لاقت عملة “الليبرا” منذ إعلان فيسبوك عن طرحها معارضةً سياسية واسعة؛ بين من يراها تهديدًا للأمن القومي ومصدرًا محتملًا لتمويل الإرهابيين من ناحية، وخطرًا يستوجب منعه من منبعه من ناحيةٍ ثانية، وتغولًا على سيادة الدول من ناحيةٍ ثالثة. كما شهدت الولايات المتحدة تنظيم عدة جلسات استماع في الكونجرس الأمريكي، وسط مخاوف من عجز فيسبوك عن حماية أموال المستخدمين، وعجزه عن حماية خصوصيتهم على خلفية أزمة كامبردج أناليتيكا، التي كبدت فيسبوك غرامة قدرها 5 مليارات دولار.
موقف الولايات المتحدة
طالبت لجان الخدمات المالية بالكونجرس الأمريكي فيسبوك بالتوقف عن تطوير الليبرا، والامتناع عن تنفيذ أي مقترحاتٍ جديدة حتى يتمكن المشرعون بالكونجرس من دراسة النتائج المتوقعة بعد إصدارها. وفي أثناء ذلك، لا تزال تُعقد جلسات استماع علنية حول مخاطر وفوائد الأنشطة القائمة على العملة المشفرة، بهدف الوقوف على أفضل الحلول التشريعية المناسبة لها.
وبالفعل، عقد الكونجرس الأمريكي عدة جلسات استماع حضرها “ديفيد ماركوس” (مدير العملات الأجنبية في فيسبوك)، من بينها جلسة أمام لجنة الخدمات المالية في مجلس النواب الأمريكي. وفيها، وصفت “أوتشيو كورتيز” (عضو الكونجرس) “الليبرا” بالعملة التي يسيطر عليها ائتلافٌ تم اختياره بشكلٍ غير ديمقراطي من شركاتٍ ضخمة؛ إذ يُفترض أن تصبح تلك العملة “منفعة عامة” للحكومات، وليس للشركات الهادفة للربح.
وعدّد “ستيفن منوشين”، وزير الخزانة الأمريكي، المخاوف من إساءة استخدام “الليبرا” في عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. ومن ثمّ، تنظر الولايات المتحدة إلى العملات المشفرة عمومًا، و”الليبرا” خصوصًا، كقضية أمن قومي، بعد أن شهدت تلك العملات عمليات استغلال بلغت قيمتها مليارات الدولارات لدعم الأنشطة غير المشروعة، بما في ذلك: الجرائم الإلكترونية، والتهرب الضريبي، والابتزاز، والفدية، والاتجار بالبشر، وغير ذلك.
وفي مؤتمرٍ صحفي بالبيت الأبيض، صرح “منوشين” بأن “وزارة المالية طالبت فيسبوك بسن ضماناتٍ مناسبة تحول دون الاستخدام غير المشروع لليبرا”، بما في ذلك تلك التي يُطبقها مجلس مكافحة غسيل الأموال، وشبكة تنفيذ الجرائم المالية، وقانون السرية المصرفية.
وفي السياق ذاته، حذر “جيروم باول” (رئيس الاحتياطي الفيدرالي) من أربعة مخاوف من “الليبرا” تتعلق بكل من: الخصوصية، وغسيل الأموال، وحماية المستهلك، والاستقرار المالي. ولذا، يتعين على فيسبوك إقناع المنظمين الماليين بتمتع “الليبرا” بمعايير خصوصية عالية، ووقف مشروعها لحين معالجة مخاوف تتعلق بقضايا مثل: الخصوصية، وغسل الأموال. وعلى إثر ذلك، انخفضت البتكوين بمقدار 7.7% إلى 11164 دولارًا، وهبطت عملاتٌ أخرى (من بينها إيثريام وريبل) بمستوياتٍ مماثلة.
كما انتقد “دونالد ترامب” عملتي “البتكوين” و”الليبرا” وغيرهما من العملات المشفرة، مطالبًا فيسبوك بالسعي إلى وضع ميثاقٍ مصرفيٍ يخضعها للوائح التنظيمية الأمريكية والعالمية. وطبقًا له، تملك الولايات المتحدة عملةً واحدةً حقيقية، وهي أقوى من أي وقت مضى، ويمكن الاعتماد عليها، كما أنها العملة الأكثر هيمنة في العالم، وستظل على هذا النحو.
أبرز المواقف الأوروبية
تمثل الموقف الرسمي الفرنسي -كما تجلى في تصريحات وزير المالية- في الحيلولة دون تحول “الليبرا” لعملةٍ سيادية، أو إحلالها محل العملات التقليدية، وعدم قبولها دون جملةٍ من القواعد المحكمة، وهو ما تطلب تكوين فريق عمل مكون من وزراء مالية مجموعة السبع، برئاسة “بينوا كوير” -عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي- للوقوف على كيفية تنظيم البنوك المركزية للعملات الرقمية عمومًا و”الليبرا” خصوصًا، بما يحول دون توظيفها في عمليات التزوير وغسيل الأموال من ناحية، ويضمن حقوق المستخدمين، من ناحيةٍ أخرى.
وتتمسك فرنسا بعددٍ من الالتزامات والقواعد، بما يحول دون قبول عملةٍ جديدةٍ دون قواعد صارمةٍ تتداول على أساسها، وبخاصة مع تزايد المخاوف من استخدامها في عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب من جانب، وعدم وجود توافق دولي في الآراء بشأنها على المستويين الأوروبي والدولي، من جانبٍ آخر، وتنامي القلق من إمكانية إحلال الليبرا محل العملات التقليدي لتتحول بذلك إلى عملةٍ سياديةٍ، من جانبٍ ثالث.
وعلى صعيدٍ آخر، يسعى أعضاء البرلمان البريطاني للتحقيق في “الليبرا” وسط مخاوف من إمكانية تزويرها، وتغول فيسبوك في القطاعات المالية. وفي السياق ذاته، صرح “دامين كولينز” -رئيس لجنة الشئون الرقمية، والثقافية، والإعلامية، والرياضية في مجلس النواب البريطاني- بأن فيسبوك تسعى للتحول إلى دولة، رغم كونها منظمة عالمية، ليس لها حدود مادية بل مجتمع عالمي يخضع لإشراف رئيس الشركة التنفيذي “مارك زوكربيرج” فحسب، مشيرًا إلى صعوبة الإشراف على “الليبرا”، مما يجعلها عرضةً لعمليات احتيال وتزوير.
وتتزايد المخاوف البريطانية من عجز فيسبوك عن حماية البيانات المالية للمستخدمين، وبخاصة في أعقاب أزمة “كامبردج أناليتيكا”، وغيرها من حوادث اختراق الخصوصية، التي قاد على إثرها “كوليز” التحقيقات التي استمرت لمدة 18 شهرًا. وتعود تلك المخاوف في جانبٍ منها إلى افتقار لندن القدرة على التحرك السريع فيما يتصل بتدفق الأموال المؤسسية لتمويل العملات الرقمية، رغم وجود عددٍ كبير من الشركات التقنية المالية على الساحة، وقوة أنظمتها التجارية، ودورها القيادي في سوق العملات النقدية التقليدية، وهو ما يرجع في جزءٍ منه إلى هيمنة البنوك الكبرى على الاقتصاد البريطاني. وفي المقابل، تتصدر طوكيو، وشيكاغو، ونيويورك، وسان فرانسيسكو، الريادة فيما يتعلق بالمنصات المنظمة، والتداول المباشر عن طريق شبكة الإنترنت، بالإضافة إلى مشتقات التداول في المنصات مثل العقود الآجلة.
وعلى صعيدٍ ثالث، تدرس الحكومة الألمانية -بالتعاون مع البنك المركزي الألماني- تداعيات “الليبرا” على الاستقرار المالي وخصوصية المستهلكين، وإمكانية إحلالها محل العملات الرسمية على شاكلة اليورو، كونها تمثل تحديًا للبنوك المركزية والسياسات المالية من ناحية، وبديلًا محتملًا للعملات الورقية من ناحيةٍ أخرى.
فقد أكد “أولاف شولتس” -وزير المالية الألماني- على دور ألمانيا في تنسيق الجهود الدولية مع حلفائها لضمان الاستقرار المالي، وحماية المستهلكين، وسد أي ثغراتٍ قد تسمح بغسل الأموال وتمويل الإرهاب، وضمان خصوصية المستخدمين. وطبقًا له، يجب ألا تقوم الشركات الخاصة بإصدار العملات، كونها تخضع لسيادة الدول التي يقع على عاتقها إصدار العملات وتحديد السياسات المالية.
أبرز المواقف الآسيوية
على الرغم من تصاعد المخاوف العالمية من “الليبرا”، اتجهت الصين في اتجاهٍ معاكس لمختلف المواقف الدولية إلى طرح عملتها المشفرة الرقمية الخاصة، دون انتظار عملة فيسبوك المشفرة، وهو ما صرح به “رين زهينجفاي” -مؤسس ومدير هواوي التنفيذي- في حواره مع مجلة “ليكونميكا” الإيطالية. ووفقًا له، تعد العملات المرتبطة باقتصاد الدول القوية أفضل من العملات المرتبطة باقتصاد شركة تقدم خدمات الإنترنت.
أما اليابان، فتبنت استراتيجية “الحجز من المنبع” للحيلولة دون كافة المساوئ والتداعيات الضارة المحتملة من الليبرا. وعليه، بدأت في التحقيق في تداعياتها على السياسة النقدية والأنظمة المالية. ومن ثمّ، كونت مجموعة عمل مكونة من: بنك اليابان، ووزارة المالية، ووكالة الخدمات المالية، بهدف مناقشة تداعيات الليبرا على السياسة النقدية، والضرائب، وسداد المدفوعات.
وتأمل اليابان في حشد دعم دول أخرى كي تتسع فرقة العمل لتشمل مجموعةً أكبر من الجهات الضريبية والمالية. وبجانب ذلك، تسعى اليابان لمواءمة الجهود التي بذلها كلٌ من مجموعتي السبع والعشرين بشكلٍ منفصل لمعالجة الآثار المترتبة على الليبرا، وبخاصة في ظل تعدد السياسات اليابانية التي قد تتأثر بالعملات الرقمية، لعدم إشراف البنك المركزي الياباني على التنظيم المصرفي الذي تديره وكالة الخدمات المالية.
وتعالت بالمثل مخاوف سنغافورة من الليبرا؛ إذ يحرص البنك المركزي السنغافوري -كما صرح “رافي مينون”، العضو المنتدب لسلطة النقد في دولة سنغافورة- على معرفة كيفية عمل تلك العملة، وأهدافها الاقتصادية. وتتجلى أكبر المخاوف السنغافورية من قضايا الحماية، والسلامة، والخصوصية.
الموقف الرسمي لفيسبوك
في اتجاهٍ مضاد للمعارضة الدولية لليبرا، اتجهت شركة فيسبوك للترويج لها، وتعديد مزاياها، حيث ركزت في هذا السياق على ارتباطها بعددٍ من العملات العالمية، وحمايتها من المضاربات المالية، ودعمها بأصولٍ حكومية. ناهيك عن إمكانية إصدار مزيدٍ منها عند الحاجة، مما يشجع على التجارة الإلكترونية اعتمادًا على خدماتها، ويعزز الإعلانات على منصاتها، ويحميها من التقلبات. كما دأبت على التأكيد على خصوصية بيانات المستخدمين، واستخدام الليبرا في التحويلات بين العملات المختلفة في بداية الأمر، إلى أن تتحول إلى وسيلةٍ للدفع.
وبدأت فيسبوك منذ يونيو الماضي محادثاتٍ مع الجهة الرقابية للمشتقات المالية في الولايات المتحدة، بيد أنها لا تزال في مراحل مبكرة. وأعلنت مؤخرًا عن طرح الليبرا خلال فترة تتراوح بين 6 و12 شهرًا متجاهلة التحقيق الفيدرالي بشأن ممارسات الخصوصية، وإشكالياتها مع عمالقة التكنولوجيا الآخرين، وكذلك ما تواجهه من أزماتٍ بين مؤسسها من جانب والحكومة الأمريكية من جانبٍ آخر.
كما تم التأكيد من قبل “ديفيد ماركوس” -في جلسات الاستماع أمام اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ- على أن الليبرا لا تستهدف منافسة العملات الوطنية للدول المختلفة، ولن تتدخل في السياسات النقدية للبنوك المركزية، وسيتم إخضاعها لرقابة ومراجعة الجهات الرقابية والتنظيمية بعد الحصول على الموافقات اللازمة، ومعالجة مخاوف الجهات الرقابية والتنظيمية.
كما أكدت فيسبوك على تعاونها مع الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم؛ وأنها لن تطرح الليبرا حتى إتمام كافة المعاملات المطلوبة من قبل جميع الجهات التنظيمية المعنية، والحصول على كافة الموافقات اللازمة، وهو ما أسفر عن ارتفاع البيتكوين بنسبة تقترب من 55% خلال تسعة أيام.
ختامًا، تجد المعارضة الدولية لليبرا جذورها في تغلغل شركات التكنولوجيا في مجالات كانت حكرًا على الحكومات مثل إصدار العملات، وتحولها من مجرد شركاتٍ إلى حكوماتٍ غير منتخبة تتحكم في الاقتصاد العالمي، وتدشن أنظمةً ماليةً جديدةً تطيح باليورو والدولار، بما يؤثر تدريجيًا في قدرة البنوك المركزية على تطبيق سياساتها المالية، في ظل وجود سياساتٍ اقتصادية خاصة بشركات التكنولوجية، وتراجع الثقة فيها حتى تتحكم بقرارات قد تؤثر على الاقتصاد العالمي والأمن القومي.