دخلت مصر العام المالي الجديد في الأول من يوليو مصحوبة بمجموعة كاملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تُعطي مؤشرًا بالغ الصدق عن الحالة الاقتصادية العامة للدولة، والأوضاع الاجتماعية الحالية وما يواجهها من فرص وعقبات، فضلًا عن بيان مدى فاعلية ما اتُّخذ من قرارات في العام المالي السابق، وما أُعد من خُطط لمواجهة تحديات المُستقبل. وحل شهر يوليو هذا العام وقد أوشكت مصر على الانتهاء من برنامج إصلاح اقتصادي، استمر تنفيذه ثلاث سنوات، كانت قد اتفقت على تطبيقه مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر عام 2016، في مُقابل الحصول على قرض مُمدد بقيمة 12 مليار دولار تقريبًا، بحيث مثلت الموازنة العامة الجديدة مؤشرًا لقياس نتائج تطبيق هذا البرنامج.
تنقسم الموازنة العامة إلى قسمين رئيسيين هما: المصروفات، والإيرادات. ويتفرع كُل منهما إلى عدة أبواب، يُعبر كل منها عن مورد أو مصرف مُعين لأموال الدولة. ويُحلل هذا المقال الجوانب الأساسية للموازنة العامة للدولة لعام 2019/2020، ويستعرض التطورات التي لحقت بها، في ضوء ما انتهجته الحكومات المُتتالية من سياسات في ظل برنامج الإصلاح الاقتصادي، وانعكاسات هذه التطورات على المؤشرات الكُلية للاقتصاد المصري.
أولًا: المصروفات العامة
تُعرف المصروفات العامة بأنها “كُل إنفاق حكومي بغرض إشباع الحاجات العامة، مثل دفع الرواتب، وبناء البنية التحتية”. وتشمل المصروفات ستة أبواب هي على الترتيب: 1- الأجور وتعويضات العاملين، 2- شراء السلع والخدمات، 3- الفوائد، 4- الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، 5- المصروفات الأخرى، 6- شراء الأصول غير المالية. ويركز هذا المقال على ثلاثة أبواب فقط، هي: الأول، والثالث، والرابع، وذلك لأهميتها المُطلقة بالنسبة للمالية العامة من ناحية، وللمواطنين من ناحية أخرى.
الباب الأول- الأجور وتعويضات العاملين
يُعد هذا الباب واحدًا من أهم أوجه الإنفاق في الموازنة العامة للدولة، أولًا- من حيثُ حجم المُخصصات مُقارنة بإجمالي المصروفات، إذ بلغت نسبة مُخصصاته في مُعظم السنوات ما يزيد عن 25% منها، وثانيًا -من حيث أوجه الاستخدام، إذ تضُم الدولة موظفين يعملون في وزارات وجهات أخرى تابعة لها، تُدفع لهم أجور شهرية وتعويضات في حالة مرضهم أو عجزهم عن طريق هذا الباب. وقد شهدت مُخصصات الباب الأول ارتفاعًا مُستمرًّا مُنذ عام 2006/2007 (أول إقرار للموازنة في شكلها الجديد) عندما بلغ 51.4 مليار جنيه بنسبة 18% من إجمالي الاستخدامات، وصولًا للعام المالي 2019/2020 الذي بلغت مُخصصات الباب الأول فيه 301.1 مليار جنيه بنسبة 15% من إجمالي استخدامات الموازنة العامة، وهو ما حقق نسب نمو لمخصصات الباب في إجمالي الفترة تقترب من 600%. ويوضح الشكل رقم (1) نمو مخصصات الباب الأول من الموازنة خلال فترة الدراسة.
شكل رقم (1): تطور مُخصصات الباب الأول.. أجور وتعويضات العاملين خلال الفترة 2006/2007-2019/2020
ويُمكن تقسيم نسب النمو التي شهدها هذا الباب خلال فترة الدراسة إلى أربع فترات. أولًا- ما قبل “25 يناير”، حيث نمت مخصصاته بمُعدلات 17% في المتوسط بسبب ما شهده الاقتصاد المصري من استقرار أدى إلى ارتفاع نسب النمو لتبلغ 7% خلال بعض الأعوام. وثانيًا- الفترة ما بعد “25 يناير” وحتى 2014/2015، حيث شهدت هذه الفترة مُعدلات نمو للباب أعلى من 20%، وذلك بسبب الضغوط العُمالية والمُطالبات الفئوية برفع الأجور، واستجابة الدولة لهذه المطالب بسبب حالة السيولة التي شهدتها البلاد من ناحية، ومحاولة رفع شعور المواطنين بالعدالة الاجتماعية، من ناحية أخرى. وثالثًا- فترة الإصلاح الاقتصادي بداية من عام 2015/2016 وحتى 2017/2018، إذ استقرت نسب النمو في السنوات الثلاث عند مُعدلات 5% تحقيقًا لإعادة هيكلة الموازنة العامة. وأخيرًا في العامين الماليين 2018/2020 اللذين شهدا نموًّا بنسبة 13% و11% على التوالي لتقليل آثار التضخم التي بلغت ذروتها خلال الفترة السابقة وبمُعدلات لامست 37% خلال بعض أشهر عام 2017، وهو ما يُعد تمهيدًا لعودة مُعدلات النمو الطبيعية قبل ثورة “25 يناير”.
الباب الثاني- الفوائد
تُعاني الموازنة العامة للدولة من عجز هيكلي مُستمر تموله الحكومة عن طريق إصدار سندات وأذون خزانة، أو اللجوء إلى قروض طويلة وقصيرة الأجل لتلبية الاحتياجات العامة. ويترتب على هذا الاقتراض خدمات ديون تتمثل في الفوائد المُستحقة عليه والمصاريف الإدارية اللازمة لإتمامه والناتجة عن التأخر في سداده، وبالتالي تُربط مُخصصات هذا الباب لخدمة هذه القروض، وتُخصص لهذا الباب نسبة مُعتبرة من مصروفات الموازنة العامة، بلغ أدنى مستوى لها خلال فترة الدراسة نسبة (15%) من إجمالي المُخصصات عام (2008/2009)، بينما وصلت أعلى نسبة لها (31%) عام (2018/2019). ويوضح الشكل رقم (2) نمو مُخصصات الباب خلال فترة الدراسة.
شكل (2): تطور مُخصصات الباب الثالث الفوائد خلال الفترة 2006/2007 – 2019/2020
ويُظهر الشكل انخفاض نسب نمو مُخصصات هذا الباب من مُعدلات تراوحت ما بين 23-40% خلال برنامج الإصلاح الاقتصادي في الفترة ما بين 2016/2017 – 2018/2019 لتصل إلى مُعدلات 5% فقط خلال العام المالي الحالي في اقترابٍ شديدٍ من مُعدلات نمو ما قبل 2008/2009.
الباب الثالث- الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية
يضُم هذا الباب مُخصصات برامج الحماية الاجتماعية التي تُقدمها الدولة للمواطنين انطلاقًا من دورها الاجتماعي، وتتألف هذه البرامج من تدخُلات مُنتظمة تهدف إلى تخفيف أعباء مجموعة مُحددة من المخاطر الاجتماعية عن الأُسر والأفراد. والمخاطر الاجتماعية هي أحداث أو ظروف يُمكن أن تؤثر تأثيرًا مُعاكسًا على رفاهية الأُسر، إما من خلال فرض مطالب جديدة على مواردها أو من خلال خفض دخلها. ويوضح الشكل رقم (3) تطور مُخصصات هذا الباب.
شكل رقم (3): تطور مُخصصات الباب الرابع الدعم خلال الفترة 2006/2007 – 2019/2020
ويتّضح من الشكل السابق أن هذا الباب إلى جانب البابين الأول والثالث يشكلان معًا أكبر أبواب الموازنة العامة من حيثُ المُخصصات في جانب المصروفات، إذ كان يُخصص لهذا الباب وحده ما لا يقل عن رُبع الموازنة. وبلغ أكبر تخصيص له خلال فترة الدراسة عام 2008/2009 بنسبة 39% من إجمالي المصروفات، بينما كان أقل تخصيص في عام 2019/2020 بنسبة 17%. ويرجع هذا الانخفاض كنسبة من إجمالي المصروفات إلى إعادة توزيع مُخصصات الباب بشكل أكثر كفاءة وفاعلية، ورفع مُخصصات أنواع أخرى كالدعم المادي المُباشر، ودعم السلع التموينية، على حساب دعم المواد البترولية غير المُباشر الذي يعيبه عدم كفاءة التوزيع. ويوضح الشكل رقم (4) تغيُر توزيع مُخصصات الباب خلال فترة الدراسة.
شكل (4): تباين مُخصصات باب الدعم فيما بين العامين 2011/2012 – 2019/2020
ويوضح الشكل السابق تحول مُخصصات الدعم من التركز في دعم المواد البترولية والكهرباء إلى شتى أنواع الدعم الأخرى بما فيها دعم المواد الغذائية المُتمثل في دعم السلع التموينية، والدعم النقدي المُباشر الذي يظهر في عدة برامج أهمها تكافل وكرامة.
ثانيًا: الإيرادات العامة
يُطلق مُصطلح الإيرادات على الأبواب الثلاثة الأولى في جانب الموارد وفقًا للتقسيم الاقتصادي للموازنة العامة للدولة، وتُشير إلى الأموال التي تحصُل عليها الدولة عن طريق النشاط الحكومي، ونكتفي هنا بتناول البابين الأول والثاني فقط منها.
الباب الأول- الضرائب:
يشمل باب الضرائب إيرادات الدولة السيادية التي تُحصّلها الدولة باعتبارها صاحبة سيادة على إقليمها من ضرائب مُباشرة بأنواعها المُختلفة، كالضرائب على الدخل أو الضرائب العقارية، أو ضرائب غير مُباشرة مثل ضريبة القيمة المُضافة، أو ضرائب جمركية كالتي تُفرض على السلع المُستوردة من الخارج، بالإضافة إلى الرسوم والدمغات على الخدمات الحكومية. ويُعتبر هذا الباب هو المصدر الأهم لإيرادات الدولة، والتي تتحكم فيه بقراراتها المُباشرة وإرادتها وحدها، لكن في الوقت ذاته ترتبط إيرادات هذا الباب بمؤشرات اقتصادية عديدة، مثل: النمو، ومُعدلات الاستهلاك، والاستثمار، ومُعدلات التضخم، ومُعدلات البطالة وغيرها. إذ إن كُلًّا من هذه المؤشرات يُساهم في رفع أو خفض الإيرادات الحكومية بشكل مُباشر، وقد نمت هذه الإيرادات من 105 مليارات جنيه في 2006/2007 إلى 856.6 مليار في 2019/2020، بنسب نمو أعلى من 800% خلال فترة الدراسة، ويوضح الشكل رقم (5) تطور إيرادات هذا الباب خلال فترة الدراسة.
شكل (5): تطور مُخصصات الباب الأول إيرادات (الضرائب) خلال الفترة 2006/2007 – 2019/2020
ويظهر من الشكل السابق تأثر نمو الإيرادات بالأحوال الاقتصادية والسياسية التي مرت بها البلاد خلال فتراتها المُختلفة، وعلى الأخص انخفاضها إلى مُعدلات 2% في العام المالي 2014/ 2015 فيما بعد ثورة “30 يونيو”، 3% خلال عام 2016/2017 عند بداية برنامج الإصلاح الاقتصادي، كذلك ارتفاعها في عام 2017/2018 على إثر تحرير سعر صرف الجنيه المصري وما ترتب عليها من مُعدلات تضخم مُرتفعة للغاية، ثم انخفاض نسب النمو إلى 28% في عام 2018/2019، وأخيرًا توقع استقرارها في موازنة العام المالي الحالي عند مُعدلات 11% مُقتربةً من مُعدلات ما قبل الثورة.
الباب الثاني- المنح:
يشمل هذا الباب ما تحصلت عليه أجهزة الموازنة العامة من منح خارجية من مُختلف الجهات المانحة، سواء إقليمية أو دولية، أو مُنظمات دولية أو حكومات أجنبية. ويُخصص إنفاق المنح فيما تشترطه الجهات المانحة إن وجدت مثل هذه الشروط، فإن لم يكُن خُصصت هذه المبالغ بمعرفة الحكومة المصرية، ويُلاحظ على إيرادات هذا الباب أنها لا تتعلق بإرادة الدولة، بل بإرادات الجهات المانحة، ولذلك فإن هذه المبالغ في مُعظمها غير مُنتظم، ويوضح الشكل رقم (6) تطور إيرادات هذا الباب خلال فترة الدراسة.
شكل رقم (6): تطور مُخصصات الباب الثاني إيرادات (المنح) خلال الفترة 2006/2007 – 2019/2020
ويتضح من الشكل تذبذب إيرادات هذا الباب، فلا يُمكن الجزم بنمط مُحدد لنموها من عام إلى عام على عكس جميع أبواب الموازنة الأُخرى على الجانبين، فمثلًا في عام 2009/2010 انخفضت من 7 مليارات في العام السابق تقريبًا لتصل فقط إلى 5 مليارات، كذلك الحال في عام 2013/2014 إذ انخفضت من 9 مليارات تقريبًا في العام السابق إلى 2 مليار فقط. وقد شهد عام 2014/2015 أعلى إيرادات لهذا الباب بلغت 23.5 مليار تقريبًا، كما يتبين أنه من المتوقع في 2019/2020 أن تبلغ إيرادات هذا الباب 3.8 مليارات، وهي نفس مُعدلات ما قبل “25 يناير”.
ثالثًا: العجز الأولي والعجز النقدي
تكون الموازنة العامة للدولة في حالة توازن إذا ما تساوت الاستخدامات مع الموارد العامة، وتكون في حالة فائض إذا ما قلت الاستخدامات عن الموارد، وتصل إلى حالة العجز إذا ما ارتفعت الاستخدامات عن الموارد، والحالة الأخيرة هي السائدة في مُعظم دول العالم وبخاصة الدول النامية. وللعجز عدة أوجه، منها: العجز الأولي، والعجز النقدي، والعجزان الكُليان الأولي والختامي. ونكتفي هنا بالتركيز على العجزين الأولي والنقدي فقط. ويُعرف العجز الأولي بأنه الفرق بين الإيرادات والمصروفات العامة مع استبعاد مُخصصات فوائد الدين (الباب الثالث) من المصروفات. أما العجز النقدي فهو الفرق بين الإيرادات (الأبواب الثلاثة الأولى) والمصروفات (الأبواب الستة الأولى)، ونستعرض كُلًا منهما على حدة فيما يلى:
1- العجز الأولي
يقيس هذا العجز مدى قُدرة إيرادات الدولة على الوفاء بالتزاماتها قبل دفع فوائد الديون، التي تُعتبر التزامًا مؤقتًا من المُفترض أن ينقضي بعد فترة زمنية، سواء طويلة أو قصيرة الأجل، لكنه ليس التزامًا دائمًا مُقررًا على الدولة، ويُحسب هذا العجز عن طريق طرح الأبواب الخمسة الأولى من المصروفات -بعد استبعاد الفوائد- من الأبواب الثلاثة الأولى من الإيرادات، وكان ناتج هذا الحساب دائمًا بالسالب خلال تاريخ الموازنة العامة للدولة، أي إنها كانت دائمًا تُحقق عجزًا أوليًّا، لكن الوضع اختلف مع تنفيذ خطوات برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي حول هذا العجز إلى فائض لأول مرة في عام 2017/2018 مُنذ عشرات السنين كما يتضح من الشكل رقم (7).
شكل (7): تطور العجز الأوّلي للموازنة العامة للدولة في الفترة 2012/2013 – 2019/2020
ويتضح من الشكل السابق أنه فيما قبل عام 2017/2018 كانت الموازنة العامة تُحقق عجزًا أوليًّا بصفة مُستمرة، بلغ أقصاه في عام 2012/2013 عند مُعدل 91 مليار تقريبًا وأدناه عند 56 مليارًا في 2016/2017، لكن ما لبثت أن عكست هذا الاتجاه لتُحقق فائضًا إجماليه 14 مليار تقريبًا في العام المُشار إليه، ثُم تستمر في تأكيد هذا الاتجاه خلال العام اللاحق عليه وذلك بتحقيق فوائض قدرها 106 مليارات في عام 2018/2019، ويتوقع خلال عام 2019/2020 أن تواصل الموازنة العامة هذا الاتجاه بتوقع تحقيقها فائضًا أوليًا يبلغ 129 مليار جنيه، وذلك بفضل برنامج الإصلاح الاقتصادي، ونجاح سياسات الإصلاح الهيكلي للموازنة العامة.
2- العجز النقدي
يقيس هذا العجز مدى قُدرة إيرادات الدولة على الوفاء بكامل مصروفاتها بما فيها فوائد الديون، وقد شهد ارتفاعًا ملحوظًا خاصة في الفترة ما بين يناير 2011، والبدء في برنامج الإصلاح الاقتصادي، حيث بلغت نسبة نموه أقصاها بمُعدل 22% عند 326 مليار دولار تقريبًا عام 2015/2016، إلا أنه مع بدء تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي انخفضت مُعدلات نموه لتصل إلى 14% في عامي 2016/2017 و2017/2018، ثم تصل إلى مُعدلات نمو ما قبل الثورة عند 3% في 2018/2019 ومن المتوقع أن تواصل انخفاضها خلال العام الجاري لتصل إلى 1% فقط عند 440 مليار جنيه (انظر شكل رقم 8).
شكل رقم (8): تطور العجز النقدي للموازنة العامة في الفترة 2012/2013 – 2019/2020
خلاصة القول، إن السنوات التالية لثورة “25 يناير” شهدت تردّيًا عامًّا في جميع أبواب الموازنة العامة للدولة على الجانبين، إذ انخفضت مُعدلات نمو الإيرادات، في حين تضخمت مُخصصات المصروفات، وهو ما أدى إلى تنامي العجزين الأولي والنقدي. لكن هذه المؤشرات شهدت تحسنًا مع بداية برنامج الإصلاح الاقتصادي، وباعتماد موازنة 2019/2020 تبينت مُقدمات نتائج الإصلاح الاقتصادي بتحول العجز الأولي إلى فائض، وتراجع مُعدلات نمو العجز النقدي إلى 1% وهو ما يوازي مُعدلات ما قبل الثورة.