بسبب دورة الانقسامات التي لا تنتهي بين اللاعبين الليبيين الرئيسيين، في شرق وغرب البلاد، وهي انقسامات أخذت منحنى متصاعدًا ومتغلغلًا في هياكل السلطة التشريعية والتنفيذية منذ صيف 2014، دون أن يجسر هوتها لا اتفاق الصخيرات، ولا مساعي الأمم المتحدة لإيجاد مشتركات بين الفرقاء الذين عولوا أكثر على الأداة العسكرية لفرض قواعد اللعبة في هذا البلد.
صحيح أن الجيش الليبي استطاع فرض سيطرته الميدانية كقوة عسكرية مركزية على الشرق والجنوب، لكن معركة طرابلس في غربي البلاد -التي بدأت قبل أكثر من أربعة أشهر- لتحريرها من جماعات الإرهاب وفوضى الميليشيات أبرزت متغيرات من قبيل تزايد حجم التدخلات الإقليمية، كما الحال مع الدعم التركي العسكري العلني لميليشيات حكومة الوفاق. بل إن هذه المعارك اتجهت إلى مرحلة أخطر من الاستنزاف المتبادل عبر الضربات الجوية للقواعد الخلفية والمطارات في المدن، سواء في مصراتة (غرب) أو الجفرة (وسط).
وقد أعطت موافقة أطراف النزاع على الهدنة الإنسانية التي كانت قد اقترحتها الأمم المتحدة في عيد الأضحى بصيصًا من الأمل في إمكانية استغلال هذه الهدنة لدفع المسار السياسي المتعثر، وهو ما برز في بيان مشترك بين فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا والإمارات والذي تضمن ترحيبًا بتلك الهدنة، وتطلعًا إلى وقف نار دائم وعودة الحوار السياسي.
وبغض النظر عن أن الهدنة لم تستمر إلا أيامًا معدودات، كما أن المواقف الدولية التي تدعو علنًا لوقف إطلاق النار لا تتخذ إجراءات ملموسة لتحقيق ذلك الهدف؛ إلا أن مجمل التفاعلات المأزومة في هذا البلد باتت تدفع إلى ضرورة بدء مرحلة جديدة من الحل السياسي على أسس شاملة، وهو ما سعت له القاهرة كخطوة أولى، عندما بدأت محاولة جادة خلال شهر يوليو الماضي في احتضان اجتماعات نواب في البرلمان الليبي من مختلف المناطق والأقاليم في القاهرة للخروج من المأزق الراهن عبر حلول ورؤى سياسية وطنية، في رسالة كان مفادها: أن حل أزمة ليبيا لن يتم إلا عبر الليبيين أنفسهم.
مضامين المبادرة
في هذا السياق، بدت مبادرة مصر للتسوية الشاملة للأزمة الليبية كخطوة ثانية ومضافة لتطوير مخرجات اجتماعات النواب الليبيين في القاهرة، عندما دعت وزارة الخارجية المصرية الأمم المتحدة، يوم الثلاثاء 13 أغسطس 2019، إلى التعاون مع الممثلين المنتخبين عن الشعب لبلورة خارطة الطريق المطلوبة، وتنفيذ كل عناصر المبادرة التي أقرها مجلس الأمن في أكتوبر 2017.
وما يلفت النظر مبدئيًّا في المبادرة، أمران جوهريان. الأول، أنها تصدر من القاهرة، كلاعب إقليمي رئيسي تمثل تفاعلات الأزمة الليبية له أولوية قصوى لأمنه القومي الداخلي من جهة الحدود الغربية، وبالتالي فإن طرح المبادرة يمثل رسالة مصرية محددة لمختلف الفرقاء الليبيين بأنها تؤمن بأن الحل في ليبيا لن يكون في الأخير سوى حل سياسي. الأمر الثاني، أن المبادرة تضمنت رؤية أكثر اتساعًا من المسارات التفاوضية السابقة، حيث شملت قضايا الصراع الجوهرية التي يعاني منها الليبيون، والمتعلقة: بعدالة توزيع الموارد، وحل الميليشيات، وتوحيد مؤسسات الدولة، ونبذ الجماعات الإرهابية، ورفض التدخلات الخارجية. وبالتالي، فإننا إزاء تسوية شاملة وليست جزئية أو مؤقتة لمعالجة أزمات راهنة.
ووفقًا لذلك الفهم، يمكن تفحص البنود التفصيلية التي حوتها المبادرة المصرية وما تطرحه من دلالات على صعيد مدى إحداث اختراق نوعي في الأزمة الليبية، وذلك على النحو التالي:
1- حسم تنازع الشرعيات: حيث تضمنت المبادرة إعادة عهدة الحل السياسي في ليبيا إلى مجلس النواب، كونه المؤسسة المنتخبة الوحيدة، المنوط بها التصديق على أي خارطة طريق ووضع القواعد اللازمة لتنظيم إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ويعتمد ذلك الرهان على القوة التمثيلية الشعبية المنتخبة كمدخل لتسوية الصراعات؛ لأن نواب البرلمان يعبرون عن مختلف المناطق والأقاليم الليبية، وهو ما قد يمثل مخرجًا نسبيًّا لتنازع شرعيات الأمر الواقع التي تراهن على الحل العسكري.
2- أولوية عدالة توزيع الموارد: إذ تتفق المبادرة المصرية مع الاتجاه الأممي والدولي في النظر إلى أن لب الأزمة الليبية يتمحور حول عدالة توزيع الموارد، خاصة الموارد النفطية بين الأقاليم والمناطق المختلفة، بحكم أنه المورد الرئيسي للدخل القومي في هذا البلد. ولعل تجاهل اتفاق الصخيرات وما تلاه من مسارات تفاوضية أخرى لتلك القضية كان سببًا جوهريًّا في تأزمها. ذلك أن تهميش الشرق تنمويًّا في معادلة الموارد النفطية، كان أحد أسباب الثورة ضد نظام “القذافي”، وهو أمر لم يتم علاجه على مدار الانتقال الليبي لأكثر من ثماني سنوات.
بل إن المبادرة المصرية أدرجت ضمن بنودها تأكيدًا على أهمية “الشفافية في إنفاق تلك الموارد”، لا سيما وأن حكومة الوفاق الليبي ذاتها أنفقت على الميليشيات المغذية لعدم الاستقرار من العوائد النفطية التي تذهب للبنك المركزي الليبي في طرابلس، وهو ما جعل تلك الميليشيات تجد مصلحة في مد أمد الصراع ورفض أي حلول للتسوية السياسية.
3- توحيد مؤسسات الدولة: وهو بند أساسي في المبادرة المصرية عبّر عن الخط الأساسي للسياسة المصرية إزاء الأزمة الليبية، التي تنظر إلى أن مكمن الفوضى يرجع إلى انقسام المؤسسات، وبالتالي عدم قدرة الدولة على أداء وظائفها. ولم ينجح اتفاق الصخيرات في رأب هذا الانقسام، خاصة أن حكومة الوفاق أخذت شرعية وجودها في غرب ليبيا من الاعتراف الدولي والدعم الميليشياوي، وليس من مجلس النواب الليبي ذاته ككيان تمثيلي منتخب يمنح الشرعية للسلطة التنفيذية، الأمر الذي خلف أزمة عدم ثقة بين الفرقاء في شرق وغرب البلاد، لا سيما وأن الأخير صار رهينة لكارتل من الميليشيات التي تتحكم ليس فقط في قرارات السلطة، وإنما في الأحوال اليومية والمعيشية للمواطنين.
4- حل الميليشيات المسلحة: حيث طرحت المبادرة المصرية قضية جمع السلاح وحل الميليشيات على النحو الوارد في الاتفاق السياسي الليبي، لا سيما وأنها تمثل إحدى المشكلات الجوهرية في أزمة هذا البلد. ولعل القاهرة كانت قد احتضنت جولات عديدة بين الفرقاء الليبيين من أجل توحيد المؤسسة العسكرية الليبية بين الشرق والغرب، وهو أمر دعمته الأمم المتحدة من قبل إبان مؤتمر باليرمو في إيطاليا في نوفمبر 2018، لكن حالت سياقات التدخلات الدولية في الرهان على الميليشيات دون بلوغ هذا الهدف، إذ لجأت دول عديدة لاستقطابها في أجواء افتقاد الدولة لقدرتها على أداء وظيفتها الأمنية.
5- نبذ الجماعات الإرهابية: إذ تضمنت المبادرة المصرية مناشدة للأطراف الليبية باتخاذ موقف واضح للنأي بنفسها عن المجموعات الإرهابية والاجرامية. وتبدو أهمية ذلك لما يشكله الإرهاب من ركن أساسي في أزمة عدم استقرار هذا البلد؛ فبرغم أن الأطراف المتنازعة غربًا وشرقًا كافحت الجماعات الإرهابية بمختلف أشكالها وانتماءاتها الداعشية والقاعدية، سواء في سرت في 2016، أو بنغازي في 2017، أو درنة في 2018؛ إلا أن سياقات معركة طرابلس الأخيرة أبرزت بالمقابل صعود التهديدات الإرهابية مرة أخرى، خاصة مع تسرب إرهابيين من مناطق النزاعات في الشرق الأوسط والساحل الإفريقي إلى غرب وجنوب ليبيا، بخلاف شن هجمات في شرق ليبيا. كما برز مؤخرًا في تفجير انتحاري استهدف موكبًا للأمم المتحدة في بنغازي.
6- رفض التدخلات الخارجية: إذ إن أجواء الانقسام الداخلي الليبي سمحت للقوى الخارجية، سواء الإقليمية أو الدولية، باستقطاب وكلاء للدفاع عن مصالحها، وهو ما صعب من إنفاذ أي تسوية بين فرقاء الداخل إلا إذا تلاقت مع مصالح قوى الخارج. ومن ثم، تكمن أهمية اقتراح أحد بنود المبادرة المصرية في التزام الأطراف برفض التدخلات الخارجية، بأنه يؤسس لمقاربة الحل الليبي-الليبي.
7- استدعاء الدور الأممي: حيث تضمنت المبادرة استدعاء الأمم المتحدة بالتعاون مع مجلس النواب الليبي لبلورة خارطة طريق بحيث تستند إلى الخطة التي أقرها مجلس الأمن في أكتوبر 2017. ونظرًا لأن هذه الخطة تتضمن انتخابات تشريعية ورئاسية، فذلك يعني أن المبادرة المصرية تبعث برسالة مفادها أن الإرادة الشعبية هي التي تحدد مصير ليبيا وليس غيرها من الأمور. ويتلاقى هذا البند مع مساعي الأمين العام للأمم المتحدة “غسان سلامة” لاستعادة الدور القيادي في تسوية الأزمة.
دوافع الاختلاف
اختلفت الأطراف الليبية إزاء المبادرة المصرية؛ إذ رحب مجلس النواب الليبي بالمبادرة، مؤكدًا أهميتها في دعم الاستقرار، مشددًا على بعض الثوابت، مثل: رفض التدخلات الخارجية، وحل الميليشيات، ونزع السلاح، والقضاء على الإرهاب، داعيًا الأمم المتحدة إلى العمل بهذه الثوابت لإيجاد حل للأزمة، فيما اعتبر نواب ومراقبون ليبيون أن المبادرة المصرية يمكن البناء عليها لإيجاد تسوية شاملة تسهم في بناء مؤسسات الدولة الليبية. كما دعم أيضًا أعضاء كتلة برقة في مجلس النواب الطرح المصري، معتبرين أنه يعالج الأزمة بعمق وفقًا للثوابت الليبية التي عبر عنها الاجتماع التشاوري الأخير للنواب اللييين في القاهرة.
في المقابل، لوحظ وجود رفض سريع للمبادرة من جانب كل من خارجية حكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة، وتشابهت تبريرات الحليفين في غرب ليبيا، حيث اعتبرا أن المبادرة تمثل تدخلًا خارجيًّا في عمل حكومة الوفاق التي نتجت عن اتفاق الصخيرات. كما تضمن بيان خارجية الوفاق اتهامات مبطنة للقاهرة بأن دعمها للمشير “خليفة حفتر” هو الذي عرقل الاتفاق السياسي، بخلاف تجاهل المبادرة للأجسام المنبثقة عن اتفاق الصخيرات الذي اعترف به مجلس الأمن، في إشارة إلى المجلس الأعلى للدولة، حيث اعتبر رئيسه “خالد المشري” -في تصريحات أخرى مضادة للمبادرة- أنه يضم ممثلين منتخبين.
لكن بعض هذه التبريرات لرفض المبادرة المصرية تثير الانتباه لمحاولة فهم ما وراءها، لأنه بينما تتحدث خارجية الوفاق عما أسمته “تدخلات خارجية”، فإنها ترحب -في المقابل- بدعم عسكري تركي مباشر وعلني لم يعد خافيًا بعد أن اعترف به الرئيس “أردوغان” في شهر يونيو الماضي، بل إن “فايز السراج” -رئيس حكومة الوفاق- دأب على دعوة القوى الكبرى للتدخل لإيقاف معركة طرابلس، بل والاستقواء بالاتصالات مع الحكومات والقوى الأوروبية. كما أنه عادة ما يعول على الأمم المتحدة في دعم التسوية بين الفرقاء الليبيين، كما الحال مع مبادرة له كان قد طرحها في يونيو الماضي.
الأهم من ذلك، أن المجلس الأعلى للدولة ليس كيانًا تشريعيًّا، وإنما برز كجسم استشاري في اتفاق الصخيرات، حيث تقتصر صلاحياته على اقتراح ودراسة السياسات المعاونة للسلطتين التنفيذية والتشريعية. وكان بروز هذا المجلس نتاجًا لعملية استرضاء سياسي لاستيعاب ضغوطات نواب المؤتمر الوطني العام الذي انتُخب في عام 2012، وعزز انقسام السلطة عبر إقامته سلطة غير شرعية وموازية لمجلس النواب المنتخب في عام 2014. وبالتالي، صحيح أن نواب المجلس الأعلى للدولة كانوا منتخبين، ولكن لم تعد لهم هذه الصفة التمثيلية، بحكم اتفاق الصخيرات، الذي أعطى صلاحيات السلطة التشريعية لمجلس النواب.
ولعل المأزق الاستشاري للمجلس الأعلى للدولة الذي باتت تهيمن عليه اتجاهات إسلامية، قد يفسر إلى حد كبير مساعي حكومة الوفاق لشق صفوف مجلس النواب المنتخب، عبر تأسيس برلمان موازٍ من البرلمانيين المؤيدين للمجلس الرئاسي، في محاولة لإضعاف المجلس وإظهاره على أنه منقسم، وهو ما تعرض للإدانة من قبل المبعوث الأممي “غسان سلامة” في إحاطته أمام مجلس الأمن في أواخر يوليو الماضي.
لذلك، فإن الرفض السريع لخارجية الوفاق والمجلس الأعلى للدولة ربما يعكس دوافع أخرى غير تلك المطروحة علنًا، ومن بينها خشية نخبة الوفاق وحلفائها من التهميش السياسي إذا ما عادت كرة التسوية لملعب مجلس النواب، وكذلك التخوف من حدوث شرخ داخلي في تحالفات معركة طرابلس التي تبدو هشة بحكم التئامها في لحظة مواجهة الجيش الليبي، وربما تتفكك مع الضغط العسكري الجوي على مصراتة -كأقوى حليف للوفاق وأكبر قوة اقتصادية في الغرب الليبي– والذي قد يدفعها للجنوح نحو المسار السياسي، وهو أمر كانت له شواهد متكررة في ديناميات الصراع الليبي خاصة بعد حرب صيف 2014 وفي غمار المفاوضات التي سبقت آنذاك اتفاق الصخيرات خلال عام 2015.
زد على ذلك، أن المبادرة المصرية تأتي في سياق ميداني، قد يكون غير حاسم ميدانيًّا في معركة طرابلس حتى الآن، ولكن مع ذلك يظل الجيش الوطني حاصدًا بعض النقاط الضاغطة والمحاصرة لحكومة الوفاق في ظل تفوقه الجوي نسبيًّا، بخلاف ميل ميزان القوى له بشكل عام نظرًا لسيطرته على غالبية الأراضي ومصادر النفط، وهو أمر يثير مخاوف حكومة الوفاق وحلفائها من أن يكرس المسار السياسي أوضاعًا ميدانية قد لا تكون في صالحهم.
ناهيك عن أن مبادرة القاهرة التي تبنت مبدأ رفض التدخلات الخارجية تعني حال إنفاذها إضعاف الحليف التركي–القطري لحكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة في المعادلة السياسية، وهو أمر لا يقدر فرقاء غرب ليبيا على دفع كلفته، لا سيما وأن أنقره دعمتهم سياسيًّا وعسكريًّا طيلة الفترة الماضية، سواء للحفاظ على استثماراتها بالمنطقة، أو للضغط على مصر في قضايا إقليمية أخرى تشتبك معها، كالإسلاميين واكتشافات الطاقة في البحر المتوسط، وغيرها.
فرص مستقبلية
برغم القيود التي يطرحها الاختلاف الليبي على المبادرة المصرية لتسوية الأزمة، لكن مع ذلك، فإنها قيود ذات طبيعة ظرفية، أي مرتهنة أكثر بديناميات الصراع الراهن في طرابلس، والذي ما إن تتوقف دورته، ويعود المسار السياسي تارة أخرى، فربما تصبح هنالك فرص أكبر لتلك المبادرة، لكي تصبح إطارًا تفاوضيًّا عامًّا يمكن أن تتوافق حوله قوى الداخل والخارج، كونها وضعت يديها -من جهة- على القضايا الجوهرية المحفزة للصراع الليبي، سواء من أسفل أو أعلى الصراع (الموارد، الأمن، الشرعية)، أي تمثل تلاقيًا لشواغل الدولة والمجتمع. وأعادت -من جهة أخرى- التسوية للملعب الليبي خاصة مجلس النواب عبر التعاون مع الأمم المتحدة.
وبالتالي، فإن المبادرة المصرية قد تصلح أساسًا للتطوير والبناء عليها من خلال الليبيين أنفسهم عبر بناء آليات حوارية حول بنود المبادرة، يمكن أن تقودها اللجان المختلفة في مجلس النواب في مختلف المناطق الليبية للخروج بتصورات وآليات تنفيذية، ضمن خارطة طريق متوافق عليها لاستيعاب احتياجات كافة أطراف الصراع.
يظل في الأخير أن المبادرة المصرية تؤشر في مجملها العام على التحول النوعي للقاهرة باتجاه الممارسة السياسية في الملف الليبي، كوسيط إقليمي يملك قابلية نسبية في الفضاء الليبي تنبع من الارتباطات الأمنية والاقتصادية والمجتمعية الوثيقة والممتدة بين البلدين، وكذلك لكون مصر قوة إقليمية تملك إرثًا وخبرات مؤسساتية لبناء الدولة، تبدو ليبيا في أمس الحاجة لها بعد أكثر من سنوات من الانتقال المتعثر ودورات الصراع المتكررة.