صدر في يناير الماضي (2019) كتاب “المهنة: دبلوماسي” للسفير الفرنسي على المعاش “إيف أوبان دي لا ميسوزيار”. ويُلاحظ أولًا أن العنوان تقليد لعنوان كتاب ذاع صيته في النصف الثاني من السبعينيات والثمانينيات، وهو كتاب “المهنة: موظف” لـ”فرانسوا بلوك لينيه” وكان من كبار الموظفين على قمة الإدارة العامة الفرنسية. والاختيار ليس بريئًا بل مقصودًا ليحدد طموح الكاتب. فكتاب “بلوك لينيه” عن سيرته الذاتية ألهم أجيالًا من خريجي المدرسة القومية للإدارة التي تُفرز كوادر الإدارة العامة العليا، وكان في وقت ما مرجعيتهم، وكان أستاذنا الدكتور “كيرمون” يحثنا حثًّا على قراءته.
ويقول الكاتب في مقدمته، إن الكتاب ليس مذكرات بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا سردًا لمواقف وطرائف، بل شهادة عن مهنة الدبلوماسي. وأضاف أنه اختار أن يعرض لبعض مراحل مشواره المهني دون غيرها لأنها تُلقي الضوء على طبيعة الوظيفة وعلى تنظيم شبكة وزارة الخارجية الفرنسية. وهناك فعلًا فصول كاملة لمشواره لا يتناولها (فترات خدمته في مصر والمغرب لا تُذكر إلا في جملة أو جملتين).
الكاتب من المستعربين، دخل الخارجية عبر بوابة “الامتحان الشرقي”، وهو امتحان لمن يرغب في الالتحاق بالسلك الدبلوماسي من الذين يجيدون العربية أو الصينية أو الروسية، وهي بوابة ضمن بوابات أخرى أهمها التخرج في المدرسة القومية للإدارة. يقول الكاتب إن الملتحقين عبر بوابة الامتحان الشرقي ظُلموا أحيانًا لصالح الملتحقين عبر المدرسة القومية للإدارة الأكثر رونقًا. من يدخل عبر بوابة الشرق متحمس، واختار الخارجية عن اقتناع، وكدّ للالتحاق بها. أما خريج المدرسة القومية للإدارة فقد يكون محبًّا للمهنة، أو مكتفيًا بها بعد فشله في الالتحاق بسلك أكثر أهمية (سلك مفتشي المالية/ سلك الجهاز المركزي للمحاسبات/ سلك مجلس الدولة.. إلخ).
الكاتب ضليع في اللغة والثقافة العربية، والسؤال الذي يفرض نفسه: هل هذا -على ضرورته- كافٍ لفهم المجتمعات المعاصرة؟ فقد خدم الكاتب في دول عديدة، منها الأردن واليمن ومصر والمغرب والعراق (أيام صدام حسين) وتشاد وتونس وإيطاليا، وكان مديرًا لإدارة شمال إفريقيا/ الشرق الأوسط في الخارجية، وبعد خروجه إلى المعاش كُلف بمهمة التواصل مع منظمة “حماس”. وقبل الالتحاق بالخارجية أمضى شهورًا في كيبوتز إسرائيلي. ذكر هذا لدحض تهمة الانحياز ضد إسرائيل، ولم يخض في تفصيلات، ولكن يبدو أن دوافعه كانت الإعجاب اليساري بنموذج الكيبوتز.
شيء ما مثير للتفكير أو مزعج في سرده للأحداث، أظن أننا نستطيع القول إنه ادعى الموضوعية والحيادية، وحاول الالتزام بهما، ولكنه لم ينجح دائمًا، فانتقاؤه للأحداث الجديرة بسردها ونبرة الخطاب وانتقاء المفردات والمصطلحات وبعض الانحيازات الواضحة تؤثر على الكتاب تأثيرًا أراه سلبيًّا. لا نجد فيه التعاطف والفهم العميق اللذين يميزان مذكرات “مارتان” السابق عرضها. ولا يمكن اعتبار الكتاب مدخلا رئيسا لفهم أي دولة (ربما تكون تشاد استثناء). وفي المقابل هناك شرحٌ وافٍ لآليات العمل الدبلوماسي الفرنسي.
الكاتب له نزعة يسارية واضحة يخفف منها إدراكه مهام عمله، وهو علماني صارم له قدر من التعاطف مع الإسلاميين، ولكنه ليس تعاطفًا أعمى، لا يحب أنظمة الدول التي خدم فيها ولا شخصيات قادتها، ويعطي لقضية حقوق الإنسان أهمية كبيرة نسبيًّا وإن كانت أقل مما يطلبه نشطاء المنظمات. بدا لي أن موقفه الشخصي يتمثل في أن المصالح السياسية والاستراتيجية أهم من حقوق الإنسان، ولكن لا يجوز تفضيل الصفقات التجارية عليها.. وانتقد من رَأَى عكس هذا.
شأنه شأن السفير “مارتان” ذي الميول الديجولية، ينتمي الكاتب إلى المدرسة الديجولية/ الميتراندية في السياسة الخارجية، ويقول عنها إنها تؤمن بوجوب سياسة خارجية مستقلة (عن السياسة الأمريكية أساسًا)، وبأهمية الدور الفرنسي النشيط المعبر عن إرادة وطنية، والمعتمد اعتمادًا كبيرًا على اللغة والثقافة. لكنه يلاحظ أن أنصار تلك المدرسة لهم آراء ومشارب مختلفة. على سبيل المثال، الموقف من العرب وإسرائيل ليس واحدًا عند أبناء تلك المدرسة. كاتبنا يرى أن عصر “سياسة فرنسا العربية” التي أرسى مبادئها “ديجول” ولّى إلى غير رجعة، لسبب رئيس هو أن العالم العربي لم يعد واحدًا موحدًا حتى فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ولأن مصالح فرنسا تقتضي التركيز على دول المغرب العربي أو على الأقل زيادة الاهتمام بها. ويعترف أنه لم ينجح تمامًا في سعيه إلى إعادة توجيه الدفة.
وشأنه شأن “مارتان”، يتحدث الكاتب باحترام وود عن الرئيس “شيراك”، وباحتقار شديد ونقد لاذع لخلفه الرئيس “ساركوزي”. الأول مهتم ببناء العلاقات الإنسانية مع الفاعلين ويعرفهم جيدًا، ويعرف أحوالهم وآراءهم، وتصوراته عن السياسة الخارجية سليمة وعميقة، وحتى النقد الموجه إلى الأول فيه قدر من الود والعطف (يسخر الكاتب برقة من المبالغة في الاهتمام بلبنان، وبرأي المرحوم “رفيق الحريري” في كل ما يتعلق بالمنطقة). أما الثاني -أي الرئيس “ساركوزي”- فقليل الأدب، ونرجسي، وعدواني، ومندفع، وكثير الأخطاء، يحتقر الدبلوماسيين ولا يستمع إليهم، ولا يفهم في السياسة الخارجية، ولا يتبنى الخط الديجولي/ الميتراندي. الكتاب لا يذكر الرئيس “هولاند” كثيرًا، والنبرة متحفظة دون رفض صريح.
نقسم العرض لأهم ما ورد في الكتاب إلى ثلاثة أقسام كبيرة: الأول متعلق بالآليات وبالعمل المؤسسي. والثاني يتناول ما ورد عن تشاد وهي دولة تلعب دورًا عسكريًّا بالغ الأهمية في إفريقيا. والثالث يخص تناوله لقضايا الشرق الأوسط. ولن نعرض هنا لما ذكره عن فترة عمله في إيطاليا، مع الاعتراف بأهمية بعض ما ذكره.
الآليات والعمل المؤسسي
في خاتمة الكتاب، يقول السفير “دي لا ميسوزيار” إن الوزارة لها عدو لدود كبير غير مقتنع برسالتها ودورها وهو وزارة المالية. وأذكر أن سفيرًا بارزًا قال لي في ديسمبر ٢٠٠٨، إن الدولة الفرنسية تشهد صعود “المحاسبين” الذين لا يؤمنون بأهمية “الدور” وعوائده إن كانت عوائده مستقبلية من الصعب حسابها بدقة. وعلى العموم فإن ميزانية الوزارة في تناقص مستمر، ولا تشكل الآن إلا ١٪ من ميزانية الدولة، وفقدت الخارجية نصف عامليها في ثلاثين عامًا، وتميل إلى تكثيف اللجوء إلى العقود المؤقتة. ويسود تصور يرى أن السياسة الخارجية يمكنها الاستغناء عن شبكة سفارات حتى لو كانت تلك السياسة طموحة للغاية. ومن مظاهر ضعف التمويل اضطرار السفارات الفرنسية إلى طلب تمويل من الشركات الفرنسية العاملة في البلاد لتتمكن من تنظيم بعض الفعاليات منها الاحتفال بالعيد الوطني.
وفي مقدمة الفصل الخاص بمهمته في تشاد، يقول الكاتب إن السفير بعد أن يعلم أين سيمثل بلده، يعقد سلسلة لقاءات مع الفاعلين الحكوميين الفرنسيين المنخرطين في العلاقات الثنائية مع البلد التي سيذهب إليها. وهؤلاء فيما يخص تشاد هم: رئاسة الوزراء، ووزارة التعاون الدولي إن وجدت، ووزارة الدفاع، ووزارة الداخلية، والخلية الدبلوماسية بقصر الرئاسة، والخلية الإفريقية، ومساعد الرئيس للشئون العسكرية. ومن المفروض طبعًا أن يقابل وزير الخارجية أو مدير مكتبه، إلا أن الوزير رفض مقابلته لأنه لا يد له في رسم السياسة المتعلقة بتشاد! ويضيف أيضًا أن الخلية الإفريقية في الرئاسة دعته إلى عشاء نظمته المخابرات تكريمًا للرئيس التشادي “إدريس دبي”.
وتختلف اللقاءات مع اختلاف الوضع الدولي للبلد الذي سيقوم بتمثيل فرنسا فيها وطبيعة العلاقات الثنائية. وأشار هنا إلى أنه عندما عُين قائمًا على المصالح الفرنسية في العراق، قابل الرئيس “شيراك” شخصيًّا، وقابل أيضًا الوزير، الذي حلّل أمامه الوضع الإقليمي “تحليلًا واعيًا” ولكن كان من الواضح أنه (الوزير) مهمش فيما يخص هذا الملف وأنه غاضب، وأن الذي همّشه هو مستشار “شيراك” الدبلوماسي السفير “ليفيت”. ويقول إنه تم تنظيم لقاءات معمقة مع إدارات في الخارجية هي إدارة إفريقيا الشمالية/ الشرق الأوسط، وإدارة الأمم المتحدة، وإدارة نزع السلاح ومنع انتشار الأسلحة النووية.
وقبل السفر يتلقى السفير مباشرة سلة تعليمات تم الاتفاق عليها في اجتماعات بين إدارات وزارات الخارجية المختلفة وفي اجتماعات بين الوزارة والوزارات الأخرى. وقد يتم تعديلها وفقًا للمستجدات.
ويقول السفير في كل فصول الكتاب إن السفير يخوض معركة يومية ليضمن إشرافه الشخصي الكامل على العلاقات الثنائية، ولا سيما السياسية والاقتصادية والعسكرية، إذ يميل ممثلو الوزارات السيادية والمخابرات الفرنسية إلى التعامل المباشر مع حكومة البلد أو فاعليها، وقد لا يقومون بإخطار السفير، ولا سيما إن كان هناك وجود عسكري ومخابراتي قوي. وأحيانًا يتفاعل هؤلاء مع عاملين بالرئاسة الفرنسية دون إخطاره. وقد يلجأ بعضهم إلى كتابة تقارير إلى وزاراتهم تنتقد سياسة السفير ومواقفه، وتقوم أحيانًا بعض الجهات المعترضة على تلك السياسة بمد الرئاسة (التشادية أو غيرها) بمعلومات عما يدور في كواليس الدولة الفرنسية للتنديد بدور السفير. وفي الدول الإفريقية بالذات تلعب الشركات الفرنسية وبعض الشبكات المشبوهة لرجال أعمال ووسطاء سمعتهم سيئة دورًا معقدا إن لم يكن معطلًا أو مخربًا. وفرنسا عرفت رؤساء يلجئون إلى قنوات غير رسمية وآخرين لا يعترفون بها، ورؤساء يُخطرون السفير والأجهزة بما تم في اللقاءات الثنائية بينهم وبين نظرائهم من قادة الدول ومن لا يفعل هذا. وهناك رؤساء -“شيراك” أساسًا- يواظبون على لقاء السفير والحديث معه، ولا سيما إن كان يخدم في بلاد تهمهم. والطريف أن “شيراك” كان يهتم بتشاد أو بلبنان ولم يكن يعير إيطاليا أي اهتمام.
ويضيف السفير أنه “أعاد الاعتبار” للتحليل السياسي وللبرقية التي تؤصل للموضوع وتبحثه باستفاضة وتقدم توصيات، وكان اللجوء إلى مثل هذه البرقيات نادرًا وفي تراجع لحساب البرقيات التي تركز على الوقائع والمضابط دون تعليق للمحرر. ويقول أيضًا إنه سمح لمحرر البرقية -من أصغر ملحق إلى المستشار- أن يوقع باسمه، وكانت العادة أن السفير هو الموقّع حتى لو لم يكتب حرفًا. ولست متأكدًا أن هذا التطور أصبح عرفًا.
وفي الفصل الخاص برئاسته لإدارة شمال إفريقيا والشرق الأوسط من ١٩٩٩ إلى ٢٠٠٢ خلفًا لـ”جان كلود كوسران” الذي أصبح مديرًا للمخابرات، عرض لنا بعض آليات عملها. وهي إدارة لها أهمية استراتيجية وسياسية واقتصادية وأمنية وإنسانية قصوى. ويقول إن أغلب عملها أيامها إن لم يكن كله إدارة أزمات. ويبدو أن هذا الكلام مجازي لأن تلك الإدارة لم تكن تدير أزمات بالمعنى المتعارف عليه اليوم في الدبلوماسية. ومن ناحية أخرى، تم بعد ذلك سنة ٢٠٠٨ إنشاء مركز بالوزارة لإدارة الأزمات، على غرار نظيره بالمخابرات، ويضم المركز الجديد حوالي ٤٠ شخصًا أغلبهم يعمل بعقد مؤقت.
وأيًّا كان الأمر، تختص إدارة شمال إفريقيا والشرق الأوسط التي تضم عشرين كادرًا بالدول العربية وإسرائيل وإيران. ويلاحظ أن تركيا من اختصاص إدارة أخرى. الإدارة تراقب وتتابع عشرات من الصراعات، إضافةً إلى تمدد الإرهاب. العاملون بها يراكمون الساعات الإضافية، ويضطرون إلى العمل ليلًا وأثناء العطلة الأسبوعية. المهمة الأولى هي إعداد مذكرات تلخيص الوضع، وتقديم اقتراحات حول اختيار الألفاظ التي تصف المشهد وتحدد موقف فرنسا، سواء عند تحرير البيانات الرسمية أو عند إطلاق المبادرات الدبلوماسية أو عند التجهيز لما يقال في اللقاءات الرسمية. يتم تقديم المذكرات والاقتراحات لمكتب الوزير الذي يوافق أو يعدل، وهناك طبعًا تشاور مع رئاسة الجمهورية إن كان الوضع دقيقًا أو حساسًا. وبعد الحصول على موافقة مكتب الوزير يتم إرسال تعليمات للسفارات المعنية.
المهمة الثانية، هي عبء ثقيل هو التحضير لجولات الرئيس والوزراء في المنطقة، وهي مهمة تقتضي التنسيق مع إدارات أخرى بالوزارة ومع الوزارات المعنية. والمهمة الثالثة هي تحضير وتحرير رسائل للرد على تساؤلات واستجوابات النواب وشخصيات عامة، وتحضير ما يمكن للمتحدث الرسمي أن يقوله.
وبما أن ضغط العمل يؤثر سلبًا على قدرة الكوادر على التحليل والتخطيط والتنبؤ، تم إنشاء خلية تضم محللين وخبراء وباحثين لا يعملون بالوزارة لمعاونتها وتستقبل الإدارة بصفة دورية باحثين مختصين في شئون المنطقة. ويتفادى السفير “إيف أوبان” سؤال تقييم حصاد تلك الاجتماعات واللقاءات، لكنه يقول إن إدارة شمال إفريقيا/ الشرق الأوسط عانت من شيوع أفكار مسبقة عن انحيازها الكامل ضد إسرائيل، ويحاول دحض هذا “الاتهام” بحجج بدت لي ضعيفة، ولكنه لا يذكر، وبالتالي لا يناقش الاتهام الآخر وهو متعلق بموقف بعض الكوادر المؤيدة للرهان على الإخوان المسلمين والإسلاميين.
ووفقًا للمؤلف، يشوب قدر من التوتر العلاقة بين تلك الإدارة وإدارة الشئون السياسية والأمن التي تشرف على قسم الأمم المتحدة؛ فالثانية تضم فريقًا يثمن العلاقة مع الولايات المتحدة ويرى في توصيات الأولى موقفًا سلبيًّا من واشنطن. وفي موضع آخر من الكتاب يُشير إلى مقال نُشر في مجلة Esprit في مطلع سنة ٢٠١٨ لرئيس وحدة التحليل والتنبؤ الاستراتيجي بوزارة الخارجية وهو الجامعي “جوستان فايس”، قال فيها إن المرجعية الديجولية/ الميتراندية لم تعد صالحة لمواجهة تحديات اليوم، وزعم أن إدارة شمال إفريقيا/ الشرق الأوسط تعتبر من معاقلها الأخيرة. ويعبر “أوبان” عن استيائه من تلك المقولة ولكنه لا يناقشها.
ويمكنني بعد لقاءات مع مراقبين تلخيص تطور ميزان القوة بين الإدارتين كالآتي: عاشت إدارة شمال إفريقيا/ الشرق الأوسط لحظة نشوة كبيرة عندما تبنت الحكومة موقفها فتصدت فرنسا لمزاعم الولايات المتحدة حول العراق وأسلحته ونجحت في منع مجلس الأمن من الموافقة على غزو العراق. واليوم يبدو هذا الموقف حصيفًا وأخلاقيًّا. ولكن فرنسا عانت في السنوات التي تلت انتصارها الدبلوماسي من ردود فعل واشنطن ومقاطعة قطاعات من الأمريكيين لمنتجاتها. واستمع “شيراك” تدريجيًّا إلى نصائح الكوادر المنتمية لإدارة الشئون السياسية، لا سيما المحسوبين على تيار المحافظين الجدد. ثم انحاز إليهم الرئيس “ساركوزي” انحيازًا يكاد يكون كاملًا، وعينهم في مواقع قيادية حساسة. واستمر التراجع المستمر لإدارة شمال إفريقيا/ الشرق الأوسط إلى ما بعد رئاستي “ساركوزي” و”هولاند”.
المحافظون الجدد الفرنسيون مجموعة صغيرة (بين ثلاثين وخمسين كادرًا وصحفيًّا) لها مشارب مختلفة: منهم أنصار سياسة القوة، ومنهم المؤيدون تمامًا لإسرائيل، ومنهم المعادون للإسلام والمسلمين معاداة كاملة، ومنهم “حراس المعبد النووي” الذين يركزون على منع انتشار الأسلحة النووية، ومنهم من يعطي لقضية حقوق الإنسان أولوية مطلقة. وتهتم كل المجموعة بالعلاقات مع الولايات المتحدة وروسيا وبالشرق الأوسط. ولا يتفقون على موقف واحد من الرئيس “بوتين”، وبصفة عامة لا يتفقون تمامًا إلا نادرًا. وأهم الموضوعات محل الإجماع بينهم هي: عراق صدام حسين، وإيران. وكان تأثيرهم كبيرًا أيام رئاسة “ساركوزي” ثم تراجع دون أن يختفي.
نعود إلى كتاب السفير، في فصل متأخر يتساءل “أوبان” عن تطور مهنة السفير ومستقبلها، وهو يرى أنها ما زالت ضرورية حتى في ظل التطور التكنولوجي الذي يسهل المشاورات بين رؤساء الدول وتداول المعلومات، ذلك أن العلاقات الدولية تشعبت وتعقدت، وتنوعت الآن مهام الدبلوماسي، وازدادت تعقيدًا، ولذلك يرى أيضًا أن المهنة يجب أن تترك لمحترفيها، ويجب التقليل من ظاهرة مكافأة الأنصار والمحاسيب والحلفاء بتعيينهم في/ أو على رأس سفارات. هذا التشخيص العام لا يمنعه من الإقرار بوجود استثناءات. الصحفي الكبير “إيريك رولو” (من أصول يهودية مصرية) كان سفيرًا ممتازًا. ويناقش في نفس الفصل قضايا أخرى متعلقة بتنظيم المهنة في فرنسا، منها التمييز بين من التحق بالسلك عبر بوابة الامتحان الشرقي ومن دخله بعد تخرجه في المدرسة القومية للإدارة، ومكانة النساء في الوزارة (يقول إن السفيرات المصريات أكثر عددًا من السفيرات الفرنسيات) وهل يمكن تعيين امرأة سفيرًا في دول عربية (يرد بالإيجاب)، ثم ينكر وجود مجموعات ضغط سرية في الوزارة (لوبي ماسوني/ لوبي مثليين)، ولكنه لا يُناقش القضية، وفي المقابل يقر بأن بعض الدول العربية والإفريقية تنجح أحيانًا في دفع الرئيس الفرنسي لتغيير السفير. ويُناقش أيضًا تأثير شخصية السفير على ميزان القوة والعلاقة بين الرئيس والوزارة والجهات السيادية والمعنية. ولكنه لا يشير إلى مسئولية رئيس الدولة عن هذا الوضع. ويحدد بالاسم وزيرين كان أداؤهما رديئًا، ولكنه لا يقول ما يعرفه القاصي والداني، من أنه تم تعيينهما لأن الرئيس أراد ألا يزاحمه وزير قوي.
تشاد
المؤلف كان سفيرًا لفرنسا في تشاد من سنة ١٩٩١ إلى سنة ١٩٩٤. حل محل سفير غضب عليه الرئيس “ميتران” لفشله في تنفيذ أوامر متعلقة بتخيير أسرى ليبيين بين اللجوء إلى كينيا أو الولايات المتحدة والعودة إلى بلادهم. فوجئ “أوبان” بتعيينه لأنه لم يكن خبيرًا في الشئون الإفريقية. تُركت له مهلة قصيرة ليوافق أو يرفض وقرر القبول. قابل الرئيس التشادي “إدريس دبي” لأول مرة أثناء عشاء نظمته المخابرات الفرنسية في باريس. ورأى في هذا العشاء وفعالياته إشارة من المخابرات لم تعجبه: هذا الرجل مدين لنا.
خلال مشاوراته مع الفاعلين الفرنسيين قبل السفر إلى نجامينا فهم أنهم مغرمون بالبلاد لأنها “مسرح مغامرات”، وكان لكل طرف فرنسي تفاعل معه رأي في السياسة الواجب اتّباعها وفي قدرة الرئيس التشادي على ضبط الأمور. ولكن التعليمات كانت واضحة: متابعة عملية المقرطة، تشجيع إعادة هيكلة الجيش، مراقبة العلاقات بين ليبيا وتشاد، ضمان سلامة المواطنين الفرنسيين. وفي مقابلة مع المستشار العسكري للرئيس أوضح الأخير الخلفية الاستراتيجية للعلاقات في إطار سعي الولايات المتحدة الدائم لهز استقرار ليبيا. وقيل له إن الرئيس الفرنسي يثق ثقة مطلقة في نظيره التشادي، وطلب منه عدم نسيان ملف البترول ومراقبة تحركات الشركات الأمريكية.
يجب التوقف لحظة والعودة إلى الحاضر، والتشديد على الدور المحوري الذي يلعبه حاليًّا الجيش التشادي في محاربة الإرهاب، وهو جيش متماسك يتمتع بانسجام قبلي إثني، خفيف الحركة، ذو كفاءة عالية رغم تسليحه المتواضع نسبيًّا، وهو منخرط في معارك ضد الجهاديين في مالي وفي دول أخرى. وتوجد في تشاد قواعد للقوات البرية والجوية الفرنسية أنشئت أصلًا للتصدي للمطامع الليبية، ثم تطورت مهامها وقامت فرنسا بتخزين أسلحة وعتاد يسمح بالتدخل في غرب إفريقيا في حالة الضرورة. ويلاحظ أن موقع تشاد الجغرافي له عيوب المركزية دون مميزاتها؛ البلاد محاطة بدول غير مستقرة (ليبيا، والسودان، والنيجر، وإفريقيا الوسطى، والكاميرون، ومالي، ونيجريا). ولا تتمتع بتواجد على ضفاف بحر، وبالتالي فهي مخنوقة. وقال لي صحفي إفريقي إن السلطات التشادية مستاءة من مستوى الدعم الفرنسي. وتقول الصحافة الفرنسية إن النظام التشادي فشل في إدارة البلاد وفي مقاومة الفساد وفي دمج اللاعبين المحليين، وإن فرنسا تدخلت مرات لإنقاذه من السقوط، إما عسكريًّا بضرب متمردين أو ماليًّا بدفع مرتبات موظفي الدولة، ناهيك عن التعاون العسكري والشرطي وفي مجالات الصحة والتعليم والزراعة.
يقدم لنا السفير وصفًا مفيدًا لتشاد رغم وجوب تحديثه. مساحة البلاد ضعف مساحة فرنسا، الدولة فقيرة (وترتيبها الحالي في مؤشر التنمية البشرية ١٨٦ من ١٨٨ دولة)، وهي مسرح لصراعات داخلية متنوعة، وعانت طويلًا من مطامح العقيد “القذافي”، وسكانها ينتمون إلى الإسلام (٥٥٪) أو لديانات أخرى (مسيحية أو إفريقية). يقول السفير إن السودان لعب دورًا في بث الأصولية المتزمتة. ويمكن القول إن الشمال مسلم وبدوي ويجيد فنون الحرب، والجنوب مزارع ومسيحي ووثني ولكن نسبة المسلمين فيه في ارتفاع. ويلاحظ أن الشمال والجنوب مجتمعات قبلية، وأن هناك قبائل تمتد عبر الحدود إلى ليبيا والسودان، وأن قوات “دبي” وجدت في إقليم دارفور ملاذًا قبل نجاحها في الاستيلاء على الحكم. ويلاحظ أن سنوات الجفاف تسببت في نزوح قبائل وزيادة الاحتكاكات بينها، ويقول السفير إن انتصار “إدريس دبي” على “حسين حبري” وسقوط نظام الأخير عُدَّ آنذاك انتصارًا فرنسيًّا على الولايات المتحدة.
لكن السفير يجزم أن “إدريس دبي” لم يكن محبًّا لفرنسا. يقول عنه ما يلي: إن “دبي” ينتمي إلى قبيلة البديات (التي تعتبر فرعًا من فروع قبائل الزغاوة)، وإن أبناء تلك القبيلة يتسمون بالنزعة الفردية وكراهية السلطة أيًّا كانت ويقومون بالغزوات. تلقي دبي تعليمًا قرآنيًّا ثم التحق بالمرحلة الثانوية الفرنسية، ثم أصبح عسكريًّا، تميز بقدراته التنظيمية وبمهاراته التكتيكية وبقدر كبير من الشجاعة، ترقى بسرعة وأصبح من قواد جيش “حبري” وهو صغير السن. يعيش حياة متقشفة وتدينه معتدل ومتسامح. وفي المقابل، استولى على الحكم دون أن تكون له أي خبرة سياسية ودون “التأهيل المطلوب”. لم ينجح أبدًا في التخلص من ازدواجية في السلوك، فهو يتصرف كرئيس دولة أحيانًا وكزعيم عشائري من ناحية أخرى، زعيم عشائري يبتزه أبناء العشيرة ويمارسون ضغوطًا كبيرة عليه، والبعد الثاني (زعيم عشيرة) لا يختفي أبدًا. ويعتمد في تأمين نظامه على حرس جمهوري متجانس قبليًّا. ولهذا الحرس ممارسات غير مقبولة ضد قبائل وسكان الجنوب، ولا يخفي الرئيس “دبي” احتقاره الشديد للجنوبيين. قال مرات أمام السفير إن جاهلًا شماليًّا واقفًا خير من مثقفين جنوبيين جالسين.
ينتقد السفير المقولة السائدة في الأوساط العسكرية الفرنسية التي ترى في “دبي” صديقًا لفرنسا، يقول إن حجتها هي أنه أقام في فرنسا مرتين، ليتعلم الطيران مرة وفي كلية الحرب مرة. يرى السفير أن هذا لا يدل على شيء، ولم يكون أي صداقة مع أي ضابط فرنسي على عكس زملائه التشاديين. يقول السفير إنه كوّن رأيًا في الرئيس بسرعة ولم يغيره أبدًا، رأي يشكك في كونه “رجل الساعة القادر على ضبط الأمور ويمكن التغاضي عن انتهاكاته لحقوق الإنسان”. يرى أن “دبي” ابن ثقافة ساحلية ويحتقر الزعماء الإفريقيين الذين يرمون أنفسهم في أحضان فرنسا، هو شديد الاعتزاز بنفسه، يقول علانية عن فرنسا إنها “الممول الرئيس”، ويرى السفير أن هذا التعبير سخيف، وأن “دبي” شديد التشكك في نوايا فرنسا، ولكنه ليس “وطنيًّا” بل زعيم عشيرة. ويختتم عرضه بقوله إن علاقة “دبي” بعشيرته دليل على ضعف في شخصيته، ويشير إلى صحته المعتلة. ويقول في موضع آخر من الكتاب ما معناه أن “دبي” لم ينسَ أن فرنسا تخلت لصالحه عن سلفه “حسين حبري” وأنه كان يخشى أن تضحي به لو كان الأمر ضروريًّا، وأن المقربين منه كانوا يغذون هذا التوجس.
ويلاحظ أن التجانس القبلي للحرس الجمهوري لم يحمه من الانشقاقات، ولكنها وقعت بعد انتهاء خدمة المؤلف، ولذلك لا يتعرض لها، فانقلب أولاد أخ الرئيس على عمهم، وانقسمت قبيلته بعد ذلك بين مؤيد لحكومة السودان المركزية وداعم لتمرد دارفور. وفي السنوات الأخيرة امتعض الكثيرون من نفوذ حرم الرئيس المتزايد. ولا يتسع المجال لعرض تسلسل الأحداث ولكن فرنسا اضطرت إلى تقديم مساعدات مالية لدفع المرتبات وإلى التدخل عسكريًّا لحماية الرئيس “دبي” في فبراير الماضي وقصفت قوة معارضة آتية من ليبيا وغالبية أفرادها من قبيلة الرئيس، وهذه القوة تابعة لأحد فصائل المعارضة المسلحة التشادية ويرأسها ابن أخ الرئيس. وتساءل مراقبون فرنسيون إن كان توغلها في تشاد هو أيضًا محاولة للهروب من جنوب ليبيا بعد تقدم قوات الجيش الوطني الليبي في الجنوب.
نعود إلى كتاب السفير، من الواضح أنه لم يكن موافقًا على سياسة بلده، أو على الأقل على ميلها إلى التغاضي عن الانتهاكات وعلى المحافظة على تعاون وثيق مع الحاكم، ويخصص فقرات طويلة لتفصيلات التوتر بينه وبين عائلة “دبي” ومعها أصحاب المصالح الفرنسيين، ولسرد المؤامرات التي حيكت ضده. والجدير بالذكر أن أفرادًا في باريس كانوا يرسلون نسخًا من البرقيات الدبلوماسية التي حررها السفير إلى الرئيس “دبي”. ولكن الوضع تحسن بعد قليل عندما قام “ميتران” بتغيير المشرفين على الملف. ولكن التحسن الملموس كان جزئيًّا نظرًا للتوتر بين بعض الوزراء. ومن ناحية أخرى، كان لجهاز المخابرات رجل في السفارة وآخر في القصر الرئاسي يعمل مستشارًا لدبي، وكان يصطدم مع أفراد عائلة الرئيس ومنعهم أحيانًا من ارتكاب “تجاوزات جسيمة”. وكانت علاقات السفير بهذا المستشار جيدة، ولكن الرئاسة الفرنسية كانت تكلف الأخير برسائل لدبي، الذي اشتكى مرارًا من التناقضات الصارخة بين رسائل الدولة الفرنسية.
التوتر المكبوت أحيانًا والصريح أحيانًا لم يمنع التعاون الوثيق بين السفير والرئيس “دبي” في أزمة ديسمبر 1991 عندما توغلت قوات موالية لحسين حبري في البلاد محاولة الاستيلاء على العاصمة، حيث واجه السفير معضلة: كيف يمكن تأمين أفراد الجالية الفرنسية دون تنظيم مغادرتهم للبلاد، لأن تلك المغادرة سترسل رسائل سلبية للجميع وستشجع أنصار “حبري”، وكيف يمكن نشر قوات فرنسية دون أن يبدو ذلك تدخلًا واعترافًا بعجز الرئيس التشادي؟ وكيف يمكن إقناع منظمي سباق السيارات باريس/دكار بإلغاء مرحلة السباق المارة بتشاد دون أن تكون لذلك تداعيات سلبية؟ يتباهى السفير بأدائه ويزعم أن الرئيس ثمّنه.
وترتب على محاولة “حسين حبري” الفاشلة إحكام قبضة النظام وازدياد القمع لدرجة اغتيال بعض رموز المعارضة وإيقاف الحوار مع المعارضة وإيقاف عملية إعادة هيكلة الجيش ليصبح جيشًا وطنيًّا. وامتعض السفير من تلك التطورات، وأصر على إثارة الموضوع مرات مغضبًا الرئيس “دبي”. ويقول السفير إنه كثيرًا ما تدخل دون استئذان باريس، وإن “دبي” نسب دائمًا القمع إلى تصرفات المعارضة وتواطؤها مع “حسين حبري”؛ إلا أنه (دبي) اتخذ بعض التدابير السرية ضد من غالى في القمع، وأنه نظم أحيانًا لقاءات بين السفير ومعارض معتقل لينفي شائعات قتله. ومع تزايد القمع ازدادت انقسامات الفاعلين الفرنسيين حول السياسة تجاه تشاد، ونظم اجتماع في باريس شارك فيه، وبعد مناقشات عاصفة تم الاتفاق على خط يعكس وجهة نظره، وعلى تكليف الخارجية والسفير بالإشراف على الملف، وعلى تبني سياسة تأييد مشروط للرئيس، مقابل تنظيم مؤتمر حوار وطني، وتكثيف التعاون من أجل “إرساء دولة القانون” وإقامة ديمقراطية “تناسب تشاد”. وتعليقي الوحيد: ذهب السفير وبقي “دبي”.
وعندما أبلغ السفير الرئيس “دبي” بالخطوط العامة للسياسة الجديدة امتعض الأخير وقال إنه “يريد تعاونًا صريحًا وصادقًا على أساس من المساواة”، ولا يعلق السفير على هذه الإشارة الواضحة، وأضاف “دبي” أنه متأكد من أنه يتمتع بتأييد الرئيس ميتران “الواضح”؛ فامتعض السفير لأنه استنتج أن هذه إشارة إلى رسائل مرت عبر قنوات أخرى. ورد قائلًا إن لفرنسا سياسة واحدة يشرف عليها، وإنها تحافظ على التزاماتها رغم المخاطر وتستهدف إنجاح مؤتمر الحوار الوطني وإعادة هيكلة الجيش وتحقيق إصلاح مالي.
ويقول السفير إن الرئيس “دبي” تأرجح بين المماطلة والالتزام بخارطة الطريق، وإن الحياة السياسية في تشاد عرفت انفراجة نسبية بين عامي ١٩٩٣ و١٩٩٦. ويذكر أن الرئيس أبدى غضبه لعلاقات السفير مع المعارضة، ولكن هذا لم يمنعه من طلب وساطته في وقت ما، لحث المعارضة على تخفيض سقف مطالبها “المبالغ فيها”، ورفض السفير لأنه تصور أن العرض فخ الغرض منه التشويه.
ويقول السفير إن “دبي” -وكان رئيسًا سابقًا للأركان- كان مقتنعًا بضرورة إعادة هيكلة الجيش ليصبح وطنيًّا يضم كل مكونات المجتمع التشادي. ويذكر أن التعاون العسكري تطور بسرعة منذ سنة 1991 وأنه الأهم لفرنسا في تلك المنطقة، وأنه اتخذ أشكالًا متعددة، منها: التدريب، وإلحاق مستشارين بوحدات الجيش والدرك، ومد الجيش بالأسلحة، وضمان تأييد لوجيستي.. إلخ. ولكن الرئيس سيتدخل مرارًا لفرملة أو تعطيل إعادة الهيكلة “وتذرع باضطرابات” وفقًا لتعبير الكاتب الذي يتبنى تفسيرًا آخر: مقاومة أنصار الرئيس وأهله لتغييرات تحد من نفوذهم، فهم يعترضون على زيادة نسبة الضباط من ذوي الأصول الجنوبية وعلى إدماج الحرس الجمهوري في بنية الجيش الوطني. ويضيف السفير سببًا آخر وهو أن أحد أهداف إعادة الهيكلة هو تخفيض عدد القوات، أي الاستغناء عن ثلث أو نصف المقاتلين، ورغم السخاء النسبي لمكافأة نهاية الخدمة فإن الكثيرين امتعضوا من إجبارهم على ترك القوات المسلحة وانضموا إلى المعارضة المسلحة. ويقول أيضًا إن الرئيس “اشترى” ولاء بعض المجموعات المسلحة وضمها إلى الجيش مما أخلّ بالتوازنات القبلية وبمشروعات تخفيض الأعداد. ولعبت اعتبارات تأمين النظام دورًا إذ دفعت “دبي” إلى زيادة أعداد ضباط وجنود الحرس الجمهوري على عكس متطلبات خطة إعادة التنظيم. ويعبر “أوبان” عن استيائه لأن الرئيس لم يخبرهم مسبقًا بنواياه، ويبدو أنه لا يتفهم تململ “دبي” من الإشراف الدائم على كل خطواته، وللسفير بعض العذر لأن مبادرات الرئيس وممارسات رجاله في الجنوب عرّضت المصالحة الوطنية للخطر. ولم يكن “أوبان” راضيًا عما تم فيما يتعلق بالدرك الذي تم تهميشه ونقلت بعض أسلحته الفرنسية إلى جهات واستخدامات أخرى، وقابل السفير الرئيس الذي استفاض في شرح ما “يفرضه الواقع وتطورات الوضع” وفي الحديث عن علاقاته المتدهورة مع بعض قادة الحرس الجمهوري. وكان من بينهم من هو سوداني من الدارفور.
وبعد فترة وبخ وزير الدفاع الفرنسي السيد “بيير جوكس” الرئيس الذي سكت دهرًا ثم رد قائلًا إن الاتهامات مبررة لأن تنفيذ البرنامج تأخر بسببه، ولكنها ظالمة لأن فرنسا تتجاهل تعقيدات الوضع التشادي رغم مسئوليتها الجزئية عنه، ونوه إلى أن المطلوب منه يعرّضه لمخاطر كبيرة ويلقي مقاومة من الكثيرين بما فيهم من أنصاره. وبعد هذه المقابلة انتقد وزير الدفاع أداء وزيرة التعاون فيما يتعلق بالشق العسكري للعلاقات الفرنسية التشادية مما دفعها إلى الإشراف بنفسها على تنفيذ البرنامج.
وفي نهاية خدمته في تشاد كتب “أوبان” تقريرًا قال فيه إن فرنسا أرسلت ٢٥٠ خبيرًا عسكريًّا، وإنه تم تشكيل قوة درك فاعلة نسبيًّا، وإن بعض أهداف إعادة هيكلة الجيش تحققت فتم تخفيض عدد قواته. ويشير أخيرًا إلى “نجاحه” في إدخال شركة فرنسية في مجال استخراج البترول التشادي. ونضيف نحن أن مع بداية إنتاجه في مطلع الألفية تضاعف دخل تشاد، ولكنه عاد إلى الانخفاض مع تراجع الأسعار سنة ٢٠١٤. ويُعد هذا التذبذب أحد أسباب الأزمة الحالية.
أطلنا في عرض هذا القسم من الدراسة لنعطي نبذةً عن العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها القديمة، ولأن تشاد دولة مهمة في منظومة الغرب الأمنية، وأخيرًا وليس آخرًا لكي أبين المشكلة في نبرة السفير، فهو يتصرف كمندوب سامٍ وإن لم يكن مدركًا لهذا وإن أبدى امتعاضه عندما يسمع هذا الاتهام، وهو مندوب سامٍ غير قادر على فرض سياسته على الرئيس “دبي” لسببين، من ناحية فرنسا تحتاج إلى تشاد أمنيًّا واستراتيجيًّا، ومن ناحية أخرى لا تبدو توصياته واقعية. ما يريده السفير وفرنسا يفترض قدرة على إعادة هندسة العلاقات الاجتماعية وتجاوز منطق الصراع السياسي السائد وهي قدرة لم تكن متوافرة، ناهيك عن الرغبة في ذلك، لا أقلل من أهمية وجدوى المعونة الفرنسية، ولكنها كانت تتعامل مع أولويات مثل الفقر والمرض والجهل، ولم تنتج خريطة اجتماعية وسياسية جديدة، وكانت القوى التشادية المتضررة من الواقع السائد غير قادرة على تغييره.
العالم العربي
يحتل العالم العربي الموقع الرئيس في الكتاب، لأن الكاتب من المستعربين، وخدم بصفة عامة في العالم العربي. الفصلان المخصصان لخدمته في الأردن واليمن لا أهمية سياسية لهما. رجلنا كان ملحقًا في الأردن في صيف ١٩٧٠، وأصيب عندما وجد نفسه هدفًا لإطلاق النار، ويشكو من معاملة السفير له، لأن الحدث كشف غياب السفير عن عمان دون إذن، ولا نتعلم من الفصل شيئًا سوى أن مهنة الدبلوماسي خطرة، وأنه يوجد في السلك الدبلوماسي الصالح والطالح.
يتناول السفير في فصله الرابع فترة عمله كمسئول عن المصالح الفرنسية في بغداد. ذكرنا أنه قابل الرئيس “شيراك” الذي قال له ما معناه إن العراق دولة مهمة، وإن فرنسا غير ملزمة بمسايرة “الشطحات الغرائزية الأمريكية”، وأثنى “شيراك” على “طارق عزيز”، ولكنه قال إنه لا يستطيع تقييم تأثيره على “صدام حسين”، وطلب من السفير تنمية علاقته معه (طارق عزيز)، لتقوم على أساس من الثقة، وأضاف “شيراك” أن على السفير تذكرة “صدام” بجهود فرنسا لتسهيل عودة العراق إلى المجتمع الدولي مع التشديد على ضرورة احترام كافة القرارات الدولية، والعمل على صيانة مصالح فرنسا الاقتصادية وتنمية العلاقات الثقافية، وقال إن استئناف العلاقات الدبلوماسية متوقف على احترام “صدام” للشرعية الدولية.
ويعد هذا الفصل شهادة مهمة حول مسار “الصراع على العراق” ووثيقة إدانة قوية ومقنعة لسلوك وموقف كل من إدارة كلينتون ونسبة معتبرة من أعضاء فرق التفتيش (لا سيما بعد انتهاء مهمة الدبلوماسي السويدي “رولف إيكيوس” الذي قاد فريق المفتشين من 1991 إلى 1997)، كما أنه يحتوي على وصف أراه مفيدًا وإن لم يكن مستفيضًا لنخبة حكم الرئيس “صدام حسين”.
من الواضح أن الولايات المتحدة لم تكن مكتفية بنزع وتدمير أسلحة الدمار الشامل، ولكنها كانت تريد المزيد، أي ضمان استمرار العقوبات ومنع عودة العراق إلى حظيرة النظام الدولي على أقل تقدير، وإسقاط نظام الحكم، وكان سلوك فريق العمل في كثير من الأحوال مستفزًّا ومهينًا، متسمًا بسوء نية يدفعه أحيانًا كثيرة إلى تجاوز حدود مهامه دون داعٍ. ويحتوي الكتاب على تفاصيل مهمة تتعلق بعدم وجود تنسيق بين فرق التفتيش المختلفة، وبتصدي واشنطن ولندن لكل محاولة لتخفيف القبضة والعقوبات على العراق، مثل اقتراح بإغلاق الملفين النووي والباليستي مع إبقاء التفتيش على الكيماوي والبيولوجي.. إلخ.
ما هو ناقص هنا هو مناقشة جادة لقضية نراها مهمة: هل كانت طبيعة النظام العراقي تحتم انتهاج المسلك الذي انتهجته واشنطن؟ بمعنى: من الواضح أن الولايات المتحدة كانت مقتنعة أن “صدام” سيظل مصدرًا للخطر على الخليج وإسرائيل وإيران، وأنه سيظل ميالًا إلى الهروب إلى الأمام في مغامرات عسكرية مدمرة، وأن إنجاح عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين يقتضي حتمًا لجم العراق وإيران الداعمين لأعدائها، ولا يتعرض الكاتب لمسألة صحة هذا التشخيص ولا لسؤال وجود بدائل أخرى للتعامل مع التهديد المفترض. والسؤال مشروع لأن الرئيس “شيراك” مع غضبه الشديد من السلوك الأمريكي كان يرى أن الرئيس “صدام” لم يساعده في سعيه إلى رفع العقوبات، بل سلك في كثير من الأحوال مسلكًا غير حكيم يشرعن الشكوك الأمريكية. ويذكر السفير رأي “شيراك”، ولكنه لا يناقشه على أهميته.
لا يتكلم السفير كثيرًا عن آليات نظام “صدام” ولكن قليله مهم، حيث يرى أن العقوبات مكّنت النظام من إحكام قبضته على الشعب، لأنها أجبرت النظام على تخصيص حصص أكل وسلع لكل مواطن، وبالتالي سمحت له بجمع مزيد من المعلومات عن كل مواطن، ووضعت في يده أداة جديدة للمكافأة والعقاب. أما حديثه عن قمة النظام فهو كثير، هو لا يخفي إعجابه بـ”طارق عزيز”، جمعهما مائة لقاء، ويرى أنه كان ذكيًّا ملمًّا بالملفات محاورًا بارعًا، من المعتدلين الفاهمين لقواعد اللعبة، ولكن السلوك الأمريكي أضعفه لأنه فقد قدرته على إقناع “صدام” بضرورة الصبر وضبط النفس والامتثال لتعليمات الأمم المتحدة على ظلمها، وكان “صدام” يستمع إلى الصقور، ولا سيما نجليه.
ولم تعجبه شخصية “صدام حسين”، رأى فيه بدويًّا خشنًا نال من التعليم القليل، وقائدًا منعزلًا عن شعبه وعن العالم، شكاكًا معتدًّا بنفسه ميالًا إلى التفسير الخاطئ لكل شيء. وبصفة عامة كانت CNN المصدر الرئيس للأخبار العالمية بالنسبة لمسئولين عراقيين، مثل: طه ياسين رمضان، وطه محي الدين معروف، وغيرهما. وفي المقابل كان أسلوب تنظيم العمل بالرئاسة العراقية محاطًا بسرية شديدة. كان السفير لا يعرف إن كانت هناك خلية دبلوماسية بالرئاسة، ولا يعرف من هم مساعدو الرئيس.. إلخ.
في الكتاب عشرات الصفحات تتناول الضغوط الأمريكية وسلوك فريق المفتشين وتطور ردود فعل الرئيس “صدام” ونفاد صبره، والنشاط الدبلوماسي الفرنسي، ودور “كوفي عنان” السكرتير العام للأمم المتحدة الحسن النية، وإن كان خاضعًا للضغوط الأمريكية، وهي شهادة تهم المؤرخين.
خصص السفير الفصل التالي لرئاسته لإدارة شمال إفريقيا/ الشرق الأوسط، وتناولنا في القسم الأول من الدراسة الكثير مما جاء فيه. ويذكر أن الوزير “فيدرين” كلفه بالتركيز على دول المغرب العربي، كل واحدة على حدة وعليها جميعًا باعتبارها إقليمًا ذا أهمية قصوى، وبناءً على ذلك قام بدراسات نتج عنها ورقة عمل أوصت بتوسيع الحوار الاستراتيجي مع تلك الدول ليشمل كل المسائل والملفات الدولية، وبالانفتاح على المجتمع المدني وعلى الأجيال الشابة، وبتقوية الخطاب الإعلامي والتلفزيوني الموجه إلى المنطقة، ويعترف أن الإنتاج العلمي الفرنسي عن هذه المجتمعات ضعيف.
ويوحي السرد بأنه على الرغم من التقدم الكبير إلا أنه لم يتمكن من تنفيذ التوجيه تنفيذًا كاملًا، وأن هذا الفشل يعود من جهة إلى التوترات بين المغرب والجزائر، ومن جهة أخرى إلى سخونة الأوضاع في المشرق العربي وتسارع وتيرة الأحداث فيه، ومن جهة ثالثة إلى تعدد الفاعلين الفرنسيين ومنع وزارة الخارجية من الإشراف على أنشطة الآخرين وعلى فرض نوع من التنسيق.
ويخصص السفير فصلًا طويلًا لخدمته في تونس، وما يهمنا هنا هو ما قاله فيه عن مصر، لأنه مذهل. يقول إنه رفض في يونيو ٢٠٠٢ تولي منصب السفير في مصر رغم أنه أحد أهم المناصب في الوزارة، وأهم منصب للمستعربين. ويبرر تحفظه على قبول هذا المنصب بأنه خدم في مصر لمدة ثلاث سنوات في الثمانينيات، إذ كان رقم ٢ في السفارة. وفي سنة ٢٠٠٢، كانت النخب التي تعامل معها في الثمانينيات إما اختفت لأن الله توفاها، أو أنها اختارت الحياة في المنفى، أو “تم ترويضها”. وقال إنه دأب في الثمانينيات على التواصل مع المعارضين ومع الأوساط الفنية والثقافية والإعلامية التي كانت تتمتع آنذاك بحرية أكبر من تلك المتاحة سنة ٢٠٠٢، وطريقة تقديمه للموضوع فيها نوع من تمجيد الذات، وكان من الممكن تقبل هذا الكلام أو التغاضي عنه إن كان قبل منصبًا في دولة أكثر تقدمًا أو أكثر ديمقراطية، ولكن السفير لم يجد غضاضة في الخدمة في تونس بن علي، وقبلها في عراق صدام حسين، بل إن أسوأ فترات حكم مبارك فيما يتعلق بالحريات كانت أفضل من أفضل فترات بن علي أو صدام. ويقول أيضًا إن السفير في مصر يقع “رغمًا عنه أسيرًا” لأوساط معينة من رجال الأعمال الأغلبية فيها للأقباط. لن أعلق كثيرًا على مفرداته، لكن هل هناك سفير يقع أسيرًا رغمًا عنه لأوساط معينة؟ هل يستطيع أحد أن يفرض نفسه على سفير؟ وسأحاول نقاش القضية. لو كان السفير يصر على التحدث بالفرنسية فكان يحصر نفسه في أوساط الفرانكفونيين، وكان التمثيل القبطي فيهم مهمًّا نسبيًّا، إلا أنني أشك جدًّا في أنهم كانوا أغلبية من الضيوف الدائمين.
وأذكر أيضًا أنه أثيرت في نصف الثمانينيات قضية ارتفاع نسبة الأقباط في أوساط المترددين على السفارات الغربية، أو في كشوف المستفيدين من برامج المعونات، وكانت في أحوال ليست بالقليلة مرتفعة فعلًا بطريقة مبالغ فيها، ولكن الوضع انتقل إلى نقيضه في أحوال شاهدت بعضها، أذكر أن مدير المركز الذي كنت أعمل فيه وبعض زملائنا الفرنسيين من ذوي التوجه اليساري كانوا مستائين من الاعتماد المبالغ فيه -في رأيهم- على الأقباط وعلى المثقفين اليساريين والماركسيين، وكانوا مصرّين على تقليله وعلى الانفتاح على “التيارات الأخرى”، أي على الإسلام السياسي، وأذكر تمامًا أن باحثًا فرنسيًّا كبيرًا اعتذر لزميل مصري مسلم عمل في السيداج لوجود أقباط في المركز! ووبخه الزميل توبيخًا، وعلى العموم تم حل المشكلة (إن كانت كذلك، وإن رأينا فيها سببًا وجيهًا لرفض تولي أهم منصب في المنطقة) في نهاية الثمانينيات ولم يكن للأقباط تأثير ملحوظ بعد ذلك، وكل هذا اللغط يثير تساؤلات حول تأثير انطباعات قديمة على تشخيص الواقع، وحول دور الذاكرة، وحول تأثير الخطاب الإعلامي على مدركات ناس يفترض فيهم التخصص، ناهيك عن التساؤلات حول الأيديولوجيات السائدة في بعض الأوساط الدبلوماسية الغربية وانحيازاتها.
ويلاحظ أيضًا سرعة موافقة السلطات التونسية عليه رغم ما شاع عنه من أنه “متمسك بالدفاع عن حقوق الإنسان” -وفقًا لتعبيره- أي إنه يتدخل كثيرًا في الشئون الداخلية، ولكن الرئيس التونسي كان يريد سفيرًا يُعتبر من معاوني الرئيس “شيراك” أو على صلة وثيقة به. ويرسم الكاتب وصفًا للرئيس التونسي يمزج بين الاحترام والتهكم، والتعاطف وعدم الود. ويقول عنه إنه لا يمكن القول إنه يتمتع بشعبية ولا إنه مكروه، كل ما يمكن القول إنه سيفوز في انتخابات حرة لعدم وجود بديل مقنع. ويخصص بعض الصفحات لتعامل الرئيس “بن علي” مع إرث سلفه ولوصف دائرة مستشاريه وأسس شرعيته (النجاح الاقتصادي). ثم ينتقل الكاتب إلى نقد ورفض السياسة الإعلامية للنظام في كلام مكرر ظاهره وجيه -ولكنه يتجاهل مخاطر توصياته، ويروي بسرعة فخًّا أو “مقلبًا” وقع فيه ودبره رجال “بن علي” للتخلص من أكثر الوزراء انفتاحًا- وبنسب الإقالة لاحتجاجه هو على مذكرة قدمتها تلك الوزيرة. ثم يتحدث بسرعة عن “أعمدة النظام الثلاثة” وهي: الأمن، والحزب الحاكم، وعائلة حرم الرئيس وحلفائها. ويروي لنا تفاعله مع الوزراء ونبرته من سلبيات الكتاب لما فيها من تعالٍ (كلود مارتان كان يبحث عن مفاتيح الشخصيات بينما إيف أوبان يوزع الدرجات) هذا كفؤ هذا سخيف.. إلخ.
ويتحدث الكاتب عن السياسة الخارجية التونسية ودورها في المسألة الفلسطينية، وفي تمرير الرسائل لصدام حسين، وفي الوساطة بين فرنسا وليبيا، ويقول إن تونس حاولت منذ سنة ٢٠٠٤ بناء كيان مغاربي لموازنة “الهيمنة المصرية”، ولكنها لم تنجح تمامًا لعمق الخلافات بين الدول المغاربية (بما فيها ليبيا وموريتانيا). ويعرض للتعاون بين تونس والاتحاد الأوروبي ودور فرنسا فيه، ويقول إن دول الشمال الأوروبي “شديدة التدقيق” في مسائل حقوق الإنسان وهي -وفقًا له- محقة في هذا، ولكن فرنسا باعتبارها “الوصية السابقة” لا تملك هذا الترف. وحقيقةً لم أفهم الحجة، وكان الأدق أن يقر بأن فرنسا (وإيطاليا) لأسباب جغرافية أكثر حساسية للاعتبارات الأمنية، وأن حجم تعاملاتها التجارية مع تونس أكبر بكثير. وعلى العموم قال في موضع آخر إن سفارته كانت تكتب التقرير الذي ترفعه دوريًّا سفارات دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة إلى بروكسل، وإن هذا التقرير كان يكتفي برصد الحقائق مع تعليق ختامي “ليس لطيفًا” وفقًا لتعبيره. ويتظاهر بإبداء استغرابه لامتعاض السلطات التونسية من هذا الوضع الذي لا يمكننا إلا وصفه بالازدواجية. يقول السفير ما يريد قوله بوصفه سفيرًا أوروبيًّا، ولا يقوله كسفير فرنسي، متحججًا بأن التقرير عمل جماعي. ويتعجب “أوبان” كيف وصل هذا التقرير السري إلى الحكومة التونسية ويتهم الإيطاليين المعترضين على مضمونه وفحواه بتسريبه للانتصار في مناقصات على الشركات الفرنسية.
ويخصص الكاتب صفحات لحقوق الإنسان ولاتصالاته مع المعارضة وأخرى للجالية الفرنسية وللدبلوماسية الثقافية وللمستثمرين الفرنسيين وللبحوث العلمية الفرنسية عن المجتمع التونسي. ويسوق لنا أمثلة على المراقبة الشديدة التي تعرض لها الدبلوماسيون الغربيون. وهي فعلًا ثقيلة ومكثفة.
ويتناول الكاتب العلاقات بين الرئيسين “شيراك” و”ساركوزي” وتونس، وهو شديد النقد لأداء “ساركوزي”، سواء عندما كان وزيرًا للداخلية أم بعد أن أصبح رئيسًا، لأسباب عديدة، منها “قلة أدبه” مع نظرائه (الأمثلة مذهلة)، ومنها موقفه من حقوق الإنسان، ومنها تصريحاته وأفعاله المتسرعة وغير اللائقة ولا سيما في ملف الهجرة، ومنها عدم تمييزه بين ما هو وطني وما هو حزبي. ويشير إلى صعوبات في التعاون الأمني لخلافات عديدة متعلقة بالمعارضة وحزب النهضة والمهاجرين غير الشرعيين. ويستعرض الكاتب أيضًا علاقات المسئولين الفرنسيين مع النظام التونسي.
وانتقل الكاتب بعد ذلك سفيرًا إلى إيطاليا، ثم خرج على المعاش في مطلع عام ٢٠٠٨. وفي نهاية عام ٢٠٠٧ طلبه مكتب وزير الخارجية “برنار كوشنر” وعرض عليه مهمة الاتصال بمنظمة “حماس” على أن تتم بعد خروجه الرسمي من الوزارة. وتقرر إجراء هذا الاتصال إثر خطاب من “إسماعيل هنية” للرئيس “ساركوزي” قال فيه إن الحركة تفضل طريق الحوار والدبلوماسية، وكان السيد “كوشنر” قد قابل سفيرًا بريطانيًّا سابقًا زار غزة وخرج منها بانطباع أن حماس فعلا تبنت خطابًا توافقيًّا وتريد الحوار مع الأوروبيين، وكان المطلوب من الكاتب أن يدعي أن الزيارة مبادرة شخصية وأن يصاحبه باحثون لندرة معلومات الوزارة عن حماس، ولذلك قام صاحبنا بالاتصال بـ”جيل كيبل” صاحب كرسي العالم العربي المعاصر في معهد العلوم السياسية بباريس. وكان “كيبل” قد زار غزة في الأشهر السابقة، وتم الاتفاق على اعتبار السفير باحثًا بقسم العالم العربي في المعهد، ثم حرص السفير على التأكد من أن الرئيس “ساركوزي” على علم بالموضوع، واشترط على مكتب الوزير أن يقوم هو (أي السفير) بصياغة أهداف وشروط الزيارة بالاتفاق مع إدارة شمال إفريقيا والشرق الأوسط بالوزارة، وكان يرأسها آنذاك السفير “باجانون” الذي عين في سبتمبر ٢٠٠٨ سفيرًا في القاهرة.
وقام الكاتب بتحديد أهداف الزيارة، ومنها التعرف على قادة حماس واتجاهاتهم، وعلى قادة منظمات المجتمع المدني المقربة لهم ومحاولة تقدير الموقف: هل تستطيع حماس الاستمرار في السيطرة على القطاع؟ وما هي الأوضاع المحلية والسياسية والأمنية والاقتصادية بعد غلق المعابر؟ وتمرير رسائل لحماس ومن حماس، والتشديد على ضرورة التوقف عن العمليات ضد إسرائيل، مع ملاحظة أنه رفض مقابلة قادة الجناح العسكري، وقرر أن يذهب أول مرة منفردًا، وأنه سيقول إنه جاء لتحضير مادة سمينار وللتعرف على النشاط الفني بوصفه نائب مدير معهد العالم العربي بباريس.
وصل الكاتب إلى غزة يوم ٢٣ مارس سنة ٢٠٠٨ واستقبله الدكتور “أحمد يوسف”، المستشار السياسي لإسماعيل هنية. وتجول الرجلان في مدينة تعطلت فيها الأنشطة التجارية، وبدا على مبانيها الرسمية آثار القصف الجوي، وحرص “يوسف” على إخباره أن الأمن مستتب في غزة بعد طرد قوات “أمن فتح” الذي كان “يفرض إتاوات” على الناس. ثم قابل السفير على المعاش كلًّا من “هنية” و”الزهار”. وينقل لنا الكاتب حديث “الزهار” المبرر للاستيلاء على غزة دون تعليق سوى أن “له حججًا”. كما ينقل كلامه الزاعم أن حماس حركة تحرير وطنية أولًا وقبل كل شيء، وهنا رد السفير على “الزهار” متحدثًا عن ميثاق حماس ونبرته الدينية ولهجته المعادية لليهود واستشهاده بكتاب بروتوكولات حكماء صهيون. ولم يرد “الزهار” مباشرة، ولكنه دعاه إلى قراءة البرنامج السياسي الانتخابي لحماس الذي انتخب بمقتضاه “إسماعيل هنية”، وهو برنامج لم يشر إلى الميثاق ولم يتحدث عن تدمير إسرائيل. وذكّر السفيرُ “الزهارَ” بشروط الاتحاد الأوروبي الثلاثة؛ أولها ضرورة الاعتراف بإسرائيل. ويقر في مذكراته بأنه تلقى ردودًا مراوغة. ولكنه استحسن أمام “الزهار” عدم استخدام الزهار لمصطلح الكيان الصهيوني، وفيما يتعلق بالشرط الثاني الخاص بالتوقف عن العنف قال الزهار إن حركته تؤيد مبدأ هدنة طويلة، أما الشرط الثالث -الاعتراف بإنجازات عملية السلام منذ توقيع اتفاقيات أسلو- فقال الزهار إن إدماج حماس في منظمة التحرير سيعني “بطريقة مباشرة أن حماس تأخذ في عين الاعتبار أغلب تلك الإنجازات”. وفي نهاية الاجتماع خاطبه أحد كوادر حماس مطالبًا بتدخل فرنسا في مفاوضات الإفراج عن “جلعاد شاليط”، وفهم من سياق الحديث أن الفرنسيين لم يتصلوا بحماس في هذا الشأن رغم تمتع “شاليط” بالجنسية الفرنسية.
ورتب الدكتور “أحمد يوسف” لقاءات مع برلمانيين ومع أعضاء المجتمع المدني، وكان اجتماعه مع البرلمانيين ساخنًا، حيث شن بعض النواب هجومًا شديدًا على الغرب لدعمه المتواصل لإسرائيل، واحتدم النقاش بين النواب من ذوي الاتجاهات المختلفة، وكان لقاؤه مع الطلبة أكثر هدوءًا رغم مداخلة عنيفة لطالب وصف بالسلفي. وأثار اجتماع مع نساء منتقبات تابعات للحركة فضوله، إذ حرصت الناشطات على القول بأنه لولا النساء ما انتصرت حماس في الانتخابات، كما اشتكين من الصعوبات التي تواجه النساء ومن ضعف تمثيلهن في المجالس المحلية.. إلخ.
وقبل مغادرته غزة، اجتمع مجددًا و”الزهار” الذي تذرع بتنوع التوجهات داخل الحركة وبتطرف القائمين على كتائب القسام ليبرر الخطاب المراوغ للحركة الضروري للحفاظ على وحدة التنظيم. ولم يستبعد “الزهار” احتمال مراجعة حماس لميثاقها، ولكنه أضاف أنها ستختار التوقيت، وستكون حريصة على ألا تبدو وكأنها خضعت للضغوط الدولية. وطالبه “الزهار” بالتعرض لتلك الموضوعات مع “خالد مشعل” مع الأخذ في عين الاعتبار أن “مشعل” يتعرض أكثر منهم (أي من أهل غزة) لضغوط السوريين والإيرانيين، وأنه فقد الصلة الحسية بواقع غزة. ومن ناحيته ألح الكاتب على ضرورة حل مشكلة ميثاق حماس، بإلغائه أو اعتبار نصوصه الخاصة بتدمير إسرائيل مندوحة.
وعاد الكاتب إلى باريس وسلم لمكتب الوزير “كوشنير” تقريرًا عن رحلته، موصيًا باستمرار المهمة وبفتح قناة اتصال مع “مشعل” على أن يكون واضحًا أن الاتصال لا يشكل حوارًا رسميًا. ولم يتلق ردًّا، وفي نهاية أبريل ٢٠٠٨ اتصل به الدكتور “أحمد يوسف” وكان في زيارة لجنيف وطلب لقاءه قائلًا إنه كلف من قيادته بإبلاغه بردود حماس على أسئلة الرئيس السابق “كارتر” الذي التقى وقادة حماس في دمشق والقاهرة. وكان الرد في شكل رسالة من “مشعل” إلى “كارتر” عرضت فيه حماس هدنة مقابل إنهاء عمليات الاغتيال ضد قادتها. وانتقد الدكتور “يوسف” الرئيس “ساركوزي” الذي اختار قطر كوسيط، وطلب منه -أثناء قمة قطرية سورية فرنسية- توصيل رسالة من أهل الأسير “شاليط” إلى الجندي الشاب، فسلمها أمير قطر إلى الرئيس الأسد، وأغضب تصرف ساركوزي القيادات المصرية والسورية والقطرية. ويقول الكاتب إن مثل هذه الأخطاء تحدث عندما لا يطلب القائد مشورة وزارة الخارجية. ولا أدري إن كانت هذه الجملة رسالة إلى الرئيس الحالي الذي يميل إلى العمل منفردًا. وأبلغ “يوسف” السفير بموافقة “مشعل” على لقائه بشرط أن يقوم السفير بإبلاغ السلطات السورية.
وفي ١٩ مايو كشف الصحفي المتخصص في شئون المنطقة والواسع الاتصالات “جورج مالبرونو” عن وجود حوار بين فرنسا وحماس، وقد اتصل “مالبرونو” بالسفير قبل نشر مقالته، وكان من الواضح أنه على علم بتفصيلات الموضوع، وقال له السفير الرواية التي تم الاتفاق عليها مع الوزارة، وهي أنه باحث ونشرها الصحفي إلا أنه لم يحترم وعده بعدم ذكر اسمه، وثارت زوبعة دالة عن تخبط في الأداء، حيث وصفه الوزير بالمبعوث مما أغضب الرئيس والأوساط المنحازة لإسرائيل، وتم إلغاء اللقاء مع “مشعل”.
ولكن الوزارة تبنت تشخيص تقريره رغم وصف الوزير لمهمته بأنها “عديمة الفائدة”، فقالت في برقية وزعت على سفاراتها إن فرنسا ترى أن حماس “جزء من الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني، وأنه يجب تشجيع التنظيم على تطور يؤدي إلى احترام المبادئ الحاكمة لعملية السلام، ولاحظنا أن خطاب التنظيم تطور فيما يتعلق بإقامة دولة فلسطينية على حدود ٦٧، وتابعنا اتصالات الرئيس كارتر، ويبدو أنها تؤكد حقيقة هذا التطور (…)، وكما قال الرئيس ساركوزي، فإن الجسور التي أقامها الرئيس وشخصيات أخرى مفيدة” (ويقول الكاتب ساخرًا إن النعت الأخير يناقض كلام الوزير).
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي يوليو ٢٠٠٨ اتصل به سفير بريطاني سابق كان من المتصلين والمتواصلين مع حماس وعرض عليه الاشتراك في بعثة ستلتقي وقادة حماس، وصفها بأنها مشكلة من شخصيات بريطانية وأمريكية، وأضاف أن المنظمة غير الحكومية البريطانية forward thinking ستمول الزيارة وتكاليفها، واشتكى السفير البريطاني من ضغوط رئيس الوزراء “توني بلير” عليه لإنهاء التواصل مع حماس، ووافق “إيف أوبان” على المشاركة، ورحبت إدارة إفريقيا الشمالية/ الشرق الأوسط بالفكرة، ولكن الوزير ومكتبه قاما بتحذيره وألحا عليه لينسحب، ويبدو أنهما كانا يخشيان رد فعل إسرائيل، وقرر الكاتب تجاهل التحذير وأصدرت الوزارة قبل سفره بيانًا تتنصل فيه من الزيارة، ووصفتها بأنها مبادرة شخصية لن تلقى دعمًا من الوزارة، وأضاف أنه سيتم إخطار السلطات الإسرائيلية والفلسطينية.
المهم، سافرت البعثة وقابلت مسئولين إسرائيليين وقادة أحزاب، وأقر معظمهم بوجود تطور في خطاب حماس؛ إلا أنهم أضافوا أن حماس بها تيارات كثيرة، وأن كتائب القسام ما زالت متطرفة، وتعمل بمفردها ولا تخضع لرقابة الجناح السياسي. وقالوا إن تصريحات “مشعل” لا تعكس حقيقة الوضع السياسي والعسكري في غزة. ثم قابلت البعثة المسئولين عن حماس في غزة الذين قالوا إن ضرورات المحافظة على وحدة التنظيم في غزة تمنعهم من تأييد تصريحات “مشعل” حول دولة فلسطينية على حدود ٦٧، وقالوا إن المنظمة تحتاج إلى موقف موحد، وهذا يستلزم اجتماع المكتب السياسي ولكن تنظيم هذا الاجتماع صعب لتشتت أعضائه بين غزة والضفة والقاهرة ودمشق، وقام بشرح اقتراحهم بهدنة وشروطها والوساطة المصرية، وحرص قادة حماس على القول بأنهم يضمنون التزام منظمة الجهاد بها، ولكن الأطراف لم تتوصل إلى اتفاق حولها.
وبعد تلك الزيارة كتب السفير مقالًا نشره في جريدة فرنسية عنوانه: على أوروبا أن تتحاور مع حماس. وساق الحجج، ومنها أن حماس ستكون حتمًا طرفًا في عملية السلام، وأن الحوار معها سيقوي المعتدلين فيها.
واستمرت الاتصالات لفترة، ولكن مواقف حماس تصلبت بعد حرب شتاء ٢٠٠٨/٢٠٠٩، فانسحب السفير من عملية الاتصالات، ولكنها استمرت تحت إشراف مركز كارتر ومنظمة سويسرية والمنظمة البريطانية السابق ذكرها. وينهي السفير هذا الفصل بإدانة بعض العمليات الإسرائيلية، ويقول إنها جرائم حرب، ويقول إن الصراع توحش.
خاتمة
هذا الكتاب وثيقة لها أهميتها كشهادة تعكس خبرة دبلوماسي فرنسي شاهد أحداثًا مهمة، وله وجهة نظر جديرة بالاعتبار والاحترام، ولكنني لم أحبه لأسباب أجد صعوبة في تحديدها، وقد تجمع بين الموضوعية والذاتية. فهو من ناحية انتقى محطات من مساره دون غيرها، ولم أقتنع بمبررات ومعايير الاختيار، هو خدم في مصر ولم يتحدث عنها، رغم أهميتها، والفصلان عن الأردن واليمن لا أهمية لهما، ومن ناحية ثانية لا نجد إلا نادرًا عرضًا مستفيضًا ومنصفًا لمواقف من خالفوه الرأي والتحليل أو لمواقف الدول الأخرى، ولا نراه يبذل مجهودًا لفهم شخصيات محاوريه ورؤاهم.
وقد يكون كلامي هذا محاولة مني لتبرير مشاعر سلبية انتابتني تجاه نبرة الكتاب، فهي نبرة تنم عن نوع من التعالي الأخلاقي، هو قاسم مشترك بين العديد من ذوي الخلفية اليسارية، وتنم أيضًا عن عدم القدرة على الفكاك من الإحساس بمركزية الأنا المتضخمة، الفردية والجماعية. يبدو مثلًا أن السفير لم يلتفت أبدًا إلى اتهام الرئيس “دبي” له بأنه يتصرف وكأنه المندوب السامي. أعلم أن الرد جاهز: هذه حجة من لا يريد إدانة لسجله في مجال حقوق الإنسان، ولكن الاتهام بالرغبة في التهرب هو نفسه تهرب، المشكلة ليست في نقد السجل الحقوقي ولكنها في النبرة. فعلى سبيل المثال، كان للسفير “مارتان” نشاطه في الاتصال بالمعارضين الصينيين وفي حمايتهم، ولكنني لم أحسّ أبدًا بالضيق من كلامه، ذلك أنه كان مقدرًا لمعضلات النظام الصيني مدركًا لإنجازاته ولم يشيطنه أبدًا. وإن واصلنا المقارنة نرى أن “مارتان” كان يتعامل مع الثقافة الصينية ومع المجتمع الصيني تعاملًا يعترف بهما ويتحاور معهما ويقدمهما لنا معجبًا بهما. السفير “أوبان” يعرف الثقافة العربية جيدًا، ولكن هذا لا يظهر في كتاباته.
أتردد قبل إطلاق حكم نهائي. هل يمكن القول إن السفير لم يهتم كثيرًا بالآخر؟ هل يمكن القول إنه ناشط وجد نفسه في دهاليز السياسة الخارجية؟ أم سياسي يرى أن من حق النشطاء محاسبته؟ أم غربي ما زال أسيرًا لرواية رسالة الرجل الأبيض؟ قد أكون ظالمًا، وأكتفي بالقول إنه كان وما زال أسيرًا لسلة معتقدات اليسار الباريسي في نسختها الراقية رقيًّا غير كافٍ لنسيان مساوئها.