تسعى الميليشيات التابعة لحكومة الوفاق لتحقيق تغير نوعي على مسرح العمليات في ليبيا، عبر توظيف الخلايا النائمة للتنظيمات الإرهابية وجماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها تنظيم الإخوان المسلمين؛ لتعويض تراجعها وانحسار مناطق نفوذها في إطار المعارك الجارية حول العاصمة “طرابلس”. وهي استراتيجية اعتمدتها لضرب خطوط الإمداد والقواعد الخلفية للجيش الوطني ووحداته المتمركزة بجنوب العاصمة والمنطقة الجنوبية، ونجحت من خلالها في السيطرة على مدينة “غريان” جنوب طرابلس. وبينما قبعت مدن الجنوب تحت سيطرة الميليشيات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية منذ سقوط نظام “القذافي”؛ إلا أن إطلاق الجيش لعملية تطهير الجنوب والجنوب الغربي (منتصف يناير 2019) من تلك المجموعات، ومباركة أبناء تلك المدن لوجوده، ثم تحركه لتحرير العاصمة “طرابلس” (مطلع أبريل 2019)؛ دفع الميليشيات للسعي نحو تقويض تلك الحالة الأمنية الجديدة الآخذة في التشكل، وبدأت في سلسلة من التحركات التي ارتفعت وتيرتها مع تراجع قدرات تلك المجموعات بمحاور القتال حول العاصمة.
طبيعة الهجوم على “مرزق”
كثفت العصابات والميليشيات المسلحة الموالية لحكومة الوفاق بمدينة طرابلس تحركاتها للسيطرة على مدينة “مرزق” بالجنوب في 16 أغسطس 2019، عبر حزمة من الأنشطة المسلحة انتهت بتهجير القطاع الأكبر من سكان المدينة، وإحراق وتدمير حجم كبير من الممتلكات الخاصة والعامة. وكان الجيش الليبي قد أعلن سيطرته الكاملة على المدينة في 20 فبراير 2019، بعد تطهيرها من التنظيمات الإرهابية والعصابات التي سيطرت عليها لفترات طويلة، ثم انسحبت وحدات الجيش من المدينة وبقيت وحدات الشرطة لضبط الأمن بها. وكشفت عدة تقارير عن توجيه المجلس الرئاسي برئاسة “فائز السراج” تعزيزات تحت اسم “قوة حماية الجنوب”، وشحنات أسلحة وذخائر عبر مطار “أوباري” لمسلحي المعارضة التشادية بقيادة “حسن موسى سوقي”، والتنظيمات المتحالفة معه كمجالس شورى “أجدابيا” و”بنغازي” و”درنة”.
ومع بدء الهجوم، قامت تلك المجموعات بقطع التيار الكهربي والاتصالات عن المدينة، وأمطرت المدينة بقصف عشوائي عبر قذائف الهاون وراجمات الصواريخ، ثم حاصرت أحياء “مرزق” الـ(10)، واستهداف القناصة للمواطنين بشوارع المدينة، وتصفية ممنهجة لسكان الأحياء ذات الغالبية العربية وتهجيرها من سكانها. وقد أعلن مكتب الأمم المتحدة في ليبيا عن وقوع (90) قتيلًا وأكثر من (200) جريح خلال المرحلة الأولى للهجوم. ويُعد الهجوم على “مرزق” إحدى محطات الأنشطة الميليشياوية التي تستهدف فتح جبهة جديدة ضد الجيش الوطني يُمكن توظيفها للدخول إلى أهم القواعد بالجنوب (قاعدة الجفرة)، عبر جرّ القوة المتمركزة بها إلى معارك بعيدةً عن القاعدة، وهو ما حاولته الميليشيات من قبل عندما أعلنت نيتها مهاجمة الحقول النفطية والموانئ، ثم مهاجمة بلدتي “زلة” و”الفقهاء” ومدن “سبها” و”البوانيس”.
دوافع “ميليشيات الوفاق” للاتجاه جنوبًا
تحركت الميليشيات التابعة لحكومة الوفاق نحو مدينة “مرزق” مدفوعةً بعدد من العوامل، تتباين في درجاتها وتتفق في حتميتها وكونها ضرورة للإبقاء على رمزية تحركها خارج العاصمة، واكتساب موارد جديدة لدعم تلك الميليشيات عبر الدول الداعمة لها أو الثروات المحلية. ويمكن بيان تلك الدوافع فيما يلي:
1- السيطرة على قاعدة الجفرة الجوية، التي تعد خط إمداد رئيسًا لتحركات الجيش الوطني نحو مدن الجنوب والغرب، والذي حاولت الميليشيات دون جدوى تحييده مسبقًا عن مجريات الصراع، سواء عبر قصف الطائرات المتواجدة به، أو عبر ممرات الطيران. لذلك تستهدف الميليشيات دفع القوة المتواجدة بالقاعدة للخروج إلى مدينة “مرزق” لتتحرك الميليشيات للسيطرة على القاعدة. ويُعد هذا السيناريو محاولة متكررة، حيث أحبط الجيش مطلع أغسطس الجاري مخططًا للميليشيات، بمساعدة خبراء أتراك، للهجوم على قاعدة الجفرة العسكرية عبر منطقة السدادة.
2- إظهار القدرة على التحرك والسيطرة: حيث تسعى الميليشيات لتأكيد مساحة الحركة التي تمتلكها، وإظهار ذلك للدول الداعمة لها؛ لتغيير الخريطة الحالية الكاشفة عن محدودية هامش حركتها المقتصر على العاصمة طرابلس وبعض مدن الغرب. أضف إلى ذلك أن إعادة رسم خريطة الصراع الليبي يُحسن من الفرص التفاوضية لحكومة الوفاق بعد تراجع مؤشرات ومدى تأثيرها داخليًّا وبين الأوساط الدولية.
3- تشتيت تركيز القيادة العامة للجيش ووحداته: وهو اتجاه تستهدفه “تنظيمات الوفاق المسلحة” عبر فتح جبهات جديدة ضد الجيش في مناطق خارج محاور قتال العاصمة، وخصوصًا مع إطلاق الجيش عمليات عسكرية استهدفت الشق العسكري لمطارات معيتيقة والكلية الجوية بمصراتة وقاعدتها الجوية؛ لتخفيف الضغط على مجموعاتها المنهكة بمحاور القتال حول العاصمة “طرابلس”.
4- اقتطاع حاضنة الجنوب الشعبية: حيث ترى “ميليشيات الوفاق” أن سيطرة الجيش الوطني على المنطقة الجنوبية أنتج حالة من التأييد والدعم، ووسع الحاضنة الشعبية للجيش بما تجاوز حدود تأثيره لتلك المناطق وامتد إلى مناطق مختلفة بالمنطقة الغربية ذاتها. لذا فإن اقتطاع تلك الحاضنة -وفقًا لرؤيتها- سيكسبها هذا الدعم ويحسن صورتها داخليًّا وخارجيًّا كقوة تستهدف فرض النظام وذات نفوذ متزايد على الأرض.
5- الخروج بانتصار رمزي: تحتاج الميليشيات في الفترة الحالية لانتصار -ولو معنوي- لتغطي على التراجع بمحاور العاصمة، بجانب إيجاد مناطق بديلة للتمدد والانتشار والحفاظ على الوجود إذا ما سقطت العاصمة ونجح الجيش في تحريرها. ويعزز ذلك كونها فرصة لفتح مساحات للتعاون مع العصابات من الدول المجاورة الضامنة لمزيد من الدعم لتلك الميليشيات.
6- ضمان نطاق سيطرة بديلة لـ”الوفاق”. وهنا يمكن قراءة تحرك “ميليشيات الوفاق” نحو مدن الجنوب كمحاولة لتوسيع نفوذها واكتساب مناطق سيطرة خارج الإقليم الغربي؛ حيث وردت عدة تقارير عن اتصالات تستهدف عبرها “ميليشيات مصراتة” المتحالفة مع حكومة الوفاق -القوة الأكثر تواجدًا وتأثيرًا بين قوات الوفاق في محاور العاصمة- ضمان عدم الملاحقة لقياداتها وعدم دخول الجيش لمصراتة، في مقابل الانسحاب التام لقواتها من محاور قتال “طرابلس”. ما يعني وجود احتمال كبير لفقدان الوفاق للسيطرة على العاصمة إذا ما تحققت تلك الأنباء، وهو ما يدفعها إلى إيجاد مناطق نفوذ ودعم بديلة للعاصمة حال سقوطها.
7- رسائل للمكونات الداعمة للجيش: ترسل الميليشيات عبر هذا الهجوم وما اتبعته من إجراءات توجيه رسائل للمناطق والمدن الداعمة للجيش الوطني مفادها أن تلك المناطق ستواجه الإجراءات ذاتها إذا ما استمرت بدعم الجيش الوطني. وقد قامت مجموعات المعارضة التشادية المسلحة بتهجير السكان من أحياء “المقريف” و”بن دلواح” و”البحريات” وغيرها من الأحياء ذات الأغلبية العربية التي أعلنت تأييدها للجيش، وكانت ذات تأثير في عمليات المقاومة الأولى للهجوم على المدينة.
تداعيات هجوم “مرزق” على مسار الصراع
تبلورت عدة متغيرات عقب سيطرة ميليشيات الوفاق على مدينة “مرزق” كانت كاشفةً لتحركات الأطراف الفاعلة بالصراع الليبي، واتجاهات المكونات الليبية بالمدن التي تقع تحت القصف. ومن أبرز هذه المتغيرات اتجاه “حكومة الوفاق” لتحشيد التنظيمات المسلحة على اختلافها لإيجاد ظهير مساند لها، متجاهلةً عواقب هذا الاتجاه على وحدة الدولة الوطنية الليبية مستقبلًا. وقد أوضح تتبع مسارات دعم “الوفاق” لتلك المجموعات أنها تستخدم المطارات المدنية في طرابلس والجنوب لأغراض عسكرية؛ حيث قامت بنقل أسلحة وذخائر إلى التنظيمات الموالية لها عبر مطار “أوباري” بالجنوب قادمةً من مطار “معيتيقة” وهو خط الطيران الحالي من مطارات الغرب إلى الجنوب، وهو ما يؤكد استخدام “الوفاق” للمطارات المدنية لأغراض عسكرية ويجعلها هدفًا مشروعًا للجيش.
وعلى الجانب الآخر، تمسك الجيش الوطني بتعزيز تقدمه بمحاور القتال حول العاصمة “طرابلس”، وأعلنت القيادة العامة عن إرسال تعزيزات تابعة للكتيبة (166) مشاة للالتحاق بباقي الوحدات العسكرية في محاور العاصمة، ما يؤكد استمرار الجيش في تجاهل هدف الميليشيات بدفعه للتحرك من قاعدة الجفرة نحو أي من مدن المنطقة الجنوبية، مع التزام الجيش باستهداف القوات المهاجمة لـ”مرزق” عبر القوات الجوية بصورة مستمرة، وهو ما يعني أن تأثير الهجوم على “مرزق” لن يكون سلبيًّا على عمليات الجيش لتحرير العاصمة، وأن تحركات الميليشيات قد تدفع الجيش إلى تكثيف عملياته حول العاصمة والتعجيل بحسم المعركة لتفادي إتاحة الفرصة بتحرك أي مجموعات مسلحة من الغرب للجنوب والعكس.
فيما طلب مجلس النواب الليبي من القيادة العامة للقوات المسلحة ووزارة الداخلية التصدي للعصابات في مرزق، ودعا أعضاء المجلس عن الجنوب لعقد جلسة في مدينة غات بالجنوب الليبي؛ للتأكيد على وحدة البلاد ووحدة مجلس النواب. كما أعلنت عدة جهات ليبية -مثل “مجلس مشايخ ترهونة” و”المجلس الأعلى لقبائل التبو”- تأييدهم للقوات المسلحة لمواجهة تلك العصابات، وإدانتهم الهجوم على “مرزق” وسياسات التهجير والقتل على أساس الهوية الجارية بها.ختامًا، يمكن القول إن هجوم “مرزق” يُرجح أن يقود إلى تحرك كبير من جانب الجيش الليبي نحو استهداف أوسع للمطارات التي تستغلها “الوفاق” لأغراض عسكرية، وكذلك المناطق التي يتركز بها عناصر الحشد الميليشياوي بالجنوب والغرب، خاصة مدن مصراتة والمنشآت المستخدمة من قبل مجموعات العمل التركية. كما أنه سيدفع المجتمع الليبي إلى مزيد من الالتفاف حول الجيش ودعمه؛ إذ تهدد تلك التحركات سلامة التركيبة الليبية بالمناطق التي تتحرك نحوها تلك التنظيمات والميليشيات المتحالفة معها، وترسيخ حالة الاستقطاب والانقسام داخل الدولة. إلا أن موقف البعثة الأممية ووقوفها دونما تدخل لحماية تلك المناطق، بذات القدر الذي تتحرك به لإدانة عمليات الجيش؛ يثير تساؤلات حول فعالية البعثة وتعاطيها بشكل جدي مع معطيات الصراع المتجددة. ويبقى حسم معركة تحرير طرابلس وتقدم الجيش نحوها محدِّدًا لسلوك الميليشيات وحكومة الوفاق، وهو ما يُرجح اشتعال الجنوب والصراع حول مدنه بشكل أكبر مع نجاح الجيش في تحقيق مزيد من التقدم نحو العاصمة.