منذ وصول الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لسدة الحكم، اعتاد تبني سياسات غير مرنة ومواقف حادة تجاه معظم -إن لم يكن كل- قضايا وملفات السياسة الخارجية. وعلى النقيض من ذلك، يلاحظ تبنيه سياسة تبدو مهادنة ولغة دبلوماسية مرنة تجاه الصين فيما يتعلق بالاحتجاجات المستمرة منذ شهر يونيو الماضي في هونج كونج، والتي اندلعت على أرضية رفض مشروع قانون مقترح يسمح بترحيل الأشخاص لمحاكمتهم في الصين. وقد تطورت هذه الاحتجاجات في بعض المراحل لتشهد اشتباكات واسعة النطاق بين المتظاهرين والشرطة.
بدأت الاحتجاجات بسبب مشروع قانون ينص على ترحيل مواطني هونج كونج لمحاكمتهم في الصين الأم، الأمر الذي فُهم من جانب الكثيرين في هونج كونج على أنه تعدٍّ على الوضع الخاص لهونج كونج وتجاوز لنظامها القانوني. ثم اتسعت مطالب مطالب المتظاهرين من مجرد إلغاء مشروع القانون لتشمل قائمة أوسع من مطالب الإصلاح الديمقراطي، وإزاحة زعيمة هونج كونج “كاري لام” المدعومة من بكين.
وتجدر الإشارة إلى أنه طبقًا للنظام الأساسي في هونج كونج فإنها تتمتع بوضع خاص يستند إلى مبدأ “دولة واحدة ونظامين”، ما يعني أنها تتمتع بدرجة متقدمة من الإدارة الذاتية، باستثناء ما يتعلق بالدفاع والشئون الخارجية.
فما هي أسباب ودوافع التزام “ترامب” هذا النهج بشأن الاحتجاجات المتصاعدة في هونج كونج، وما هي احتمالات استمرار هذا النهج؟
موقف مرن
بعد أسابيع من التزام الصمت تجاه الاحتجاجات المتأججة في هونج كونج، اضطر “ترامب” إلى التعليق عليها من خلال تغريدة له عبر تطبيق “تويتر” دعا فيها الرئيس الصيني للجلوس مع المتظاهرين الداعين للديمقراطية. وفي تغريدة أخرى، دعا الصين إلى التعامل بشكل إنساني مع المتظاهرين، وأشاد فيها بشخصية الرئيس الصيني، معتبرًا العنف معرقلًا للمباحثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. وذهب “ترامب” أبعد من ذلك بدعوته لعقد لقاء شخصي يجمعه بالرئيس الصيني لمناقشة تطورات الأوضاع في هونج كونج. وفي المقابل، دعت وزارة الخارجية الأمريكية الصين إلى الحفاظ على الحكم الذاتي لهونج كونج، وأعربت عن قلقها إزاء تحركات ما وصفته بـ”الميليشيات الصينية” على حدود المدينة ذات الحكم الذاتي.
ولا تبدو اللغة الدبلوماسية المرنة التي يتبناها “ترامب” متوافقة مع السياسة الأمريكية تجاه هونج كونج، حيث حذرت لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأمريكية في الكونجرس الأمريكي، والتي تأسست عام 2000 لرصد اقتصاد الصين وتطورها العسكري وانعكاسات ذلك على الأمن القومي الأمريكي، من زيادة التدخل الصيني في هونج كونج، واصفة إياه بـ”المثير للقلق”، وأعربت عن مخاوفها بشأن تأثير التدخل الصيني على استمرار المدينة كمركز مالي وعالمي. كما حثت اللجنة على إجراء تحقيق من جانب وزارة الخارجية الأمريكية حول حالة الحكم الذاتي والحريات في هونج كونج. ومن ثم، يتضح دعم الكونجرس للاحتجاجات المتصاعدة في هونج كونج على الرغم من أنه لم يتخذ أي موقف محدد لدعمها، فضلًا عن وجود تقارب في الرؤى بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بشأن ضرورة دعم الاحتجاجات في مواجهة الصين.
عوامل عديدة
يمكن تفسير الموقف المهادن من جانب الرئيس “ترامب” إزاء احتجاجات هونج كونج استنادًا إلى العوامل التالية:
1- السياسة البراجماتية للرئيس “ترامب”، حيث يتبع “ترامب” منذ وصوله لسدة الحكم سياسة براجماتية مصلحية لا تكترث كثيرًا بمسائل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان التي لطالما تغنت الإدارات الديمقراطية بالدفاع عنها. ورغم إشارة “ترامب” إلى هذه القيم في تعليقه على أحداث هونج كونج؛ إلا أن إشارته اتسمت بالمحدودية والتوظيف السياسي.
2- المقايضة على الاتفاق التجاري: فقد يحاول “ترامب” استخدام هونج كونج كورقة للمقايضة على الاتفاق التجاري موضوع الجدل بين الطرفين. بمعنى آخر، قد يحاول “ترامب” إرسال رسالة للرئيس “شين جينبينج” مفادها أنه قد يغض الطرف عن هونج كونج مقابل توقيع اتفاق تجاري يعزز المصالح الأمريكية. ويعزز من ذلك دعوته للقاء الرئيس الصيني للتباحث بشأن التطورات الجارية في هونج كونج.
3- تفادي سيناريو غلق كل القنوات: ربما يكون هدف الرئيس “ترامب” هو عدم غلق كل القنوات بينه وبين الصين، خاصة أن الصين لا تتهاون في الأمور المتعلقة بقضاياها الداخلية وترفض التدخل في شئونها الداخلية. لذلك، ربما يكون اتباع “ترامب” لغة حادة تصعيدية في قضية هونج كونج بمثابة القشة التي تنهي فرص التفاوض والتواصل بين الجانبين بشأن قضايا أخرى أكثر أهمية بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية من مسألة دعم اضطرابات هونج كونج.
بهذا المعنى، يمكن القول إنه من المحتمل استمرار سياسة “ترامب” تجاه الاحتجاجات الجارية في هونج كونج للأسباب والدوافع السابق الإشارة إليها، لكن في حال تطور أعمال العنف قد يصبح الرئيس “ترامب” مضطرًا للتصعيد تجاه الصين لإرضاء الرأي العام الأمريكي مع قرب الانتخابات الرئاسية 2020، وأيضًا لتجنب تشويه الصورة الأمريكية المتجاهلة للأمر في حين تتعالى الإدانات الأوروبية والحقوقية. وفي السياق ذاته، قد يتجه الرئيس “ترامب” إلى اتباع سياسة أكثر تشددًا في حال استمرار جمود المباحثات التجارية مع الصين.