تجري الانتخابات العامة القادمة في إسرائيل في سياق تطورات داخلية وخارجية تخدم رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو”. وتُظهر استطلاعات الرأي حتى اللحظات الأخيرة قبل بدء الاقتراع في 17 سبتمبر الجاري، أن حظوظ الليكود في الفوز بأكثرية المقاعد (بين 30 – 33 مقعدًا) كبيرة، متفوقًا بذلك على منافسه الرئيسي تحالف “كاحول لافن” بمقعد، أو متساويًا معه في أقل التقديرات. غير أن تجاوز السؤال عن فرص فوز الليكود إلى سؤال أهم حول مدى قدرة “نتنياهو” على تشكيل حكومة من اليمين، هو المدخل الواقعي لبحث قضية الانتخابات وما يستتبعها من نتائج، خاصة أن هذه الانتخابات تأتي مبكرة واستثنائية بعد أن فشل “نتنياهو” في تشكيل حكومة يمينية خالصة رغم فوز حزبه في انتخابات أبريل الماضي بـ36 مقعدًا، ورغم تمكنه من جلب تأييد عدد من الأحزاب اليمينية لتشكيل الحكومة. إذ لم يتوفر له في النهاية سوى تأييد 60 نائبًا، بعد أن رفض حزب “إسرائيل بيتينو” بقيادة “أفيجدور ليبرمان” (5 مقاعد) الانضمام إلى التشكيلة المنتظرة.
حتى آخر استطلاع نشره موقع i24news في التاسع من سبتمبر الجاري، فإن أحزاب اليمين (الليكود، قائمة يمينا، شاس يهودت هتوراه، عوتسماه يهوديت) ستحصل على 31، 4، 7، 8، 8 مقاعد على الترتيب، أي إن كتلة اليمين ستحصل -وفقًا لهذا التوقع- على 58 مقعدًا، وهو ما لا يُمكّن “نتنياهو” من تشكيل حكومة يمينية خالصة، وسيحتاج إلى ضم أحزاب أخرى ليشكل حكومة تتمتع بتأييد 61 مقعدًا على الأقل.
الخيارات المطروحة أمام “نتنياهو” في حالة عدم قدرة جبهة اليمين على زيادة مقاعدها (إذا صدقت هذه الاستطلاعات)، ستكون إما محاولة إقناع “أفيجدور ليبرمان” زعيم حزب “إسرائيل بيتينو” (ترشحه الاستطلاعات للحصول على 11 مقعدًا) للعودة إلى جبهة اليمين التي غادرها في العام الماضي احتجاجًا على سياسة “نتنياهو” تجاه حركة حماس في غزة، والتي يرى “ليبرمان” أنها سياسة غير رادعة، ولا تحقق أمن مواطني إسرائيل، وأيضًا رفضه (أي ليبرمان) الخضوع لابتزاز الأحزاب الدينية (شاس، يهودة هتوراه) التي تساوم “نتنياهو” على دخولها الائتلاف الحاكم مقابل عدم سن تشريعات تلزم اليهود المتدينين التابعين لهذين الحزبين بالتجنيد في الجيش. أما في حالة تعذر الاتفاق بين الليكود وإسرائيل بيتينو، فلن يكون أمام “نتنياهو” إلا الذهاب إلى حكومة موسعة بمشاركة تحالف “كاحول لافن” (ترشحه الاستطلاعات للحصول على 30 أو 31 مقعدًا)، حيث يصعب تصور مشاركة الأحزاب العربية وأحزاب اليسار (قائمة المعسكر الديمقراطي الانتخابية، وتضم: حزب ميرتس، وحزب إسرائيل ديمقراطية بزعامة باراك، وحزب العمل بزعامة عميرا بيرتس) في أي ائتلاف مع الليكود. كما يصعب أيضًا تصور إمكانية ذهاب إسرائيل لانتخابات استثنائية للمرة الثانية خلال عام واحد لأجل تشكيل حكومة تقود البلاد في ظل ظروف أمنية شديدة التعقيد بسبب التوترات القائمة حاليًّا مع إيران وحزب الله.
لكل من الخيارين المتاحين أمام “نتنياهو” لتشكيل حكومة مستقرة عقب الانتخابات المقبلة تكلفته، وسيتعين عليه المفاضلة بين التنازلات التي سيضطر إلى تقديمها لليبرمان أو بني جانتس (زعيم كاحول لافن). ففيما يتعلق بإمكانية عودة “ليبرمان” للتحالف مع “نتنياهو” يبدو من الصعب تصور ذلك في ظل اشتعال التلاسن والهجوم الشخصي المتبادل بين الزعيمين، فـ”نتنياهو” استغل فرصة توقيع حزب إسرائيل بيتينو اتفاقية لتوزيع فائض الأصوات في الانتخابات المقبلة مع تحالف كاحول لافن (بموجب هذه الاتفاقية تذهب الأصوات غير الكافية لمعادلة مقعد واحد في الكنيست والتي قد يحصل عليها أي من الحزبين إلى إحدهما لتكملة عدد الأصوات المطلوبة، ويحصل الحزب صاحب الرقم الأعلى على المقعد الفائض) ليتهم خصمه “ليبرمان” بأنه قطع علاقته للأبد مع اليمين، وأصبح هو وحزبه في جبهة اليسار! وهي تهمة يحرص حتى “كاحول لافن”، بل وأحزاب منتمية لليسار تقليديًّا مثل حزب العمل، على نفيها عن أنفسهم، لإدراكهم خطورة اقتناع الرأي العام بها في ظل نفور الناخب الإسرائيلي من سياسات اليسار، سواء في جانبها الاجتماعي أو الأمني. في المقابل، دعا “ليبرمان” حزب الليكود إلى استبدال “نتنياهو” بزعيم آخر مقابل استعداده للعودة إلى جبهة اليمين وتمكينها من تشكيل حكومة قوية ومستقرة على أساس ما تشير إليه الاستطلاعات من أن انضمام “إسرائيل بيتينو” سيقوي موقع جبهة اليمين بـ69 مقعدًا بدلًا من 58 التي تحصل عليها الجبهة بدون حزب “ليبرمان”.
الأمر المؤكد أن “ليبرمان” لن يكون مستعدًّا لخسارة التأييد الكبير الذي سيمنحه له الناخب الإسرائيلي (في حالة صدق الاستطلاعات) ولن يكون بوسعه التنازل عن شروطه للعودة إلى كتلة اليمين وهي تمرير قانون تجنيد المتدينين، واستبدال “نتنياهو” بزعيم ليكودي آخر. أيضًا “نتنياهو” لن يغفر لليبرمان أنه من عطل تشكيل الحكومة عقب انتخابات أبريل الماضي، ولن يتسامح مع محاولته تأليب الليكود عليه بالدعوة إلى استبداله. وأخيرًا ومن الناحية العملية، فإن إغضاب حزبي شاس ويهودة هتوراه لأجل “ليبرمان” سيعني عمليًّا أن نتنياهو سيضحي بحزبين تتوقع الاستطلاعات حصولهما معًا على خمسة عشر مقعدًا من أجل ضمان تأييد حزب في أقصى التقديرات سيحصل على 11 مقعدًا فقط!
إذا كانت تكلفة تصالح “نتنياهو” مع “ليبرمان” كبيرة وبعض أثمانها مستحيلة عمليًّا، فلن يكون أمام “نتنياهو” إلا التفكير في ائتلاف موسع مع تحالف “كاحول لافن”. ويبدو هذا الخيار هو الأفضل لنتنياهو، خاصةً إذا ما صدقت التقارير التي تتحدث عن شِقاقات داخل “كاحول لافن” بين “بيني جانتس” وشريكه الرئيسي في التحالف “يائير لأبيد” زعيم حزب “يش عتيد”. إذ إنه حتى لو حصد “كاحول لافن” مقاعد مساوية للتي سيحصدها الليكود، فإن احتمالات تفكك تحالف جانتس-لابيد عقب الانتخابات ستكون واردة على خلفية مسألة الموقف من الانضمام إلى الحكومة أو البقاء في المعارضة، وبالتالي يمكن أن يتم التفاهم بين “جانتس” والنواب الذين سيلحقون به مع “نتنياهو” لتشكيل حكومة تتمتع بقوة لن تقل عن تلك التي كانت ستتمتع بها في حالة انضمام “ليبرمان” إليها. ويزيد من احتمالات حدوث هذا التطور تصريح لليبرمان اتهم فيها “بني جانتس” بأنه مستعد للتحالف مع “نتنياهو” بعد الانتخابات إذا ما حصل في المقابل على حقيبة الدفاع في الحكومة المنتظرة رغم توقيع الطرفين لاتفاق توزيع فائض الأصوات الانتخابية كما ذكرنا سابقًا.
وترجيح احتمال تمكن “نتنياهو” من جذب “بني جانتس” إلى صفه عقب الانتخابات القادمة، لا يعني أنه الخيار الأفضل له، إذ يبدو أن “نتنياهو” لا يزال يراهن على إمكانية زيادة قوة أحزاب اليمين -على خلاف ما تقوله استطلاعات الرأي- فخبرته منذ عام 1996 تشير إلى أن الاستطلاعات عادةً ما تعتريها أخطاء فادحة، والانقلابات في النتائج التي تبشر بها تبقى واردة بقوة. أو بمعنى آخر، إذا كان أحدث استطلاع يمنح جبهة اليمين (بدون ليبرمان) 58 مقعدًا، فإن إمكانية زيادة هذه المقاعد بأربعة مقاعد أخرى على الأقل، ليست بالأمر المستحيل. وقد سبق لنتنياهو أن تمكن من تشكيل حكومات مستقرة بأغلبية ضئيلة من اليمين، وبالتالي إذا ما حدث تحول في صفوف الناخبين نحو مزيد من دعم اليمين الذي يقوده “نتنياهو”، سواء على حساب “ليبرمان” أو “بني جانتس”، فإن فرص “نتنياهو” في قيادة الحكومة المرتقبة ستكون كبيرة بلا شك.
وبغض النظر عن تلك الحسابات المعقدة فإن التطورات الداخلية خدمت “نتنياهو”، سواء بعدم قدرة خصومه على إرساله للمحاكمة بتهمة الفساد وسوء استغلال النفوذ قبل الانتخابات، كما كانوا يأملون، أو بسبب ضعف هؤلاء الخصوم وانقسامهم على أنفسهم، أو بسبب تشوش “ليبرمان” وعدم قدرته على حسم أمره نحو العودة إلى اليمين أو القطيعة النهائية معه رغم ما تمنحه له الاستطلاعات من فرص لمضاعفة حصة حزبه في الكنيست القادم. أما على الصعيد الخارجي فإن “نتنياهو” نجح تمامًا في إبطال اتهامات خصومه في الداخل بالضعف بعد أن شنت إسرائيل عدة غارات ناجحة على الجبهات التي تُشكل خطورة على أمنها (سوريا ولبنان)، بل إن ضربات إسرائيل طالت حتى قوات الحشد الشعبي الموالية لإيران في داخل عمق العراق وبالقرب من إيران، في تأكيد على زيادة قوة الردع الإسرائيلية في عهد “نتنياهو”، كما لم تتمكن حركة حماس في غزة من مواصلة إطلاق صواريخها نحو جنوب إسرائيل بسبب التهديدات العنيفة والرادعة من جانب “نتنياهو” الذي أكد استعداده للدخول في حرب شاملة مع حماس بغض النظر عن انشغال الداخل الإسرائيلي في الانتخابات المقبلة.