أعلنت الخارجية المصرية مؤخراً مبادرة سياسية، تخص الأوضاع فى ليبيا بحثاً عن آفاق جديدة، كى تصل بالأحداث لمحطة استقرار تسمح بتغيير معادلة الاقتتال، وتفكك حالة النزاعات الداخلية بين الأطراف المختلفة. من منطلق استشعار الدولة المصرية بأن الأوضاع برمتها فى الداخل الليبى وفى دوائر الارتباط قد وصلت إلى مرحلة إرهاق كبيرة مما ينذر بانتكاسات للنجاحات الجزئية التى تحققت فعلياً على الأرض. ومن أجل الحفاظ على تلك المكاسب يلزم المشهد السياسى مجموعة من الأفكار والمحاور الخلاقة، التى يلزم العمل والبناء عليها لتعزز ما مضى، وقبلها أن تستخلص الدروس والإشارات التى نتجت عن تحديات السنوات السابقة.
لا يبدو أن طرح مصر للمبادرة الجديدة يخرج عن تلك الدوافع أو تلك الرؤى والتقديرات التى تستهدف فى مجملها صالح الوطن الليبى والليبيين جميعاً.
أهم المكتسبات الليبية المحورية، التى لم يكن الحديث عن خارطة طريق سياسية فى حال اعتبار المبادرة المصرية كذلك ستكون حينها محل اعتبار، هو نجاح الجيش الوطنى الليبى فى هزيمة الإرهاب، وكسر شوكته الدامية إلى حد كبير فى معظم المناطق الليبية. وهى حقيقة سيذكرها التاريخ، حتى وإن تحفظت أطراف ليبية أو ذهبت إلى أبعد من ذلك بحق هذا الجيش، الذى أطلق «عملية الكرامة» 2014 وأوضاع المدن والمناطق الليبية فى حال لم يكن يسر أحداً على الإطلاق. ربما ظل الشرق والجنوب الليبى هما الساحتين الأكثر توغلاً واستُهدفا من قبل التنظيمات الإرهابية على مختلف انتماءاتها القاعدية والداعشية، لكن مناطق أخرى لم تكن خارج نطاق التهديد منها الوسط الشمالى على وجه التحديد، الذى شهد محاولات نفاذ عدة، البعض نجح فى الاستحواذ والسيطرة لفترة قبل أن تتم هزيمته، عبر قوات الجيش الوطنى أو عبر غيرها من وحدات تابعة للغرب الليبى كما جرى فى مدينة «سرت». لذلك ظلت محاولات ربط الساحة الليبية بمدار النشاط الإرهابى العالمى وتنظيماته العابرة للحدود والجنسيات، عامل ضغط على المعادلة الأمنية لم تكن لتسمح بالحديث عن أى انتقال إلى المربع السياسى، من دون رفع هذا الضغط وجاهزية الاستعداد والتحسب له مستقبلاً، خاصة أن الاستهداف والتخطيط ما زالا قائمين بل هو المهدد الأول لتنامى أى عملية سياسية مستقبلية.
لذلك ما يمكن اعتباره منتجاً محورياً، صدر عن اجتماعات القاهرة مع غالبية أعضاء البرلمان الليبى المنتخب والمعترف به دولياً، أن المدخل للأزمة الليبية يجب أن يبنى على هذا المكتسب، الذى تحقق بفضل الجيش الوطنى الليبى مع ضرورة توحيد المؤسسة العسكرية فى ربوع الدولة، وفق إطار جامع لمفهوم «توحيد» وبناء مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة. هذا يتبعه بالضرورة حل «الميليشيات» ونزع سلاحها غير الشرعى، والنظر فى كيفية إدماج البعض من وحداتها الأقرب للنظامية داخل صفوف المؤسسات الوطنية العسكرية والأمنية. هذه النقاط المهمة يُنظر إليها باعتبارها مدخلاً منطقياً لأى بناء لاستقرار حقيقى، وهى لذلك حاضرة فى أكثر من بند من بنود المبادرة المصرية، وللمرة الأولى ربما يشار فيها صراحة إلى ضرورة الاستعانة بالبعثة الأممية، من أجل الإشراف على إنفاذ هذا الأمر. هذا يتطلب من المكون الليبى الغربى «طرابلس» وتوابعها، أن تتعاطى مع الوضع الراهن على شاكلة مغايرة لما ظلت طوال سنوات الأزمة تمارسه، والمقصود حالة العداء «الكلية» للجيش الوطنى الليبى، رغم أهمية الأدوار التى يقوم بها. والتى ستُلقى مستقبلاً على عاتقه لا محالة بمباركة إقليمية ودولية، ونموذج «معركة طرابلس» ماثل للعيان، فالدوائر الإقليمية والأطراف الدولية ذات الصلة، لم تكن لديها مشكلة فى «مهمة» تطهير العاصمة ومحيطها من المكونات المسلحة غير الشرعية، ولن يقدر أحد أن يكون فى الموقف المضاد من هذه المهمة التى تستهدف فرض الأمن، حيث يظل الوضع دونها يضرب سيادة أى دولة فى مقتل، ناهيك عن أنها تمثل أزمة ليبيا الرئيسية.
فى هذه النقطة على وجه التحديد، إشراك المبادرة للبعثة الأممية بأدوار محددة استثماراً لإمكانيات الأمم المتحدة، وتفاعلاً مع الخبرة التى راكمها المبعوث «غسان سلامة» فى هذا الصدد أمر به قدر عالٍ من الإيجابية، التى تحتاج إلى التفات جدى أيضاً من جانب طرابلس ومصراته، باعتبارهما أصحاب القرار فى الغرب الليبى. فهى من النقاط التى تضع تلك المدن الليبية الرئيسية أمام مسئوليتها التاريخية، فضلاً عن الأمنية بحق الليبيين المواطنين المهددين طوال الوقت بانفلات الميليشيات أو بتحالفاتها المشبوهة والاضطرارية فى بعض الأحيان مع تنظيمات إرهابية وغيرها من المكونات الخارجة عن القانون. والإشارة إلى أن هناك مسئولية حقيقية، تحتاج إلى أن يفعل كل من له دور أو إمكانية الضغط على طرابلس ومصراتة، بالتحسب إلى أن النظر إلى تكتيكات معركة طرابلس كونها نهاية المطاف، أو السقف الذى يرغبون فى تجاوزه بأى أثمان أو مسارات ممكنة، هو رؤية قاصرة وهو مما يعقد الموقف الأمنى وهو العنوان الأهم خاصة فى محاولة جره إلى المربع الأول مرة أخرى.
تمثل هذا فى نموذج «الهجوم على مرزق»، فرغبة طرابلس فى إنفاذ عملية التفاف على الجيش الوطنى الليبى من أجل تعطيل تقدمه إلى العاصمة، دفع أصحاب القرار فيها إلى الاستعانة مرة أخرى بميليشيات «المعارضة التشادية»، المنضوية تحت فصائل مرتزقة القيادى «حسن موسى» لتصنع خليطاً يسمى «قوة حماية الجنوب»، ومن ثم ينفذ هجوماً مباغتاً بالقصف والنيران لتلك المدينة الجنوبية، يتسبب فى سقوط عدد كبير من الضحايا (90 قتيلاً و200 مصاب) فضلاً عن الحرق والتدمير الواسع للممتلكات، الذى جرى بالصورة التى دفعت المدنيين للفرار والتهجير على نطاق واسع. هى سقطة مدوية بطبيعة الحال، خاصة فى حال انحسار المستهدف منها فى مجرد إرباك الجيش الليبى، وفتح الأبواب مرة أخرى لاستقطاب عناصر القاعدة كى تحارب المدن والمدنيين، داخل صفوف تدعى أنها تعمل لصالح الدولة الليبية!
المبادرة المصرية، ما زال فيها الكثير، وهى قابلة للتطوير بمجموعة من المحفزات والمتطلبات، نستكملها الأسبوع المقبل بإذن الله.
*نقلا عن صحيفة “الوطن” نشر بتاريخ ٢٧ أغسطس ٢٠١٩.