شن وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” هجومًا حادًّا على إيران أثناء تعقبيه على الهجمات التي استهدفت مصفاتي نفط أرامكو (بقيق وخريص)، معتبرًا أن إيران هي المسئولة عن شن الهجمات بشكل عام على السعودية، والتي وصلت إلى نحو 100 اعتداء على حد قوله. وعلى الرغم من تبني الميليشيا الحوثية الهجوم على المنشآت النفطية السعودية، إلا أن “بومبيو” أشار إلى أنه لا يوجد دليل على ذلك الادعاء في تلميح هو الثاني من نوعه على أن تلك الهجمات ربما انطلقت من العراق. وفي المقابل، شن وزير الخارجية الإيراني “محمد جواد ظريف” هجومًا مضادًّا على نظيره الأمريكي بقوله إنه لجأ إلى سياسة “الحد الأقصى من الخداع” بعد فشل سياسة “الحد الأقصى من الضغوط”. أعقبه أيضًا هجوم مماثل من المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية “عباس موسوي” رفض فيه الاتهام الأمريكي بوقوف بلاده وراء تلك الهجمات مباشرة.
أولًا: دلالات رئيسية
يثير هذا الاشتباك الدبوماسي بين واشنطن وطهران عدة دلالات ربما لا تقتصر على الملف اليمني، وإنما تتجاوزه إلى مساحة الاشتباك الإيراني الأمريكي في العديد من الملفات. ومن هذه الدلالات على سبيل المثال:
1- التشكيك في مصدر الهجمات: تُشكيك الخارجية الأمريكية في ضلوع الحوثي في الهجوم على السعودية على الرغم من تبني الجماعة للهجوم لا يشكل سابقة، ففي نهاية يونيو الماضي نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن مسئولين أمريكيين -وصفتهم بالمطلعين على معلومات الاستخبارات- أن الهجوم بطائرات مسيرة على صناعة النفط السعودية منتصف مايو 2019 كان مصدره العراق وليس اليمن، وأنه ليست هناك تأكيدات على أنها استهدفت بطائرات دون طيار وإنما هناك احتمال أيضًا لأن تكون قد استُهدف بصواريخ. وفي السياق ذاته، تداولت تقارير على نطاق واسع نقلًا عن الصحفي والمحلل الإيراني “بابك تاغفي” نقله عن مصادر أكدت أن الدوزنز التي استهدفت المنشآت النفطية لم تنطلق من اليمن وإنما أطلقها عناصر تابعون للحرس الثوري من إيران.
2- طبيعة الأهداف: إذ إن شن الحوثي لهجمات على المطارات كان يبرر أيضًا بإغلاق المجال الجوي في صنعاء، وهو ما كان يؤكده باستمرار القيادي في الحركة “محمد علي الحوثي”، لكن الهجوم على منشآت النفط يصعب تبريره سوى لصالح إيران، فقد بدأت مثل هذه العمليات منذ انتهاء الإعفاءات التي مُنحت لإيران لتصدير النفط في مايو الماضي. كما أن الدعاية الإيرانية تضمنت على الدوام إشارات تفصيلية في وسائل الإعلام حول أهمية المنشآت المستهدفة، وتأثير الهجمات على أسعار النفط، وأن عمليات الإنتاج توقفت. والملاحظ أنه مع كل خطوة جديدة تتعلق بالحديث عن المفاوضات الإيرانية الأمريكية يعقبها تصعيد إيراني جديد ضد منشآت النفط السعودية.
3- معادلات الاشتباك: تظل إيران حريصة على إبقاء المعارك خارج حدودها، معتمدة على وكلائها في الساحات المختلفة للقيام بهذا الغرض. وفي إطار استراتيجية تعميم القدرات لدى الوكلاء، أصبح من الصعب التفرقة بين القدرات التي يمتلكها وكلاء إيران، وتشمل عمليات إشراف الحرس الثوري على بعض العمليات ونقله لخبراته في مجال تشغيل المنظومات العسكرية الحديثة من الصواريخ والدرونز التي تم نقلها إلى العراق واليمن ولبنان، حيث أشارت تقديرات عديدة إلى وجود خبراء من الحرس الثوري في العديد من مخازن الأسلحة الإيرانية، لا سيما حوادث تفجير المعسكرات في العراق خلال الشهرين الماضيين. وبالتالي تسارع إيران إلى تنفيذ تلك الاستراتيجية لتوظيفها في إطار التوتر الراهن مع الولايات المتحدة. كما تركز طهران -في الوقت ذاته- على قدرة الوكلاء على فرض معادلات اشتباك جديدة في الإقليم.
4- إشكالية الاعتراف: قد يكون أحد أسباب عدم تبني الميليشيات العراقية الموالية لإيران في العراق لمثل تلك الهجمات على الرياض هو تفضيل إيران والميليشيا الحوثية الإعلان عن إطلاق هذه الهجمات من اليمن من منطلق تبرير الدوافع، لا سيما وأنها توظفه لصالح الوكيل الحوثي في تعزيز قدراته الهجومية، وأنه لا يزال قادرًا على تشكيل خطورة على السعودية، بالإضافة إلى زيادة أوراق الضغط على الولايات المتحدة التي أعلنت مؤخرًا أنها تدعم استئناف مسار المفاوضات بين الحوثيين والحكومة الشرعية اليمنية في سلطنة عمان، ومن ثم فإن الميليشيا حينما ستذهب إلى تلك المفاوضات ستذهب إليها من موقع قوة وليس من موقع ضعف.
ثانيًا: تفنيد الروايات
1- وجاهة نظرية الشك: على الرغم من نفي العراق رسميًّا أن تكون الصواريخ قد أُطلقت من داخل البلاد، إلا أن ترجيحات محللين وخبراء عديدين بعكس ذلك تظل تحمل قدرًا من الوجاهة، لعدة أسباب، منها، على سبيل المثال، حسابات المسافات التي تبدو أقل في حال تم الإطلاق من العراق مقارنة بالحدود اليمنية. كما أن هناك تقارير تسلح عديدة أشارت في الآونة الأخيرة إلى أن إيران طورت قدراتها في العراق وحثت ميليشيات الحشد الشعبي على تأسيس القوة الجوية في أعقاب توالي الهجمات على العديد من المعسكرات في العراق. كذلك، فإن عملية إصابة الأهداف بدقة في العمق السعودي يحتمل معها لجوء إيران إلى العراق كساحة بديلة أكثر سهولة في نقل الصواريخ والدرونز في الوقت الذي تحد فيه حالة الانتشار العسكري في الخليج من استمرار عملية الإمداد الإيراني للحوثيين بمثل تلك القدرات. ففي الفترة الأخيرة، كانت الإعلانات الحوثية أكثر تركيزًا على نسخ الصواريخ المطورة، وهي صواريخ معدلة على نوع واحد منها وهو صواريخ “بركان”، في مقابل الشكوك التي تحيط بقدراتها على تطوير الدرونز التي يمكن أن تصل إلى مسافات كبيرة كالمسافة التي يمكن أن تقطعها الدرونز من اليمن إلى مناطق مثل الداودمي التي استُهدفت في مايو أو الشبية التي استهدفت في أغسطس أو بقيق وخريص. كذلك كانت الميليشيا الحوثية غالبًا ما تقوم بتصوير عمليات إطلاق الصواريخ لكن منذ تبينها عمليات هجومية على منشآت سعودية كانت تعلن فقط عن امتلاك درونز بقدرات مبالغ فيها إلى حد كبير دون أن تقدم دليلًا على ذلك.
2- إشكالية الأدلة القاطعة: خلال الفترة السابقة تعرض العراق لعدد من الهجمات بالدرونز، تُجمع روايات وتحليلات عديدة لخبراء ومتخصصين عسكريين أن إسرائيل تقف وراءها. وعلى الرغم من ذلك لجأت الحكومة العراقية إلى تشكيل لجنة للتحقيق لم تتوصل إلى نتائج، وربما في حال توصلها لن يتم الإعلان عنها. ومن المتوقع أيضًا أن هناك صعوبات في إثبات ذلك بالدليل القاطع. ومن المنظور ذاته، تتعامل إيران من خلال وكلائها، حيث تظهر القرائن لكن تغيب الدلائل القاطعة على الإثبات، ومن ثم تفسر هذا الغموض لصالح ما تروج له دعائيًّا، خاصة أنه كما سبقت الإشارة فإن الميليشيا الحوثية في استعراضها للعملية أشارت إلى تفاصيل كثيرة تتعلق بالأبعاد السياسية للحادث لكنها لم تشر إلى تفاصيل العملية على الرغم من أنها كثيرًا ما عرضت تفاصيل لهجمات بالصواريخ التي أُطلقت على الحدود السعودية.
ثالثًا: صراعات الإرغام
ذهبت الولايات المتحدة إلى تحميل إيران المسئولية عن الهجمات على السعودية، لكنها في الوقت نفسه لم توضح ما هي الخطوات التالية التي سوف تتخذها، لا سيما وأن هناك اتفاقية دفاع مشترك أمريكية-سعودية، وهو ما قد يُثير التساؤل حول أقصى نقطة سيحدث عندها تحول في معادلة الاشتباك بين الطرفين. فإيران تعتبر أنها هزت الثقة في مصداقية نظريات الردع الأمريكي، وقدرة واشنطن على الدفاع عن الحلفاء، وبالتالي حولت نظرية القدرة على الإرغام الأمريكية لصالحها. وفي المقابل، فإن واشنطن لم تقدم عمليًّا نموذج الردع الفعال في مواجهة إيران، كما أنه لا تزال هناك أصوات أمريكية داخل الكونجرس تحذر من انزلاق تلك التهديدات إلى الحرب، لا سيما في أعقاب الإطاحة بمستشار الأمن القومي الأمريكي “جون بولتون” مؤخرًا، لكن هذا المسار يضع واشنطن -في المقابل- في مأزق مع الحلفاء في الشرق الأوسط بشكل عام.
إجمالًا، لقد ضاعفت إيران من تهديداتها في الخليج على الأهداف المختلفة التي تشكل تهديدًا للأمن الخليجي، مع قدرتها -سواء بشكل مباشر أو عبر حلفائها- على مواصلة استهداف المواقع الحيوية في السعودية. كما نجحت في تشبيك الرسائل الخاصة بمعادلات الاشتباك، وأنها قادرة على تهديد الجميع، وخلط أوراق كافة الملفات الخاصة بمناطق الصراع، وأنها حصلت من أوراق الضغط ما يكفي للقول بأنها الرقم الصعب فيها طالما لا تزال بعيدة عن الحرب. وبمررو الوقت، ستستغل فرصة موسم الانتخابات الأمريكية في مواصلة التهديدات. ومن المؤكد أن هذا الاستنتاج سيضع الولايات المتحدة في مأزق بشكل دائم مع حلفائها بسبب غياب مسار الردع الفعال في مواجهة تهديدات إيران.