في الثاني والعشرين من أغسطس 2019 قام الرئيس الصومالي “محمد عبدالله محمد (فرماجو)” باتخاذ قرار بتغيير عددٍ من القادة العسكريين والأمنيين، حيث أشار بيان الحكومة الصومالية إلى تعيين “أودوا يوسف راغي” قائدًا لقوات الجيش، وتعيين “فهد ياسين” قائدًا لجهاز الأمن والاستخبارات، وتعيين “عبدي حسن محمد” قائدًا للشرطة، بجانب تعيين “عمر محمود” عمدة للعاصمة مقديشيو خلفًا للعمدة السابق “عبدالرحمن يريسو” الذي توفي متأثرًا بإصابته في التفجير الذي استهدف بلدية مقديشيو في يوليو الماضي.
ويُعد التغيير الأخير الذي أجراه الرئيس “محمد عبدالله (فرماجو)” في قيادات القوات المسلحة هو الخامس الذي يقوم به منذ توليه رئاسة البلاد في فبراير 2017، الأمر الذي يشير إلى حالة من الاضطراب الشديد في بنية المؤسسة العسكرية من ناحية، وإلى سياسات تدخلية يتّبعها الرئيس في علاقته بالقوات المسلحة تعكس سخطه بشأن أداء المؤسسة على الأرض، من ناحية أخرى.
وقد أثار تعيين “أودوا يوسف راغي” قائدًا جديدًا للجيش الانتباه في ظل حداثة سنه والقصر النسبي لخبرته في تولي المناصب العسكرية القيادية. فقد انضم “راغي” للجيش في عام 2005، قبل أن يسافر عام 2007 للالتحاق بدورة تدريبية لتأمين الشخصيات المهمة في مدرسة كاويويتا العسكرية في أوغندا. وفي عام 2009، انضم “راغي” لقوات الحرس الرئاسي، وهو ما أتاح له الاشتراك في المعارك التي خاضها الجيش لتحرير العاصمة مقديشيو من جماعة الشباب. وبعد ترقيته لرتبة نقيب، سافر “راغي” إلى تركيا في عام 2013 لدراسة العلوم العسكرية في أكاديمية الجيش التركي، ليعين في عام 2018 قائدًا لقوات الحرس الرئاسي، ثم قائدًا للأركان، قبل أن يتولى في العام ذاته منصب قائد قوات المشاه، ليعين بعدها قائدًا عامًّا للجيش الصومالي.
وعلى الرغم من كون المنصب الجديد الذي تقلده “أودوا يوسف راغي” هو أعلى منصب عسكري للقوات التابعة للحكومة الاتحادية، فإن موازين القوة على الأرض في الصومال تُشير إلى أن الجيش الصومالي بوضعه الحالي هو مجرد طرف من بين العديد من الأطراف المسلحة التي لا تقل عنه قوة. فمن حيث عدد القوات، يبلغ حجم الجيش الصومالي نحو 12 ألف مقاتل، في الوقت الذي يتراوح فيه حجم القوات المسلحة التابعة لحكومة صوماليلاند بين 8 آلاف مقاتل و13 ألف مقاتل، بينما تظل جماعة الشباب تشكل تهديدًا قويًّا بعدد مقاتليها الذي يناهز 10 آلاف مقاتل. وفي ظل هذا الوضع، لا يتواجد الجيش الصومالي مطلقًا في إقليم صوماليلاند في الشمال الغربي، كما يعاني في أماكن تواجده بوسط وجنوب البلاد من عجز كبير في قدرته على مواجهة جماعة الشباب التي يعد الجيش الصومالي أضعف أهدافها، في ظل ما أثبتته من قدرة على مهاجمة القوات التابعة لبعثة الاتحاد الإفريقي، والقوات الأمريكية في بعض الأحيان.
تحولات خريطة الحلفاء العسكريين للصومال
على الرغم من تعثرها التاريخي منذ مطلع التسعينيات، عكست عملية إعادة بناء القوات المسلحة الصومالية سمة أساسية تتعلق باعتمادها الكامل على الدعم الخارجي، سواء فيما يتعلق بالتدريب أو التسليح أو التمويل، على النحو الذي أسفر عن انخراط أكثر من عشر دول -بين قوى إقليمية ودولية- في عملية بناء الجيش الصومالي، وهو ما كان له أثره السلبي على هذه العملية. لكن الأعوام القليلة الماضية شهدت بعض مظاهر التحول في خريطة تحالفات الصومال العسكرية تمثلت فيما يلي:
1- انسحاب أمريكي متسارع
تقوم سياسة الرئيس “ترامب” على تبني توجه يغلب عليه الطابع الانسحابي، خصوصًا من الملفات والدوائر مرتفعة التكلفة وقليلة العائد. ومنذ بداية عام 2019 أعلنت الولايات المتحدة اعتزامها تخفيض حجم تواجدها العسكري في الصومال أسوة بما سبق وأعلنته عن اعتزامها الانسحاب من كلٍّ من سوريا وأفغانستان، وهو ما يأتي متسقًا مع ما أعلنه مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي “جون بولتون” خلال عرضه استراتيجيته في القارة الإفريقية حين أعلن أن التهديد الأكبر لمصالح الولايات المتحدة في إفريقيا لم يعد مصدرَه المتطرفون الإسلاميون، وإنما السياسات التوسعية لروسيا والصين.
هذا التوجّه الأمريكي الجديد واكبته مراجعة دقيقة للعمليات المرتبطة بإعادة بناء القوات المسلحة الصومالية أسفرت عن توجيه انتقاد للسياسة السابقة التي كانت الولايات المتحدة تتحمل فيها القدر الأكبر من تكلفة إعادة بناء القوات الصومالية. كما أسفرت المراجعة عن انتقاد سياسة الانفتاح على مشاركة أطراف عدة على تنفيذ هذه العمليات، مما نتج عنه قوات صومالية غير متجانسة وغير فعالة، لتصبح الولايات المتحدة أكثر رغبة في أن يتولى طرف بعينه مهمة إعادة بناء القوات المسلحة الصومالية متحملًا تكاليفها، ومقلصًا مساحة التنافر بين العسكريين الصوماليين.
2- دعم تركي في مجال التدريب العسكري
واكب التوجه الأمريكي الجديد تصاعد الاهتمام التركي بالتعاون العسكري مع الحكومة الاتحادية الصومالية، الأمر الذي جعل من تركيا المرشح الأبرز لتنفيذ التصور الأمريكي بشأن هذا الملف. على هذا، لا يُعد التدريب الذي حصل عليه قائد الجيش الجديد “أودوا يوسف راغي” في تركيا حالة فريدة، فمنذ توقيع اتفاقية التعاون العسكري الأولى بين تركيا والصومال في مايو 2010، أصبحت تركيا تمثل الراعي الأول للقوات المسلحة الصومالية التابعة للحكومة الاتحادية في مقديشيو. فقد أعقب توقيع الاتفاقية الأولى توقيع اتفاقية ثانية في فبراير 2014، وثالثة في يناير 2015. وبموجب الاتفاقيات الثلاث توالى تخريج دفعات من المتدربين العسكريين الصوماليين من الأكاديميات العسكرية التركية، وهي الظاهرة التي يتوقع أن تأخذ منحنى تصاعديًّا بعد افتتاح قاعدة تركصوم Camp TURKSOM العسكرية في الصومال والتي تضم منشآت تدريبية قادرة على استضافة 1500 متدرب في الدفعة الواحدة، والتي ينتظر أن يتخرج منها نحو 10 آلاف متدرب صومالي خلال السنوات القادمة وفق ما أعلنه الجانب التركي، ليشكلوا نواة الجيش الصومالي الجديد. وقد بدأ مركز التدريب التركي في استقبال دفعات المتدربين بالفعل في أكتوبر 2018؛ إلا أن الدفعة الأولى تضمنت 185 متدربًا فقط وهو ما يبلغ نحو عُشر الطاقة الاستيعابية للمركز.
3- دعم قطري في مجال الاستخبارات والتسليح
تأتي التغييرات الأخيرة في قيادة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية لتعكس دورًا قطريًّا بارزًا، حيث إن “فهد ياسين” الذي تولى منصب رئيس جهاز الأمن والاستخبارات سبق له أن عمل مراسلًا لقناة “الجزيرة” القطرية، ثم رئيسًا لمكتب مركز الجزيرة للدراسات في شرق إفريقيا. كما جاءت التغييرات التي أُعلن عنها مؤخرًا في أعقاب زيارة لوفد قطري للعاصمة مقديشيو التقى خلالها بالرئيس “محمد عبدالله (فرماجو)” وبرئيس الوزراء “حسن علي خيري”. كذلك، فإن شهر أغسطس قد شهد بداية تنفيذ برنامج مشترك لتدريب كوادر جهاز الأمن والاستخبارات الصومالي في الدوحة من خلال دفعة أولى شملت 14 ضابطًا صوماليًّا. وسبق أن شهد يناير 2019 تصعيدًا قطريًا للتعاون مع الصومال في مجال التسليح، حيث قامت بإرسال 68 عربة عسكرية مصفحة للقوات المسلحة التابعة للحكومة الاتحادية، وهو الأمر الذي أثار الكثير من التحفظات في ظل استمرار العمل بقرار مجلس الأمن بحظر توريد الأسلحة والمعدات العسكرية لأي من الأطراف الصومالية.
أسباب تغيير قيادات القوات المسلحة الصومالية
تعددت الأسباب وراء التغييرات الأخيرة في قيادة المؤسسة العسكرية الصومالية والتي تمثلت في:
1- التدهور الأمني الحاد
جاءت التغييرات الأخيرة في قادة المؤسسة العسكرية الصومالية إثر تصاعد في عمليات جماعة الشباب من الناحيتين الكمية والنوعية. فقد أسفر تفجير قامت به الجماعة في يوليو الماضي عن مقتل عمدة العاصمة مقديشيو. كما أسفر هجوم آخر في أغسطس عن سيطرة الجماعة على قاعدة عسكرية للجيش الصومالي في منطقة أوديغلي، وهو ما اعتُبر نصرًا معنويًّا، خاصة في ظل قرب القاعدة من العاصمة مقديشيو. وقد ساهم الدور الكبير الذي لعبه “أودوا يوسف راغي” في استرداد القاعدة بعد عملية للقوات الخاصة في رفع أسهمه عند رئيس الجمهورية الذي رأى فيه بديلًا مناسبًا لقائد الجيش الأسبق الذي لم يتمكن من حماية القواعد العسكرية من الهجمات الإرهابية بالصورة الملائمة.
2- الأزمات السياسية الداخلية
منذ توليه السلطة في فبراير 2017، لم يسبق أن كان الوضع السياسي للرئيس “محمد عبدالله (فرماجو)” بالصعوبة التي يشهدها حاليًّا؛ ففي ظل تبني الدستور الصومالي للنموذج الفيدرالي، يشكل رؤساء الأقاليم الصومالية المختلفة مراكز قوة حقيقية قادرة على التضييق على رئيس الجمهورية بدرجة كبيرة. وفي الوقت الحالي، يعاني الرئيس (فرماجو) من مشكلات مع العديد من الأقاليم، بجانب علاقته المتدهورة مع إقليم “أرض الصومال” الذي يصدر له العديد من المشكلات بصورة دورية. فلم تعد الأقاليم الشمالية وحدها هي مصدر المشكلات لحكومة مقديشيو، حيث أسفرت الانتخابات التي شهدها أغسطس الماضي في إقليم جوبالاند الواقع أقصى جنوب البلاد على الحدود مع كينيا عن إعادة انتخاب “أحمد محمد إسلام (مدوبي)” المناوئ للرئيس “محمد عبدالله (فرماجو)” رئيسًا للإقليم، الأمر الذي أسفر عن إعلان الأخير عدم اعترافه بنتائج الانتخابات لتستمر الأزمة في التصاعد دون أفق للحل.
3- التوترات الإقليمية
تمتع الرئيس الصومالي بميزة نسبية لم تتوافر لأي من سابقيه؛ فعلى إثر التحولات التي شهدها الحكم في إثيوبيا منذ ربيع 2018، دخل إقليم القرن الإفريقي في موجة للتهدئة أسفرت عن تحسن كبير في علاقة الصومال بكل من إريتريا وإثيوبيا. لكن عام 2019 حمل تحديًا إقليميًّا جديدًا تمثّل في التصعيد الكبير للنزاع على الحدود البحرية مع كينيا، الأمر الذي يُهدد بنشوب صراع مسلح بين الدولتين. فبعد أن قبلت محكمة العدل الدولية في نهاية يونيو الماضي النظر في الدعوى الصومالية بشأن حدودها البحرية مع كينيا، انتهجت كينيا مسارًا عدائيًّا تجاه الصومال، تصاعدت فيه نذر الحرب، الأمر الذي يمثل دافعًا إضافيًّا للرئيس الصومالي لإعادة ترتيب المؤسسة العسكرية على نحو يضمن له المزيد من السيطرة عليها، وعلى نحو يضمن له استمرار دعم حلفائه العسكريين بتمكين المقربين منهم من المواقع المهمة في قيادة المؤسسة.
تداعيات تغيير قيادات المؤسسة العسكرية الصومالية
في ظل المؤشرات الأمنية والسياسية التي تقدمها الأوضاع في الصومال في الوقت الراهن، ينتظر أن يترتب على تغيير قادة المؤسسة العسكرية عدد من التداعيات المهمة، المتمثلة في:
1- المزيد من التقارب مع المحور التركي-القطري
مع تركيز الحكومتين التركية والقطرية على تقديم الدعم العسكري للحكومة الاتحادية في مقديشيو، أصبح من غير الممكن للرئيس “محمد عبدالله (فرماجو)” أن يبتعد عن هذين الحليفين ولو كان ذلك من أجل الظهور في الداخل بمظهر أكثر استقلالية؛ فأي تراجع في تلقي الدعم العسكري من تركيا وقطر ستترتب عليه خسائر فادحة في المواجهات الدائرة مع جماعة الشباب، وقد يمثل إغراءً للقوات المسلحة لصوماليلاند للتمدد خارج حدود الإقليم في ظل النزاع الحدودي القائم بالفعل بينها وبين إقليم بونتلاند المجاور. ومن ثم، من المنتظر أن يتبع الخطوة الأخيرة المزيد من التصعيد للقيادات العسكرية المحسوبة على تركيا وقطر داخل المؤسسة العسكرية الصومالية.
2- تصاعد التوترات السياسية الداخلية في الصومال
فجّرت تغييرات القيادات العسكرية الأخيرة موجة معارضة شديدة لسياسات التقرب من قطر وتركيا، لم تقتصر على رؤساء حكومات الأقاليم، وإنما شملت عددًا من البرلمانيين وكبار المسئولين في الحكومة الاتحادية في مقديشيو. وفي ظل الوضع القائم وما يشهده من تزايد أعداء الرئيس “محمد عبدالله (فرماجو)” في الداخل يومًا بعد آخر، فإنه من المتوقع أن تشهد الشهور المقبلة التي ستسبق الانتخابات الرئاسية الصومالية الجديدة عام 2020 المزيد من التوتر والصدامات السياسية، سواء داخل مؤسسات الحكم الاتحادي، أو بين هذه المؤسسات وبين مؤسسات الحكم في الأقاليم المختلفة التي أصبحت جميعها أكثر تأييدًا لمبدأ “فيدرالية الحد الأدنى” التي تُقلّص صلاحيات الحكومة الاتحادية لمستويات بالغة التدني، خاصة مع ما يتمتع به كل إقليم من خصوصية قبلية وجغرافية.
3- صعود الحوار مع جماعة الشباب كبديل سياسي
كشفت التغييرات المتتالية في قيادات المؤسسة العسكرية عن غياب ثقة الرئيس (فرماجو) في قدرة المؤسسة على مواجهة جماعة الشباب بصورة فعالة. وفي ظل تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية الكبيرة التي تعاني منها الحكومة الاتحادية، وفي ظل الإخفاقات المتكررة لقواتها المسلحة؛ قد تسعى الحكومة لوقف خسائرها العسكرية عبر فتح المسار السياسي للتفاوض مع جماعة الشباب من أجل تسوية سياسية. وعلى الرغم من عدم توافر الكثير من المؤشرات على هذا التحول في اللحظة الراهنة، فإن بعض المؤشرات الخارجية قد تدعم هذا التوجه، ويتمثل أبرزها في الموقف الأمريكي الذي قد يسعى لتكرار تجربته مع طالبان في أفغانستان –حال اكتمالها بنجاح- مع جماعة الشباب في الصومال، وهو ما يؤيده تصويت الولايات المتحدة ومعها أربع دول غربية أخرى في جلسة مجلس الأمن في الثامن والعشرين من أغسطس الرافض للمشروع الكيني لتصنيف جماعة الشباب جماعة إرهابية وفق القرار رقم 1267 لعام 1999.
وتشير هذه المؤشرات جميعها إلى الوضع الصعب الذي تُعاني منه الحكومة الاتحادية الصومالية في العاصمة مقديشيو، سواء من الناحية الأمنية أو السياسية، الأمر الذي يجعل موقفها أكثر ضعفًا واعتمادًا على حلفائها الإقليميين. لكن في ظل التطورات المتسارعة على الأرض، تبدو الأوضاع في الصومال منفتحة مستقبلًا على مدى واسع من الاحتمالات تتجاوز آثارها الداخل الصومالي.