يواجه سد النهضة العديد من المشكلات منذ أن شرعت إثيوبيا في هذا المشروع في أبريل 2011. فبعد أن كان من المخطط أن يتم إنهاء بناء السد في 2017، تم تأجيل ذلك الموعد إلى 2018 بسبب المشكلات التي واجهتها إثيوبيا في تمويل السد وفي تنفيذه، ليتم التأجيل مرة أخرى إلى 2022. الأمر الذي طرح الكثير من الأسئلة بشأن موقع سد النهضة في إطار السياسة الإثيوبية بعد كل ما شهدته من تغيرات خلال العام الماضي.
أولًا- دوافع الحكومة الإثيوبية لاستكمال بناء السد
مما لا شك فيه أن الدوافع الإثيوبية لإتمام بناء سد النهضة لا تزال قوية، بل يمكن القول إن التغيرات السياسية التي تشهدها إثيوبيا ودول جوارها قد تمثل دافعًا إضافيًّا لإتمام المشروع في أقرب وقت. ومن بين الدوافع الإثيوبية المهمة ما يلي:
1- القضاء على أزمة انقطاع الكهرباء وتحقيق عائد اقتصادي
بالرغم من أن الحكومة الإثيوبية تُصدّر الكهرباء لكل من السودان وجيبوتي؛ إلا أنها اضطرت منذ شهرين إلى بدء خطة ترشيد استهلاك الكهرباء نتيجة عدم ملء السدود المنتجة للكهرباء بالمياه الكافية، الأمر الذي أدى إلى عجز الإنتاج بمقدار 460 ميجاوات، وانقطاع الكهرباء عن المواطنين، وتخفيض شركات الإسمنت والصلب عدد ساعات العمل بها. وتضمنت خطة الترشيد تقسيم المستهلكين إلى ثلاثة أقسام، يحصلون على الكهرباء بنظام الورديات، مدة كل منها خمس ساعات. وأدى ذلك أيضًا إلى تعليق بيع الكهرباء للسودان، وتخفيض الكهرباء المصدرة إلى جيبوتي إلى النصف، الأمر الذي أدى إلى خسارة أكثر من 100 مليون دولار من عائدات تصدير الكهرباء إلى الدول المجاورة.
ومما يُذكر أن 90% من إنتاج إثيوبيا من الكهرباء -الذي يقدر بحوالي 3815 ميجاوات- تنتجه حقول الطاقة الكهرومائية، وذلك يعني أن سد النهضة وحده قادر على إنتاج ما يقارب ضعف الإنتاج الحالي لإثيوبيا من الكهرباء عند إنهائه، الأمر الذي سيؤدي إلى مضاعفة نصيب المواطنين والشركات من الكهرباء وبما يقلل فترات انقطاع التيار، والتزام الحكومة باتفاقيات تصدير الكهرباء للدول المجاورة (200 ميجاوات للسودان، 50 ميجاوات لجيبوتي)، وعقد اتفاقيات جديدة مع دول جوار أخرى مثل تنزانيا ورواندا وبوروندي واليمن، بما يحقق عوائد اقتصادية مرتفعة. لذلك يُعد العائد الاقتصادي دافعًا مهمًّا لإنهاء السد خلال المدى الزمني المقرر له.
2- تحسين موقف “آبي أحمد” والحزب الحاكم
تأمل إثيوبيا منذ وصول “آبي أحمد” للسلطة أن تصل لحالة من الاستقرار السياسي الذي ينعكس بدوره على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، وهو ما يحاول رئيس الوزراء تحقيقه من خلال خطوات داخلية وخارجية عديدة. فداخليًّا، أعلن “آبي أحمد” نيته تحقيق المصالحة مع الحركات المعارضة وترحيبه بعودة قياداتها من المنفى وإسقاط التهم عنهم، وإطلاق سراح الموقوفين منهم. أما على المستوى الخارجي، فقد أنهى “آبي أحمد” صراعًا استمر لمدة عشرين عامًا عندما زار “إريتريا” ووقّع إعلان المصالحة والصداقة مع الرئيس الإريتري “أسياس أفورقي” بما سمح بإعادة فتح سفارات الدولتين واستئناف رحلات الطيران بينهما. ونتيجةً لما تقدم، اختارت مجلة “التايم” الأمريكية “آبي أحمد” ليكون ضمن قائمة القادة والزعماء الأكثر تأثيرًا في العالم لهذا العام، لكن الإصلاح السياسي الذي يقدمه “أحمد” يحتاج إلى إنجازات اقتصادية موازية تدعم موقفه وتضمن بقاءه في السلطة، وتبعث رسائل طمأنة للخارج حول مستقبل الاستقرار الداخلي، وتحسن بيئة الأعمال، وسعي الدولة لتحقيق تنمية حقيقية، وتحسين الأوضاع المعيشية لمواطنيها. لذلك يتمثل الدافع الثاني للحكومة الإثيوبية لإنهاء مشروع السد في رسم صورة إيجابية عن أداء حكومة “أحمد” على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
3- تحقيق التوازن في الشراكات الدولية
الدافع الثالث يتمثل في تحقيق قدر من التوازن بين شركاء إثيوبيا الخارجيين، فبعد أن قامت سياسات “ميلس زيناوي” و”هايليماريام ديسالين” على محاكاة النموذج التنموي الصيني، والاعتماد على الصين كشريك اقتصادي أساسي بما جعل الصين تستحوذ وحدها على 35% من الاستثمارات الخارجية، و50% من الديون الخارجية لإثيوبيا، يسعى “آبي أحمد” لاستغلال سد النهضة في بناء علاقات خارجية أكثر تنوعًا وتوازنًا. وقد تجلت هذه السياسة في إشراك دول أوروبية، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، في مشروع سد النهضة منذ جولة “آبي أحمد” الأوروبية في أكتوبر من عام 2018.
4- توظيف الجانب الرمزي للمشروع داخليًّا ودوليًّا
يعتبر الإثيوبيون سد النهضة مصدرًا لإلهام الشعوب الإفريقية المشابهة لهم في ظروفهم الاقتصادية، ودرسًا في بناء المشروعات العملاقة بتمويل محلي دون اللجوء إلى الاقتراض الدولي. فقد كان سد النهضة محورًا لثلاث زيارات قامت بها وفود من دول الكونغو، وزامبيا، وزيمبابوي، من أجل التعرف على التجربة الإثيوبية ومدى النجاح المتحقق على أرض الواقع. وقد أثنوا جميعًا على التجربة، وأوضحوا أن التمويل الذاتي لمثل هذه المشروعات يخلق لدى المواطنين شعورًا بامتلاكها. لذا فإن الدافع الأول لإثيوبيا يتمثل في إنهاء السد الأكبر في إفريقيا، بما يعزز من رصيد النظام الإثيوبي الحاكم لدى القواعد الجماهيرية في الداخل، وبما يعزز من صورة إثيوبيا كدولة رائدة على المستوى الإفريقي.
ثانيًا- تحديات استكمال السد
بالرغم من الدوافع المتعددة التي جددت التزام الحكومة الإثيوبية باستكمال مشروع سد النهضة، لا تزال هناك قائمة من التحديات التي تواجه تنفيذ السد، يتمثل أهمها فيما يلي:
1- مشكلات التمويل
قُدرت التكلفة المبدئية لبناء السد بـحوالي 4.7 مليارات دولار، وهو ما يعادل 80 مليار بِر إثيوبي، لكن إجمالي ما تم إنفاقه على السد حتى الآن يقدر بحوالي 98 مليار بِر نتيجة لانخفاض العملة الإثيوبية أمام الدولار، وسوء الإدارة بحسب تصريحات “كيفلي هورو” المدير الجديد للسد. كما تُقدر تكاليف التأخير في إنهاء السد بحوالي 800 مليون دولار سنويًّا، وذلك يعني أن الحكومة الإثيوبية تتحمل تكاليف إضافية في ظل ظروف اقتصادية صعبة.
ومن الجدير بالذكر أن الشعب الإثيوبي ساهم -حتى نهاية 2018- بـ 12.3 مليار بِر، وهو ما يعادل 15% من التكلفة الإجمالية للسد، وكان من المقرر أن يساهم الإثيوبيون بـ20% من التكلفة في حين تتحمل الحكومة النسبة الأكبر من تمويل السد. وهنا يتضح التحدي الاقتصادي أمام الحكومة الإثيوبية، حيث إنها مطالبة بتوفير تكاليف ما يقرب من 35% من بنية السد، يتمثل معظمها في البنية الكهروميكانيكية، بالإضافة إلى تحمل تكاليف التأخير سالفة الذكر.
2- عدم الاستقرار السياسي
منذ أن تولى “آبي أحمد” رئاسة الحكومة وهو يحاول تغيير المشهد السياسي في إثيوبيا؛ فقام برفع حالة الطوارئ، والإفراج عن آلاف السجناء. كما سمح لقادة المعارضة المنفيين والجماعات المسلحة بالعودة إلى البلاد، وأعطى وسائل الإعلام حرية نسبية. ولكن البعض يرى أن قرار السماح للحركات السياسية، مثل جبهة تحرير أورومو وجناحها المسلح، بالعودة إلى إثيوبيا دون ضمانات لنزع السلاح يُعد قرارًا غير حكيم، لأن هذه السياسة تهدد بشكل خطير استقرار البلاد.
وبينما يرى البعض أن هذه الإجراءات تتم وفق خارطة طريق انتقالية واضحة نحو بناء دولة ديمقراطية، يرى آخرون أنه انتقال تم تصميمه بشكل “متهور” إلى حدٍّ ما، حيث لم توفر أي ضامن لعدم صعود العناصر الديكتاتورية والطائفية. وهذا التعارض يؤكد تعقد الوضع السياسي الإثيوبي، الأمر الذي يؤثر بدوره على المشروعات الاقتصادية التي من ضمنها سد النهضة. وبدا ذلك واضحًا في إسناد المشروع لشركة “ميتيك” التابعة للجيش كشركة وطنية، ثم سحبه منها بسبب تأخرها في التنفيذ واتهام قياداتها بالفساد، وهو ما يُعد جزءًا من أزمة قائمة بين بعض القيادات العسكرية والحكومة الحالية.
3- التهديدات الأمنية
أصبحت مشكلات الصراعات والعنف والنزوح هي الوضع السائد في إثيوبيا حاليًّا، خاصة في المناطق الشمالية والغربية في ظل العنف الذي يجتاح ولاية “بني شنقول-جوموز” التي يُبنى فيها السد، حيث تشتعل الصراعات بين عرقيات “بني شنقول” وجوموز الأورومو والأمهرا، وهي صراعات شبه مستمرة تودي بحياة العشرات ونزوح أعداد كبيرة من سكان الإقليم، لذلك يُعد الأمن أحد أخطر التحديات التي تواجه استكمال السد في الوقت الراهن.