تزايدت في الآونة الأخيرة الخلافات المعلنة بين ممثلي السلطة التنفيذية في عدد من البلدان وبين مسئولي البنوك المركزية فيها، وذلك على خلفية القرارات الخاصة بالسياسة النقدية بشكل عام، والقرارات المتعلقة بأسعار الفائدة بشكل خاص. فقد دأب الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” على انتقاد رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي للولايات المتحدة) “جيروم باول”، خاصة فيما يتعلق بسياسات البنك المتعلقة بأسعار الفائدة. ووصل الأمر إلى حد تهديد “ترامب” بإقالة رئيس مجلس الاحتياطي، وهو أمر لا يسمح به القانون الأمريكي إلا لسبب محدد، فضلًا عن اشتراط موافقة مجلس الشيوخ. كما شهدت تركيا نفس الظاهرة عندما هاجم الرئيس التركي “أردوغان” محافظ البنك المركزي التركي حال قيام الأخير برفع أسعار الفائدة بنسبة 7% دفعة واحدة في محاولة للسيطرة على انهيار العملة التركية وتحجيم معدلات التضخم، وانتهاء الخلاف بإقالة محافظ البنك في يوليو 2019.
وتعبر هذه الظاهرة عن ميل متزايد لدى ممثلي السلطة التنفيذية للتدخل الصريح في قرارات السياسة النقدية، وهو ما يُعد انقلابًا جوهريًّا يهدد مستقبل استقلال البنوك المركزية في العالم، ويستدعي إلقاء الضوء على العلاقة بين السلطات التنفيذية في البلاد وبين البنوك المركزية، والنتائج المترتبة على تدخل الساسة في القرارات الاقتصادية تاريخيًّا.
تُعد البنوك المركزية هي اللاعب الأوحد المتخصص في صنع السياسة النقدية وفقًا لأغلب الدساتير والقوانين. ورغم تنوع أهداف البنوك المركزية حول العالم؛ إلا أنها تتفق في هدف تحقيق الاستقرار المالي. لكن في ظل سعيها لتحقيق هذا الهدف قد تتعرض لبعض العراقيل أو الضغوط السياسية التي يمكن أن تعيقها عن تحقيق هذا الهدف.
وبالنظر إلى الأساس الذي تم الاعتماد عليه لبناء البنوك المركزية، تُعتبر نظرية الوكالة (أو التفويض) هي النظرية التي بُنيت عليها مبادئ تكوين البنوك المركزية في العالم. وقد نشأت تلك النظرية في بداية القرن التاسع عشر لتتماشى مع تطور الرأسمالية، بغرض تمكين كيان معين من الاعتماد على كيان آخر للقيام ببعض الأعمال المسندة إليه والمحددة مسبقًا، مع تخويله السلطات اللازمة لتسوية النزاعات والتعامل مع الشئون الإدارية. إذ يمثل نموذج البنوك المركزية مثالًا واضحًا لاستخدام المحترفين (المصرفيين) كوكلاء بدلًا من أن يفعل الرئيس المنتخب (رئيس السلطة التنفيذية) كل شيء بنفسه. أما الاقتصادي النمساوي-الإنجليزي “هايك Hayek” فيرى أن تكوين البنوك المركزية قائم على أساس من التخصص وتقسيم العمل، وهو ما يتيح لمتخصصين القيام بذلك الدور، ومن ثم استغلال الموارد المتاحة بشكل أفضل. بمعنى آخر، تخلق نظرية “الوكالة” علاقة أكثر فاعلية بين الأطراف، لكن يترتب على ذلك تكاليف تسمى تكاليف الوكالة، وهي احتمال قيام الوكيل (البنك المركزي) بالتصرف بشكل يؤدي إلى تحقيق مصلحته الذاتية، أو تحقيق مصلحة جماعات المصالح المرتبطة به.
لكنّ تطبيق تلك النظرية على البنوك المركزية قد لا يبدو بهذا الشكل، إذ إنه لا يتم انتخاب أيٍّ من كبار المصرفيين (محافظ البنك المركزي)، بل يتم تعيينه مباشرة من جانب رئيس الحكومة المنتخب (أو رئيس الجمهورية)، وبالتالي ففي هذه الحالة يمثل الشعب أو الجمهور المدير النهائي للبنك المركزي لكنه ليس المدير المباشر، وهو نفس الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يتم تعيين رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي من جانب الرئيس، ومن ثم فإن المدير المباشر هو الرئيس، وبموافقة الكونجرس (وهي موافقة ضرورية إذ لا يمكن تعيين رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي بدون موافقة مجلس الشيوخ) على الاسم المرشح من جانب رئيس الولايات المتحدة، ومن ثم فإن المُشرِّع (الكونجرس) يصبح في هذه الحالة أيضًا مديرًا. وفي اليابان يتم تعيين محافظ البنك المركزي من جانب رئيس الوزراء بشرط موافقة البرلمان، أما في أوروبا فيتم تعيين رئيس البنك المركزي الأوروبي من خلال التشاور بين ممثلي حكومات الدول الأعضاء والبرلمان الأوروبي، وفي تلك الحالة تتعدد الجهات الرقابية على البنك المركزي الأوروبي، مثل: المجلس العام، والدول الأعضاء، والبرلمان الأوروبي.
لذا فإنه بالنظر إلى نظرية الوكالة قد يكون للبنك المركزي عدة مديرين مثل (السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية)، الأمر الذي قد يتسبب في ضعف الكفاءة نظرًا لبيروقراطية تعدد جهات الإشراف. لكن من ناحية أخرى، قد يقف تعدد جهات الإشراف كحائط صد أمام إمكانية اتخاذ البنك المركزي قرارات تحقق مصالح جماعات المصالح، أو الساسة، وتصرف النظر عن تحقيق استقرار الاقتصاد والنظام المصرفي.
سلطة الحكومة الرابعة
كان للاقتصادي الأمريكي “جورج ستيغلر” (الحاصل على جائزة نوبل) رأي في مقالته الرائدة في عام 1971 حول استقلالية الهيئات، حيث يرى أن الهيئات في حالة الاستقلالية غالبًا ما تستجيب لرغبات جماعات المصالح المنظمة والأكثر قوة، وتزداد تلك المخاطر من قطاعات النشاط التي تتولى تلك الهيئة تنظيمها، حيث إنه عندما تتحرر الهيئات من السيطرة السياسية قد تتعرض لنوع من السيطرة من جانب جماعات أخرى قد تصل إلى حدّ اعتبار مصالح النشاط الخاضع للتنظيم أو مصالح الشركات المنفردة مطابقة للصالح العام. على سبيل المثال، قد تقوم البنوك المركزية بتخفيض التكاليف التي يتحملها قطاع النشاط المصرفي الذي يخدم مصالحها دون النظر إلى تحقيق التوازن الملائم بين تلك التكاليف والمصلحة العامة. وقد تعتمد تلك البنوك تطبيق قواعد استثنائية وإعفاء بعض الشركات من التقيد بالشروط التنظيمية على نحو غير متسق. وتنطوي استقلالية الهيئات على الحاجة إلى المساءلة؛ حيث يمكن لهيئة مستقلة أن تعمل وفق جدول أعمال خاص بها يتعارض مع رغبة الأغلبية السياسية. وقد أطلق بعض المحللين على الهيئات المستقلة اسم “سلطة الحكومة الرابعة”، حيث تقع هذه الهيئات خارج سيطرة السلطات الثلاث التقليدية التي تحافظ على توازن النظم الديمقراطية الناضجة من خلال نظام لضبط التوازن بين السلطات، ومن ثم فهي ترى أن تبعية البنوك المركزية أمر أفضل للصالح العام.
عواقب عدم الاستقلالية
تشير التجارب الفعلية إلى أن إدارة الأزمات والأدوار الوقائية للبنوك المركزية تعرضت في الماضي لضغوط شديدة من قبل القوى السياسية، حيث إن التدخل السياسي في تنظيم القطاع المالي يساهم في تفاقم الأوضاع، خاصة في الأزمات المالية الكبرى التي وقعت خلال العقدين الماضيين. ولم يتوقف ذلك الأثر على منطقة محددة، بل انتشر من شرق آسيا إلى روسيا وتركيا ودول أمريكا اللاتينية، حيث لم تتسبب الضغوط السياسية في إضعاف الاستقرار المالي فقط؛ بل امتدت إلى منع الهيئات من ممارسة الأعمال الموكلة إليها واتخاذ التدابير اللازمة ضد البنوك المحاصرة بالمشكلات، ومن ثم تسبب ذلك في شلل بالقطاع المصرفي. ووفقًا لتقرير صادر عن صندوق النقد الدولي في عام 2004، أشارت السيدة “روث دي كيرفوي”، الرئيس السابق لبنك فنزويلا المركزي، في كتاب لها بعنوان “الانهيار” إلى أن التدخل السياسي كان من أبرز العوامل التي أضعفت قدرة البنوك على مواجهة الأزمة، ومن ثم فقد رأت أنه من الأفضل استقلال الرقابة المصرفية، والاكتفاء فقط بإعطائها الدعم السياسي الذي يُمكّنها من أداء مهامها.
وقد تكرر الأمر في آسيا خلال الفترة (1997-1998)، حيث تسبب التدخل السياسي في التنظيم والرقابة في تأخر إدراك الأزمة، وساهم في تعميقها. وتكفل التدخل السياسي بإعاقة عملية الرقابة، حيث كانت البنوك والمؤسسات المالية غير المصرفية من اختصاص وزارة المالية والاقتصاد، وشجع ضعف الرقابة على إفراط المؤسسات غير المصرفية في الدخول في معاملات تنطوي على مخاطر مرتفعة تسببت في وقوع أزمة في عام 1997. أما في إندونيسيا فقد امتنعت الجهات الرقابية عن اتخاذ إجراءات ضد البنوك التي لديها علاقات سياسية قوية مع العائلة الحاكمة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتدت لتدخل رئيس الجمهورية بشكل مباشر لتوجيه تعليمات للبنك المركزي لاتخاذ تدابير بعينها دون أخرى. وفي الهند، استقال محافظ البنك المركزي في 10 ديسمبر 2018 نتيجة رفضه تدخل الحكومة لفرض قوانين محددة لاعتبارات انتخابية.
وإذا إفترضنا حسن نوايا الساسة ورغبتهم في تحقيق الاستقرار المالي في البلاد، وبالتالي وجود اتساق مع أهداف البنوك المركزية؛ إلا أن اختلاف مدد منصب كلٍّ من محافظ أو رئيس بنك مركزي ورئيس السلطة التنفيذية، سيتسبب في تعارض في القرارات المتخذة، إذ تتراوح مدة شغل محافظ البنك المركزي في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال 14 عامًا، مقابل أربع سنوات فقط للرئيس، وتبلغ مدة رئيس ومدير البنك المركزي الأوروبي 8 سنوات، ومحافظ بنك اليابان 5 سنوات. كما أن أنظمة المحاسبة وتخصيص الميزانيات الخاصة بالبنوك المركزية تختلف من دولة إلى أخرى، فقد يتطلب الأمر موافقة وزير المالية كما في اليابان، أو موافقة السلطات التشريعية كما في كندا، ومن ثم فيمكن للسلطة التنفيذية أن تتدخل في اتخاذ قرار صحيح من وجهة نظرها، إلا أن ذلك القرار قد تكون له نتائج سلبية على المدى الطويل.
وعليه فالافتراض المنطقي أن هناك اختلافًا بين الآجال الزمنية التي يتم على أساسها اتخاذ القرارات، فالأفق السياسي لصنع القرار يركز عادة على أهداف قصيرة الأجل وذات طابع شعبوي (على سبيل المثال، أهداف ترتبط بالدورة الانتخابية التالية كما حدث في الهند) وبين الآفاق التي تُبنَى عليها القرارات المصرفية المركزية التي تركز بشكل أكبر على الاستقرار طويل الأمد دون النظر إلى النتائج الفورية المحققة، وهو ما سيتسبب قطعًا في الخلاف بين الطرفين، ومن ثم سيتسبب قصر النظر السياسي في منع البنوك المركزية من القيام بإدارة ملائمة للأزمات التي قد تؤثر سلبًا على الاستقرار المالي. وحيث إن استقلالية البنك المركزي تؤدي إلى سياسات مالية نشطة تركز على استقرار الأسعار، وتتيح المجال للحكومة لممارسة عملها في تحقيق النمو الاقتصادي، وتساهم في خلق فرص العمل؛ فالحاجة إلى الاستقلالية تصبح أمرًا حتميًّا في حال تباين التفضيلات بين الحكومات والقاعدة الانتخابية (والأطياف السياسية الأخرى في البلاد) وزيادة نطاق النزاعات بينهما، وذلك لمنع الساسة من استخدام سياساتهم بغرض فرض سياسات على البنك المركزي ومن ثم تحقيق أهدافهم الخاصة.
ولتحقيق ذلك الغرض فإنه يُفضَّل تشكيل مجلس إدارة مكون من جزأين، أحدهما رقابي، والآخر تنفيذي، وذلك كآلية لمواجهة مشكلات الوكالة الناشئة عن الفصل بين الملكية والسيطرة، وقصر سلطة التعيين على تعيينات المجلس الأعلى القائم على إدارة البنك المركزي، والذي بدوره سيقوم بتعيين مجلس تنفيذي، الأمر الذي سيقلل من درجة النفوذ المحتمل للسياسيين على قرارات السياسة النقدية التي يتخذها المجلس التنفيذي.
على الجانب الآخر، يمكن علاج ذلك الأمر من خلال اختيار محافظ البنك المركزي من جانب الجمهور أو البرلمان، وذلك لضمان استقرار البنك المركزي والإشراف عليه من خلال الفرعين التشريعي والتنفيذي في نظام ديمقراطي، إلى جانب تحديد أهداف واضحة في التشريعات ذات الصلة وذلك لحماية البنك المركزي عن التحول من خدمة المصالح العامة طويلة الأجل إلى المصالح السياسية قصيرة الأجل.