يشهد العراق جُملةً من التحديات المؤثرة على قدرته على القضاء على فرص عودة تنظيم “داعش”؛ حيث محدودية القدرات الأمنية، وغياب التنسيق والتجانس بين الوحدات والفصائل المنوطة بمواجهة خلايا “داعش” وفلوله، بالإضافة إلى تصاعد حالة التوتر في دوائر العراق الداخلية والإقليمية والدولية. لذلك تتبنى الحكومة العراقية حزمة من الإجراءات بدأتها بقرار رئيس الوزراء “عادل عبدالمهدي” بدمج وحدات الحشد الشعبي بالقوات المسلحة، وهو القرار الذي أنتج تحديات عدة على صعيد الداخل العراقي ومحيطه الإقليمي، والتي تهدد سلامة البناء القومي للدولة العراقية. لكن مع ذلك، يظل خطر عودة تنظيم “داعش” للمشهد من جديد كبيرًا.
ويُناقش هذا المقال نشاط تنظيم “داعش” في العراق، والتحولات التي اعتمدها لتطوير استراتيجية عمله -بعد هزيمته- ومحفزات استمرار نشاطه. كما يتناول جهود الدولة العراقية لمواجهة هذا الخطر، مع التركيز على نموذج عملية “إرادة النصر” التي تم إطلاقها في7 يوليو 2019.
“داعش الجديدة” في العراق
رغم إعلان الحكومة العراقية، في ديسمبر 2017، النصر على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وما تبعه من تصريحات للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” حول هزيمة التنظيم في سوريا والعراق؛ إلا أن تقارير وتصريحات عدة رسمية حذرت من استمرار وتجدد نشاط التنظيم في العراق. إذ أكد الرئيس العراقي “برهم صالح”، في مارس 2019، أن “النصر على تنظيم داعش لم يكتمل”، وهو ما جاء في أعقاب تصريحات نائب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية “روبرت بالاديانو”، في فبراير 2019، بأن تنظيم “داعش” الإرهابي “ما يزال يشكل تهديدًا إرهابيًّا كبيرًا”. كما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”، في السادس من أغسطس 2019، أن تنظيم داعش “يعاود الظهور” في سوريا مع سحب الولايات المتحدة قوّاتها من البلاد، وأنه “عزز قدراته” في العراق.
وعلى الجانب الآخر، لا يزال “داعش” نشطًا نتيجةً لما يتمتع به من مرونة، وديناميكية، وقدرة على التكيف؛ فالتنظيم في إطار تعامله مع خسائره ينطلق من قناعةٍ مفادها “أنها معركة وليست الحرب”، إذ يرى تراجعه على أنه مرحلة مؤقتة في طريق طويل. وتشير الدراسة التاريخية إلى قدرة التنظيم على تجاوز خسائره، والعودة إلى العمل والسيطرة مرة أخرى. في هذا السياق، سعى التنظيم إلى حثّ أتباعه على دخول مرحلة “حرب الاستنزاف”، بهدف تحقيق أكبر قدرٍ من الخسائر في قوات الجيوش النظامية.
وفي إطار هذه الاستراتيجية، عمد تنظيم “داعش” إلى الاعتماد على عددٍ من الأدوات لتحقيق هذه الاستراتيجية، أبرزها ما يلي:
1- التحول نحو الصحراء: شرع التنظيم في الانتقال إلى الصحراء لإطلاق عملياته في مرحلة ما بعد سقوط الخلافة. ومع بداية عام 2018، كانت مناطق عملياته الرئيسية هي المناطق الصحراوية في محافظات الأنبار، وبابل، وبغداد، ونينوى، لكنها تمددت لتشمل محافظات -حتى الآن- ديالى، وصلاح الدين، وكركوك التي يطلق عليها منطقة “مثلث الموت”، والتي تتميز بالتضاريس الوعرة التي تتيح القدرة على الاختفاء. كما تُعاني تلك المنطقة من مشكلة اتساع المساحة، والتي تحتاج إلى قواتٍ كبيرة جدًّا للسيطرة على الأرض وإحكام القبضة عليها.
2- إسقاط المدن مؤقتًا: لم تعد السيطرة الترابية أو الجغرافية تحظى بالأولوية لدى التنظيم خلال الفترة الأخيرة، ذلك أن تركزه الجغرافي والعسكري داخل مساحات ممتدة من الأرض سهّل من استهدافه. ومن ثمّ لجأ التنظيم إلى تغيير تكتيكاته عبر توجيه ضرباتٍ مباغتهٍ لقوات تأمين المدن في المناطق الضعيفة -الصولات- مع تجنب الدخول في معارك حاسمة مع الجيوش النظامية، في استدعاء لتكتيكات التنظيم خلال فترات عدم التمكين قبل إعلان خلافته المزعومة. وقد نشرت صحيفة “النبأ” -الخاصة بالتنظيم- سلسلةً من أربعة أجزاء لشرح التكتيك الجديد في أعداده المسلسلة من 179 إلى 1982.
3- الاغتيالات: شنّ التنظيم حملة اغتيالات مركزة، استهدف خلالها شخصياتٍ عامةٍ ومؤثرة كالقادة السياسيين، والقبليين، والأمنيين المحليين؛ بهدف التخلص بشكلٍ ممنهجٍ من المتعاونين مع قوات الجيش العراقي. وتنوعت أدواته بين الذبح وإطلاق النار؛ لردع المواطنين عن التعاون مع القوات الحكومية، والتشكيك في قدرة الحكومة العراقية على حمايتهم.
4- دواعش الأرض: وهي آلية تعتمد على حفر أنفاق تحت الأرض وتمويهها بعد دفنها، بحيث لا تختلف عن أي بقعة حولها، واستخدامها لإخفاء وتخزين الأسلحة والمواد الغذائية. وتسعى هذه الآلية إلى الحيلولة دون تعرض التنظيم لخطر الضربات الجوية التي ينفذها الطيران العراقي، وكذلك تفادي كشف مواقعه أو رصده من قبل الطائرات المسيّرة.
محفزات استمرار “داعش” في العراق
هناك عدد من العوامل المحفزة لاستمرار نشاط تنظيم “داعش” في العراق، أبرزها ما يلي:
1- البيئة الحاضنة: تمثل الحالة العراقية، بتعقيداتها السياسية وتبايناتها الطائفية، بيئةً مُثلى لاحتضان نشاط التنظيم؛ إذ يشهد العراق صراعًا بين الأحزاب والقوى السياسية، وغيابًا للتوزيع المتوازن للموارد الاقتصادية والخدمات الاجتماعية بين مناطقه الجغرافية، ما أنتج حالة من شعور بعض المكونات كالسنة والأكراد بالانفصال والتهميش. واستغل التنظيم الفراغ الأمني وتباطؤ عملية إعادة الإعمار ليستثمر في المناطق التي تبعُد عن سيطرة القوات الأمنية؛ كونها حواضن مثالية للعناصر الإرهابية.
2- المكون العراقي: لفتت تقارير ودراسات عدة حول “داعش” إلى أن المنتسبين العراقيين يشكلون القوام الرئيسي للتنظيم على اختلاف مستوياته. ورصدت إحدى الدراسات المعنونة “الدواعش: لمحات جماعية عن قادة الدولة الإسلامية” الصادرة في عام 2017 ما يزيد عن 600 قائد عسكري وسياسي ومدني للتنظيم من أصول عراقية. كما أشارت صحيفة “الجارديان” البريطانية في فبراير 2017 إلى قيام التنظيم بالقتال بضراوة في معركة الموصل، وتنفيذه أكثر من 900 عملية انتحارية، انتمى معظم منفذيها لمدينة الموصل، ما يشير إلى مدى تغلغل الفكر الداعشي في البيئة العراقية التي تُعد ساحة شاسعة للتجنيد.
3- تجذر الطائفية: حفزت ممارسات بعض وحدات “الحشد الشعبي” -الموالية لإيران- التوترات الطائفية، مخلفةً حالةً من الاحتقان داخل المجتمع العراقي. إذ تلقت الأمم المتحدة في يونيو 2018 تقارير حول انتهاكات قوات الأمن العراقية و”القوات التابعة لها” في الفترة من 2014 إلى منتصف 2017. وتمثلت هذه الممارسات بالأساس في “أعمالٍ انتقاميةٍ في شكل اعتراضاتٍ، وحالات اختفاءٍ قسري، وقتل”، استهدفت العرب السنة، بالإضافة إلى “عمليات إعدام خارج نطاق القانون لأشخاصٍ يُشتبه في أنهم من أتباع داعش”. ولا شك أن هذه الممارسات توفر الحجة للتنظيم ليقدم نفسه مدافعًا عن السنة في العراق.
4- العائدون: تُشير التقديرات الدولية إلى أن المقاتلين الذين عبروا الحدود إلى داخل العراق بعد سقوط بلدة “الباغوز” في سوريا يُقدَّرون بحوالي (1000) عنصر، من بينهم عناصر قيادية. ويوفر هؤلاء العائدون الأرضية الخصبة لاستمرار نشاط التنظيم، وخلق جيلٍ جديدٍ من إرهابيي التنظيم، نتيجةً لما تلقوه من تدريبٍ على القتال، واختبارهم معارك مختلفة ومتعددة، ناهيك عن حجم تأثرهم بالفكر الداعشي وترسخه في عقيدتهم. وبالتالي، يعد هؤلاء العائدون الضامن للاستمرار الأيديولوجي والعملياتي للتنظيم.
عملية “إرادة النصر”
أعلن الفريق الركن “عبدالأمير رشيد يارالله”، نائب قائد العمليات المشتركة العراقية، في 7 يوليو 2019، إطلاق عملية عسكرية موسعة باسم “إرادة النصر”، وأوضح أنها تستهدف ملاحقة فلول تنظيم “داعش” الإرهابي، والقضاء على عناصره المنتشرة في عددٍ من المناطق. وحدد بيان تدشين العملية أن نطاقها سيتركز في المناطق المحصورة بين محافظات صلاح الدين، ونينوى، والأنبار، وصولًا إلى الحدود العراقية-السورية، وتُعرف المناطق الثلاث بـ”مثلث الموت”، حيث مثلت هذه المحافظات -المتاخمة للحدود السورية- 23% من مساحة العراق، ويوجد بها بعض الفارين من ملاحقات القوات العراقية؛ كونها منطقة صحراوية مترامية الأطراف ومتاخمة للحدود السورية، ما يتيح لتلك العناصر الانتقال والاتصال بالمجموعات الأخرى في سوريا.
ويُقدر عدد القوات المشاركة بالعملية حوالي 30 ألف مقاتل، موزعين ضمن تشكيلات الجيش العراقي (بدعم من القوات الجوية)، والحشد الشعبي (بمشاركة نحو 13 لواء في الحشد)، ووحدات من الحشد العشائري، ودعم لوجيستي واستخباراتي وغطاء جوي من قوات التحالف الدولي. وصدرت عدة بيانات حول العملية، أفادت بدخول قوات الشرطة والعمليات الخاصة بعدة محافظات أخرى لمطاردة فلول “داعش” في نطاقها. واستمرت المرحلة الأولى من العملية (10) أيام جرى خلالها القضاء على عددٍ من العناصر الإرهابية، بالإضافة إلى تدمير معسكرات وملاجئ للتنظيم في تلك المناطق، وكذلك تدمير ذخائر وأسلحة تعود لعناصر “داعش” التي كانت كامنة بتلك المناطق. وانتهت المرحلة الأولى بتفتيش وتطهير مساحة جاوزت 27.98 كم بنطاق المحافظات الثلاث وصولًا للحدود الدولية مع سوريا.
وأصدرت قيادة العملية، في20 يوليو 2019، بيانًا أعلنت فيه بدء مرحلتها الثانية، حيث أشار البيان إلى توسيع نطاق العملية لتشمل القطاعات الشمالية للعاصمة بغداد ومحافظات ديالى وصلاح الدين والأنبار؛ إذ شهدت تلك المناطق تصاعدًا لنشاط “داعش” إبان المرحلة الأولى من العملية. وقامت القوات المشاركة بتفتيش ومسح (50) قرية، وتدمير معسكرات ومواقع يستخدمها التنظيم وعناصره. وفي 5 أغسطس 2019، أصدرت قيادة العملية بيانًا بإطلاق المرحلة الثالثة من العملية، والتي استهدفت مناطق شرق بغداد وجلولاء وخانقين بمحافظة ديالى ومناطق أخرى بمحافظة نينوى، وتم خلالها تطهير وتفتيش (109) قرية سعى التنظيم إلى استهدافها لإرباك المشهد السياسي والأمني نظرًا لتماسها مع حدود إقليم كردستان. وفي 24 أغسطس 2019 تم الإعلان عن تدشين المرحلة الرابعة من العملية، والتي ركزت على المناطق الصحراوية من محافظة الأنبار مثل “وادي الحسين” و”زور حوران” و”عود النسر” و”عود العبد” و”عود الطيارة”. واستهدفت هذه المرحلة تفتيش وتطهير حوالي 40.000 كم من تلك المنطقة.
وتُشير معطيات المشهد السياسي والأمني بالعراق إلى أن عملية “إرادة النصر” بمراحلها المختلفة تأتي كمحاولة لاستباق عدة تحركات وتفاعلات بالداخل العراقي ومحيطه الإقليمي وبيئته الدولية؛ في محاولة لتخفيض تأثيراتها المتوقعة على استقرار الدولة العراقية، والتزام مكوناتها بالمصلحة العراقية، بجانب رفض دخولها كساحة للمواجهات الخارجية في ظل التصعيد المتنامي بالخليج. ويمكن تناول تلك الاستباقات فيما يلي:
1- تجدد خطر “داعش”: خاصة في ضوء صدور تقارير عدة أكدت أنه رغم إعلان العراق القضاء على تنظيم “داعش” في عام 2017، إلا أن التهديد الذي يمثله التنظيم لا يزال قائمًا؛ حيث عادت عناصر التنظيم لاستهداف المدن العراقية بعدة أشكال، ما أنذر -وفقًا لتقارير دولية- بأن التنظيم يستعد لجمع شتات مقاتليه في سوريا والعراق استعدادًا للثأر للهزائم التي مني بها، وسقوط دولة خلافته المزعومة. ولعل أبرز تلك المؤشرات خروج زعيم التنظيم “أبو بكر البغدادي” وحديثه عن العودة من جديد واستنزاف القدرات العسكرية للقوات التي تحارب “داعش”، بالإضافة إلى وجود تقارير تشير إلى فرار أكثر من (1000) من عناصر “داعش” من مناطق الأكراد في سوريا ودخولهم الحدود العراقية.
2- إثبات وحدة القيادة: ترغب الحكومة العراقية في إظهار قدرتها على السيطرة على الفصائل المسلحة والمنضوية تحت راية “الحشد الشعبي”، وأنها تعمل وفقًا للخطط التي يقرها الجيش العراقي؛ لتجنب حدوث مواجهات بين بعض تلك الفصائل -الموالية لإيران- والقوات الأمريكية المنتشرة بالمنطقة، خاصة مع إعلان وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” أن لديه معلومات عن نية بعض فصائل الحشد لاستهداف المصالح الأمريكية، وأن واشنطن ستردع تلك المخططات. لذلك يرغب العراق في إظهار انتهاء علاقة تلك المجموعات بإيران والتزامها بالمهام المحددة لها من القيادة العامة للجيش العراقي. لذلك أكد البيان الأول للعملية على مشاركة بعض “ألوية الحشد الشعبي” إلى جانب قوات التحالف الدولي، في سابقة جديدة تمهد لتطبيع الجهود وتغيير النظرة الأمريكية لوحداته.
3- ضبط أنشطة الحشد: فقد أشارت بعض التقارير إلى ضلوع وحدات من “الحشد الشعبي” في انتهاكات ضد سكان المناطق التي تم دحر تنظيم “داعش” فيها، بجانب رفض الفصائل المسيطرة على بعض المناطق عودة المواطنين النازحين عنها مجددًا. وجاءت أغلب تلك الممارسات في مناطق سنية وكردية، ما أدى إلى تصاعد الخلافات الطائفية. كما دفعت هذه الممارسات أيضًا إلى مزيد من الاحتقان بين وحدات الحشد الشعبي (الشيعي) والحشد العشائري (السني)، وتمسكت المناطق السنية والكردية برفض دخول وحدات الحشد الشعبي إليها لتطهيرها من خلايا “داعش”. لذلك كان إعلان المرحلة الأولى من العملية متضمنًا إظهار تحرك وحدات الحشد الشعبي والعشائري جنبًا إلى جنب مع الجيش لنفي أي تخوف من اقتران العملية بأي ممارسات غير منضبطة، ومحاولة لإدخال نمط مشترك بين تلك المجموعات يفضي إلى بعض صور التماهي والتعاطي السليم في إطار حفظ الأمن في عموم مناطق العراق.
مجمل القول، إن الخبرات القتالية التي اكتسبها “داعش” على مدار السنوات الماضية ساعدته على إعادة تدوير تكتيكاته القتالية للتكيف في مرحلة الضغط العسكري وفقدان الأراضي. وقد تعددت العوامل المحفزة لنشاط التنظيم في العراق، والتي أتاحت الفرصة لإعادة تموضعه مرة أخرى. وبالرغم من تعرضه لضرباتٍ أمنيةٍ قوية أفقدته كثيرًا من الإمكانيات المادية والبشرية والعسكرية، إلا أن تمركزه في مناطق خبرها سابقًا، واستخدامه لتكتيك حرب العصابات؛ سيمنحه القدرة على المواجهة والمناورة. وحيث يسعى العراق إلى تثبيت قواعد الأمن والاستقرار، وتجنب الانخراط في أيٍّ من الصراعات الجارية بالمنطقة، فإنه يتوجب عليه أيضًا تبني مُقاربة شاملة لمكافحة الإرهاب متضمنةً حلولًا ومبادرات تشتمل على تعاطٍ فعال للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وحل حالة الانسداد السياسي التي يشهدها العراق، بالإضافة إلى بناء نموذج فعّال لمواجهة خطر تجدد تنظيم “داعش”، والبدء العاجل بتدشين عمليات إعادة الإعمار بالمناطق المتضررة، وإعادة النازحين إلى مدنهم وتعويض المتضررين.