عقب تبادلٍ للقذائف بين حزب الله وإسرائيل على نطاق محدود جغرافيًّا وزمنيًّا في مطلع سبتمبر الجاري؛ صدر تصريح من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي معلقًا على الأحداث، بأن حزب الله لم يُلحق أية إصابات بشرية بالجنود الإسرائيليين، مكذبًا ادّعاءات الحزب بأنه استهدف آلية عسكرية قريبة من الحدود الفاصلة بين لبنان وإسرائيل، وأن العملية أسفرت عن تدمير هذه الآلية، وسقوط من فيها بين قتلى وجرحى. وفي حين حاول حزب الله إثبات أن عمليته أسقطت جنودًا إسرائيليين عبر نشر فيديو لعملية إطلاق القذائف من الجهه اللبنانية، ردّت مصادر إسرائيلية بأن الحزب صور عملية خداع دبرتها إسرائيل، تقوم بمقتضاها وحدة عسكرية إسرائيلية بتمثيل عملية نقل “دمى” لجنود أُصيبوا، وتم إخلاؤهم بطائرة عمودية إلى أحد المستشفيات القريبة من نفس الموقع الذي وُجهت إليه الضربة من قبل حزب الله وفِي توقيتها نفسه.
تبادل الروايات حول حقيقة ما جرى يجب أن يدخل في إطار التحليل المعمق للحدث، الذي لم يستغرق سوى أقل من ساعتين قبل أن يعود الهدوء للمنطقة الحدودية التي شهدت تبادل النيران بين الطرفين، والذي فرض تساؤلات عدة حول الهدف الذي سعى إليه حزب الله من وراء عمليته؟ وهل تمكن من خلال هذه المناوشات القصيرة من تحقيق هذا الهدف؟ وهل اقتنعت إسرائيل بمنع التصعيد بسبب عدم وقوع خسائر بشرية في صفوفها وفقط، أم إنها لم ترد التصعيد بتوجيه ضربات أعنف لمواقع حزب الله خشية انزلاق الوضع إلى حالة حرب شاملة؟
حزب الله ومأزق نتائج حرب صيف 2006
لفهم ما جرى بين إسرائيل وحزب الله مؤخرًا، وتفسير النهاية السريعة للصدام المحدود الذي جرى بينهما؛ يجب العودة إلى النتائج التي أسفرت عنها الحرب الكبرى التي دارت بين الطرفين في صيف 2006. فعلى الرغم من ادّعاء حزب الله انتصاره في هذه الحرب، واستمراره في التمسك بادعائه أنه حركة “مقاومة” تستهدف تحرير ما تبقّى من التراب اللبناني تحت الاحتلال الإسرائيلي (منطقة مزارع شبعا، أو هار هادوف كما تسميها إسرائيل)، جنبًا إلى جنب مع “إفساد” تمرير مخططات التسوية السياسية للقضية الفلسطينية؛ على الرغم من ذلك وجد الحزب نفسه مضطرًا للتخلي عن فكرة تحرير مزارع شبعا بالقوة بعد أن خبر بنفسه الثمن الذي دفعه لبنان من أرواح أبنائه ومن بنيته التحتية ومقدراته الاقتصادية (حسب أدنى التقديرات سقط في هذه الحرب أكثر من 1600 لبناني وعشرات الآلاف من الجرحى، وخسائر مادية بلغت سبعة مليارات دولار)، حتى إن “حسن نصر الله” (زعيم الحزب) صرح في حينها بأنه لو كان يعلم حجم الرد الإسرائيلي لما أطلق عملية خطف الجنود الإسرائيليين التي كانت السبب المباشر في اندلاع هذه الحرب.
لقد اضطر حزب الله بعد هذه الحرب إلى أن يُسقط من خياراته المبادأة بالهجوم على المواقع الإسرائيلية، مع حصر الرد فقط على العمليات الإسرائيلية الموجَّهة مباشرة لرجاله أو مصالحه؛ فلم يتحرك للرد على الطلعات الجوية الإسرائيلية شبه اليومية في الأجواء اللبنانية، ولم يتحرك أيضًا للرد على اختراقات بحرية وبرية مماثلة للحدود اللبنانية، حتى إن موقع حركة المقاومة الإسلامية التابع له اعترف مؤخرًا بأن حجم الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية خلال الأشهر الستة الماضية وصل إلى 503 اختراقات جوية، من ضمنها 316 “طلعة” جوية تجسسية، هذا بالإضافة إلى الخروقات البحرية التي سجّلت 178 خرقًا بحريًّا على مدار سبعة أشهر، وستة خروقات برية، فضلًا عن إلقاء البالونات الحرارية فوق المياه الإقليمية وتركيب بوابة حديدية عند السياج التقني الفاصل في بلدة ميس الجبل. بل يمكن القول إن الردع الإسرائيلي لحزب الله نجح حتى في ثني الحزب عن الانتقام لرجاله، حيث لم يرد الحزب على حادثة اغتيال أهم مخططيه العسكريين “عماد مغنية” الذي قتلته وحدة استخباراتية إسرائيلية أمريكية في عام 2008. كما لم يقف إلى جوار قوات الجيش اللبناني التي واجهت اعتداءات إسرائيل على الأراضي اللبنانية في أغسطس 2010 واشتبكت معه، وأسقطت له العديد من جنوده. حتى بعد مقتل جنرال إيراني وأحد رجال حزب الله في غارة شنتها إسرائيل في يناير عام 2015 على موقع للحزب داخل الأراضي السورية، لم يرد الحزب إلا بعملية محدودة أسقطت جنديين إسرائيليين، ثم عاد ليكمن مرة أخرى، مؤكدًا تخليه عن فكرة “مقاومة إسرائيل” وإجبارها على الرحيل عن مزارع شبعا بالقوة العسكرية، لصالح طموح أقل كثيرًا وهو “الرد المحدود للغاية” على الاعتداءات الإسرائيلية التي توجه لقواعده ورجاله، وليس الرد على الانتهاكات الإسرائيلية اليومية للسيادة اللبنانية، علمًا بأن إسرائيل تتذرع بوجود حزب الله نفسه ككيان عسكري مستقل عن الدولة اللبنانية لتبرير انتهاكاتها ضدها (أي لبنان).
هذا التحول أَفْقَدَ حزب الله مصداقيته أمام اللبنانيين والعرب الذين كانوا قد نظروا إليه قبل عام 2006 وبعدها بقليل بشكل إيجابي كحركة مقاومة ضد إسرائيل، قبل أن يحول عقيدته بالكامل نحو إيمان ضيق بمصالح الحزب، وبتماهٍ تامٍ مع السياسات الإيرانية التوسعية في المنطقة دون اعتبار للمصالح اللبنانية والعربية.
في ظل هذه الحقيقة يغدو مفهومًا لماذا امتنع حزب الله طوال ثلاثة عشر عامًا كاملة عن البدء بأي عملية ضد إسرائيل؟ ولماذا اكتفى برد محدود أو تَجَاهَلَ أحيانًا الرد على اعتداءات إسرائيلية طالت حتى رجاله ومواقعه في لبنان وسوريا؟ ولماذا أيضًا لم يتحرك مؤخرًا ضد إسرائيل ورد بشكل محدود زمنيًّا وجغرافيًّا على اعتداءاتها، إلا بعد أن قامت الأخيرة بتنفيذ عمليتين ضد مصالحه المباشرة، الأولى كانت على الأراضي السورية في منتصف الشهر الماضي، والثانية في بيروت بعد ذلك ببضعة أيّام، وفِي واحد من أكثر مواقعه تأمينًا داخلها.
حزب الله ومزيد من الخسائر في المواجهة الأخيرة
لقد أضحى واضحًا أن حزب الله لم يعد يرغب في خوض حرب شاملة مع إسرائيل على غرار حرب عام 2006، وسواء كان ذلك بسبب خوفه من تداعياتها التي ستكون أشد من تلك، أو بسبب انصياعه الكامل للأوامر التي تأتيه من طهران باعتبارها مقر “الولي الفقيه”، الذي يعتقد “حسن نصر الله” أنه الوحيد المخول بتحديد موعد الحرب الشاملة والنهائية حسب العقيدة الشيعية. كذلك، فإن خسارته لمصداقيته كجبهة مواجهة ضد إسرائيل كان أمرًا حتميًّا في ظل تحوله قبل ثلاثة عشر عامًا من حركة تحرير ومقاومة إلى كيان حائر بين أيديولوجيته كحزب ديني شيعي المذهب يتبع إرادة الولي الفقيه الإيراني، وبين مصالحه كحزب لبناني ترتبط به قاعدة اجتماعية متنوعة في مذاهبها ودياناتها ومواقفها السياسية.
على الجانب الآخر، تشكل حرب الروايات مع إسرائيل حول المواجهة الأخيرة مأزقًا صعبًا لحزب الله يمكن أن يُضاف إلى قائمة خسائره المستمرة منذ حرب عام 2006؛ فقيادة الحزب وأجهزة إعلامه أظهرت قدرًا غير قليل من اللهفة على إثبات قدرة الحزب على “ردع إسرائيل” بتبني رواية انفجار مدرعة إسرائيلية جراء ضربها بصواريخ كورنيت ومقتل وجرح كل من فيها، قبل أن تظهر تصريحات رئيس وزراء إسرائيل التي أنكرت وقوع أي ضحايا، وقبل أن تتسرب رواية “الدمى” الخداعية من الجانب الإسرائيلي. فمن الناحية الموضوعية البحتة، يدرك المتخصصون في الشأن الإسرائيلي أن الرقابة العسكرية على الأخبار في إسرائيل يمكن أن تمنع أية موضوعات تراها متعارضة مع المصالح الأمنية العليا لإسرائيل، ولكنها لا تتورط على الإطلاق في اختلاق أكاذيب لإخفاء الخسائر البشرية في صفوف الجيش. كما يصعب لأسباب خاصة بالتقاليد اليهودية إخفاء حوادث موت الأشخاص -أيًّا كان سببها- وحجبها عن الجمهور، أو إجبار عائلات القتلى على عدم الإعلان عنها. وأخيرًا فإن منافسي “نتنياهو” في الانتخابات المزمع إجراؤها في سبتمبر الجاري ما كانوا ليفوتوا فرصة تسريب خبر مقتل جنود في مواجهة مع حزب الله لاتهام “نتنياهو” بالتفريط في أمن جنود الجيش، والكذب أمام الرأي العام، بهدف إسقاطه هو وحزبه في الانتخابات.
على جانب آخر، يبدو أن مصطلح “الردع”، وفقًا لإعلام حزب الله، يختلف عن “الردع” بمفهومه المستقر في العلوم الاستراتيجية، والذي يتحدد بمنع الخصم من الهجوم، أو إجباره عبر رد أقوى على الامتناع عن تكراره. فما يحدث منذ عام 2006 أن إسرائيل تنتهك السيادة اللبنانية على كافة الأصعدة، وتقوم بعمليات نوعية ضد إيران وحزب الله، وتدمر خطوط إمدادات الحزب عبر سوريا وقرب الحدود اللبنانية دون أية ردود من جانب قوات الحزب. كما أنه بافتراض أن العملية الأخيرة التي قام بها حزب الله قد نجحت، فإنها لا تمثل نموذجًا حتى للعقاب القوي الذي يقود إلى تقوية الردع للخصم، فطائرات الدرون الإسرائيلية هاجمت مقرًّا لحزب الله في العاصمة بيروت، بينما جاء الرد من جانب الحزب في موقع حدودي، بما يعني عدم التماثل في الأهداف المنتقاة، وهو ما لا يخدم معنى الردع بمفهومه الحقيقي الذي يستلزم تساوي “الرموز” المستهدفة وتفوق حجم الرد الذي يستهدف أصحابه استرداد مصداقية الردع من خلاله.
هل يتصاعد التوتر مجددًا؟
من الشواهد السابقة، يبدو أن حزب الله غير راغب في التصعيد الذي يمكن أن يقود إلى حالة حرب شاملة مع إسرائيل. وفِي المقابل، يعتقد رئيس الحكومة الإسرائيلية أن الدخول في حرب شاملة مع حزب الله يمكن أن يقود إلى مشكلات ليست بالقليلة، فحتى انتصار إسرائيل في هذه الحرب والذي لن يكون انتصارًا حقيقيًّا إلا بالقضاء على القدرات العسكرية لحزب الله لو تم، فستكون تكلفته البشرية على إسرائيل كبيرة، سواء في الجنود الذين سيخوضون حربًا برية داخل الأراضي اللبنانية، أو في السكان الذين سيتعرضون لهجمات كثيفة بصواريخ من جانب حزب الله، وهو ما لا يريده “نتنياهو” الذي يراهن على تشديد الضغوط الأمريكية والدولية على إيران للكف عن دعم حزب الله، ومساعدة الدولة اللبنانية على تجريده من سلاحه في أي صفقة مقبلة للتهدئة معها (أي ايران).
ورغم ذلك، يبقى هناك احتمال ضئيل لعودة المواجهة بين الطرفين، خاصة إذا ما تيقن حزب الله من أنه تعرض لخدعة في تقديره للخسائر التي أُلحقت بإسرائيل في التصعيد الأخير، ولكن حتى الآن يبدو أن “حسن نصر الله” سيتمسك بتكذيب الرواية الإسرائيلية حتى لا يجد نفسه مجبرًا على توجيه ضربة أخرى لإثبات قدرته على الانتقام -حتى لو كان محدودًا- من إسرائيل ومعاقبتها على اعتداءاتها.