ثمة نظرة شائعة في منطقة الشرق الأوسط تشكك في أدوار المنظمات الأجنبية غير الحكومية العاملة في مناطق النزاعات والأزمات، تصل إلى حد وصمها بأنها “واجهات خلفية ناعمة” للمصالح الغربية، وهو ما قد يرجع إلى إرث التدخلات العسكرية الغربية في منطقتنا، وما خلّفته من اضطرابات وعدم استقرار واستنزاف للموارد، فضلًا عن الخلط بين منظمات أجنبية تعمل في مجال المساعدات أو تسوية النزاعات، وأخرى في مجال حقوق الإنسان تثير عادة جدالات بانتقاداتها للحكومات. الأهم أن قطاعًا ليس قليلًا من النخب السياسية والفكرية بمنطقتنا لا يزال مسكونًا بالتفكير التآمري تجاه الآخر الأجنبي، كوسيلة دفاعية نفسية لمجابهة فجوات القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والحضارية بين دول الشمال والجنوب.
ولا تمنع تلك النظرة، التي يمكن اعتبارها “اختزالية”، من القول بأن المنظمات الأجنبية أو الدولية غير الحكومية كرست خبرات متراكمة في مجال تسوية النزاعات خلال العقود الثلاثة الماضية؛ إذ طورت أدوارها من التركيز على المساعدات الإنسانية والتنموية للمتضررين في النزاعات إلى ممارسة الدبلوماسية الخاصة أو غير الرسمية أو المسار الثاني، بما تعنيه من تدخل فواعل غير رسمية في مجال تيسير الحوار والوساطة بين المتنازعين بغية التوصل إلى اتفاقات على القضايا المختلف عليها، في مسعى: إما إلى دفعهم إلى تسويات رسمية أو توفير قابلية عامة للسلام في البنى المجتمعية.
وقد عبّر هذا التطور عن تعثر المسار الرسمي في تسوية النزاعات وعدم صمود الاتفاقات السياسية، وكذا تعقد الصراعات ذاتها إثر تمدد عوامل نشوبها وقضاياها (السلطة، الثروة، الهوية) إلى البنية المجتمعية المنقسمة (دينيًّا، عرقيًّا، مناطقيًّا)، ناهيك عن سياقات العولمة التي تصاعد فيها دور المجتمع المدني وخصخصة السلام على الصعيد العالمي.
وبرز في هذا الشأن تجارب عديدة لمنظمات الدبلوماسية الخاصة، سواء من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق “جيمي كارتر” عبر مركزه (Carter Center)، والذي لعب دور الوساطة في نزاعات شرق إفريقيا، والبحيرات العظمى. أو الرئيس الفنلندي السابق “مارتي اهتساري” الذي أسس في عام 2000 منظمة مبادرة إدارة الأزمات CMI، التي تعمل بدورها على منع وحل النزاعات عبر الوساطة والحوارات غير الرسمية. أو حتى جماعة “سانت إيجيدو” التي صارت تجمع في أنشطتها في مناطق النزاعات بين ممارسة الوساطة غير الرسمية، وتقديم المساعدات الإنسانية في آن واحد.
وسواء تم تفسير أدوار المنظمات الأجنبية على أنها تعبير عن اتجاهات إنسانية عالمية تسعى للحد من النزاعات وبناء السلام، أو حتى كمقاربة واقعية براجماتية للقوى الغربية للاستثمار في وكلاء لتغيير بيئة النزاعات، كون السلام أقل كلفة من الحروب، أو لصعوبة التواصل مع جماعات مسلحة خشية إعطائها شرعية قانونية؛ فإن ثمة دروسًا مستفادة تحويها تجارب تلك المنظمات في مناطق النزاعات بالنسبة للفاعلين، الرسميين أو غير الرسميين، خاصة في الشرق الأوسط الذي يعاني نزاعات مسلحة في ليبيا وسوريا واليمن.
وبينما فتحت هذه النزاعات الباب واسعًا لتدخلات خارجية، سواء كانت عسكرية من القوى الكبرى أو سلمية من قبل المنظمات الأممية التي تسعى لتسوية النزاعات، فقد بدت الأدوار الإقليمية المساهمة في هذا الميدان، مقصورة على الجهود الرسمية، حتى وإن برزت لها مسارات غير رسمية عبر جمعيات أهلية ومراكز فكر وغيرها، فإنها إما أن تكون محدودة أو لحظية مؤقتة أو ليست لديها الموارد اللازمة للتعاطي مع النزاعات.
ولعل البعض يذكر كيف أن الطابع الحماسي للدبلوماسية الشعبية لتسوية الأزمة بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة بعد ثورة 25 يناير 2011 انطفأ سريعًا، ولم يُؤتِ أُكُلَه، لأنه لم يتم تأطيره أو بناء نهج وآليات مؤسسية لتفكيك وحل الأزمة بين البلدين. وعلى أهمية جهود مصر في السنوات الأخيرة في احتضان القبائل والتيارات السياسية الليبية لبناء حوارات، والاتفاق على تسوية الأزمة؛ إلا أن أغلبها كان يصدر عن جهات رسمية أو حتى غير رسمية مرتبطة بالسلطة، لكن لم يتم التأسيس لآليات منتظمة لدبلوماسية المسار الثاني، كي يتوفر لها الاستمراراية والفعالية والمرونة في التعامل مع مختلف أطراف الأزمة. كما أنه، وبرغم المساهمات المؤثرة لدول خليجية، مثل السعودية والإمارات والكويت وغيرها، في المساعدات الإنسانية والتنموية على الصعيد العالمي؛ فلم يُوازِ ذلك تكريس أدوار في مجال الدبلوماسية الخاصة.
اعتبارات أساسية
في ضوء ذلك، فإن هذا التحليل يسعى إلى قراءة ملامح تجربة “مركز الحوار الإنساني” Center for Humanitarian Dialogue في جنيف، سعيًا لاستخلاص الدروس والخبرات المتراكمة في مجال ممارسة الفاعلين غير الرسميين لأدوار في تسوية النزاعات، خاصة في منطقتي الشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء، وذلك على خلفية الدور المتصاعد الذي يلعبه المركز في بناء أجندات الوساطة والسلام في العديد من مناطق النزاعات حول العالم، دون جلبة إعلامية Low profile تفرض عادة قيودًا على النقاش وطرح القضايا في النزاعات.
على مدار عقدين، منذ تأسيس “مركز الحوار الإنساني” في عام 1999، دعم المركز أكثر من 40 مبادرة حوار ووساطة في 25 دولة واجهت نزاعات أو أزمات انتخابية أو انتقالًا سياسيًّا، وذلك وفقًا لموقع المركز www.hdcentre.org. من بين تلك الدول، ليبيا وسوريا وتونس والعراق واليمن والسودان، فضلًا عن دول عديدة في وسط وغرب وشرق إفريقيا، بخلاف أزمات أخرى في آسيا وأوروبا، كالفلبين وأوكرانيا. وقد ذاع صيت المركز نسبيًّا في منطقتنا إثر تسهيل الحوار بين الأحزاب والتيارات التونسية، والذي أسفر عن التوقيع على ميثاق شرف بشأن الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت في عام 2014، كما أسهم في دعم وتقديم المشورة في التوصل إلى اتفاق المصالحة في إفريقيا الوسطى أو اتفاق السلام في مالي في 2015.
على الجانب الآخر، فإن أنشطة المركز تعبر عن مقاربة عملياتية باتت تحوز أهمية في عمليات تسوية النزاعات المتعثرة في منطقتنا، كما في ليبيا وسوريا واليمن ومالي، إذ تركز تلك المقاربة على بناء السلام من أسفل إلى أعلى Bottom-up peace-building، أي إيجاد حاضنة بنيوية متدرجة ومتكاملة في آن واحد لبناء السلام، عبر إنهاء العنف وتحويله باتجاه حوارات غير عنيفة، وذلك كنوع من الاستجابة إلى التعقد في النزاعات، والتي باتت تحتاج إلى تدخلات غير رسمية، سواء لخلق قنوات اتصالية وتفاوضية تدعم المسارات الرسمية (المسار الأول ونصف track one and half) كي لا تظل التسويات التي تقوم بها المنظمات الأممية هشة، كما الحال في ليبيا ومالي.
تطور النهج والأنشطة
في سنوات تأسيسه الأولى، سعى مركز الحوار الإنساني إلى التركيز على تسهيل الحوار بين أطراف النزاع، بغرض وصول المساعدات الإنسانية للمتضررين من النزاعات؛ إلا أن ذلك الهدف تطور لاحقًا، حيث بات المركز يعرف نفسه على أنه منظمة دبلوماسية خاصة. وتجلى ذلك في ميثاق المركز الذي تم تعديله في عام 2013، حيث وضع عدة معايير حاكمة لأنشطته، مثل: الحياد، والاستقلالية، وشمولية الأطراف المنخرطة في عملية السلام (مثل: الشباب، والنساء، والمجتمع المدني المحلي)، والحفاظ على السرية التامة في الاتصال بأطراف النزاع، وتعزيز التعاون والشراكة مع المنظمات الدولية والإقليمية.
وركز المركز في أنشطته الميدانية على مناطق نزاعات وأزمات في العالم تصدرتها دول القارة الإفريقية، يليها شمال إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأورسيا. كما اعتمد في نهجه المؤسسي على ثلاثة أمور أساسية، أولها: اللا مركزية لتسهيل الاستجابة للتدخل في الأزمات، فبخلاف امتلاك مركز الحوار مكتبًا رئيسيًّا في جنيف، فله مكاتب فرعية، اثنان منها في إفريقيا، وثلاثة أخرى في آسيا وأوراسيا، وشمال إفريقيا والشرق الأوسط. ثانيها: تركيز أنشطته على الفواعل المحلية والقبلية، نظرًا لضعف فكرة الدولة والسلطة المركزية، عبر فتح قنوات اتصال لاستكشاف مواقف المتنازعين، وبناء قنوات اتصال وتقديم المشورة الفنية لأطراف النزاع. وثالثها: التوسط في اتفاقات السلام المحلي، عبر دعم الأطر التقليدية للوساطة (الوسطاء من الداخل الأكثر دراية وقبولًا من المتنازعين) لوقف العنف أو تسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
وفي هذا السياق، يمكن طرح نموذجين لأنشطة مركز الحوار في منطقتي إفريقيا والشرق الأوسط، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
1- النزاع في ليبيا بعد “القذافي”
أسهم مركز الحوار الإنساني في تطوير الأطر التقليدية في تسوية النزاعات المحلية في ليبيا بعد سقوط “القذافي” في عام 2011 عبر دعم اتحاد مجالس الحكماء والشورى في ليبيا (مؤسسة ذات طابع قبلي اجتماعي) لتسوية النزاعات المحلية والمصالحة بين القبائل، ووقف إطلاق النار. كما ساعد مجلس حكماء سبها جنوبي ليبيا في التوصل إلى اتفاق سلام محلي في جنوب ليبيا في أبريل 2012. وعقب ذلك الاتفاق ظل مركز الحوار في المنطقة لمراقبة ما تم الاتفاق عليه، خاصة خلال 2013. كما سهل التوصل إلى اتفاق مصالحة بين قبيلتي أولاد سليمان والتبو في الجنوب الليبي في مايو 2013.
بموازاة ذلك، دعم المركز جهود وساطة الأمم المتحدة التي قادها من قبل المبعوث الأممي الأسبق “برناردنيو ليون” منذ سبتمبر 2014، حيث استضاف المركز في مقره بجنيف في يناير 2015 مجموعة من قادة الأحزاب والقوى القبلية من شرق وغرب ليبيا. أيضًا، ساعد في التوصل إلى هدنة إنسانية لإدخال المساعدات الإنسانية إلى بنغازي، أثناء عمليات الجيش الوطني الليبي لمكافحة الجماعات الإرهابية في شرقي ليبيا في عام 2016.
وفي إطار خطة المبعوث الأممي الحالي “غسان سلامة”، التي أُعلن عنها في سبتمبر 2017 لتسوية الأزمة الليبية، تلقى “مركز الحوار الإنساني” طلبًا رسميًّا من الأمم المتحدة يتعلق بتنظيم مسار تشاوري تمهيدًا آنذاك لعقد الملتقى الوطني الليبي، وهو ما عد دلالة على أهمية تلك المنظمة في مناطق النزاعات. إذ انعقدت جلسات ذلك المسار بدعم المركز في الفترة ما بين أبريل إلى يوليو 2018، حيث شملت 77 اجتماعًا في 43 بلدية في كل ربوع ليبيا والمهجر، كما تناولت قضايا من قبيل: الأمن والدفاع، وتوزيع السلطات والموارد، والمصالحة الوطنية، والعملية الدستورية والانتخابية.
2- النزاعات في الساحل الإفريقي
تحرك مركز الحوار الإنساني في عدة اتجاهات للتعامل مع العنف المتصاعد في المنطقة، خاصة: مالي، وبوركينافاسو، والنيجر، ونيجيريا، وتشاد، والكاميرون، والسنغال، وموريتانيا. على سبيل المثال، تم دعم الوساطة الجزائرية في أزمة شمال مالي خلال عام 2014، عبر تنظيم اجتماعات في واجادوجو ببوركينافاسو بين قادة جماعات المعارضة المسلحة من أجل تشجيع أطراف النزاع على بناء موقف موحد من عملية السلام. ونسق كذلك اجتماعًا للمجلس الأعلى لوحدة أزواد بتمويل جزئي من البعثة الأممية في شمال مالي. وقاد ذلك إلى مبادرتين، أولاهما: تتعلق بوقف إطلاق النار، وثانيتهما: بتنسيق المواقف التفاوضية في عملية السلام التي تقودها الجزائر. هاتان المبادرتان تم دمجهما في إعلان واجادوجو الذي حدّ نسبيًّا من الخلافات حول محادثات السلام، التي أسفرت في الأخير عن توقيع اتفاقية السلام في الجزائر في عام 2015.
في اتجاه آخر، دعم المركز اتفاقات السلام المحلية بين القبائل بسبب النزاع على الموارد بالتعاون مع السلطات المحلية في دول الساحل الإفريقي. فعلى غرار اتفاق السلام المحلي الذي وُقّع في سبتمبر 2019 بين مجتمعي الكانوري والفولاني في منطقة ديفا في النيجر لوضع حد للتوترات والعنف المتبادل بين المزارعين والرعاة؛ لعب مركز الحوار دورًا في اتفاق مماثل في المنطقة ذاتها بين قبائل الفولاني والمحاميد العربية في ديسمبر 2018. وتكرر النهج ذاته في مالي في أغسطس 2019 بين ممثلي قبائل الدوجون والفولاني والدافينج في منطقة موبتي بوسط مالي. وتعلق صلب الاتفاق بالحدّ من عمليات سرقة الماشية، وفتح الأسواق المحلية، ووقف العنف المتبادل.
وقد عبّرت هذه الاتفاقات المحلية عن محاولة المركز تفعيل الوساطة للحد من نزاعات الموارد بين المزارعين والرعاة التي تمثل قضية متصاعدة في الساحل الإفريقي، حيث كانت أحد أسباب العنف المتبادل بين الفولاني والدوجون في مالي، خلال النصف الأول من عام 2019. ويتفاقم الأمر مع ندرة الموارد والتصحر وانعدام الأمن، ودخول جماعات إرهابية مثل “داعش” على خط تغذية النزاع بين قبائل المنطقة المتنازعة على الموارد بالمنطقة.
وامتدت جهود مركز الحوار إلى نيجيريا، حيث ركز على الولايات التي تقع في نطاق العمليات العنيفة لجماعة بوكو حرام في شمال شرق نيجيريا، حيث تبرز أيضًا نزاعات الأراضي والصراعات بين الرعاة والمزارعين. وأسفرت جهود المركز في عام 2013 عن إعلان سلام يسمى kafanchan، ويضم 29 جماعة عرقية – دينية. وأسهم ذلك في تراجع العنف في ولاية بلاتو، وهو ما دفع الرئيس “محمد بخاري” للإشادة بجهود مركز الحوار الإنساني في تسهيل الوساطة والحوارات المحلية. كما تمددت أنشطة الحوار إلى ولاية بورنو في 2016، ولا سيما بعد أن استعاد الجيش النيجيري السيطرة على بعض المناطق في شمال شرق نيجيريا من بوكو حرام.
مداخل قوة المنظمة
إن هذه الأمثلة لأنشطة مركز الحوار في مجال تسوية النزاعات تظهر أننا إزاء فاعل دولي غير رسمي متغلغل في بنية النزاعات، لكن ذلك الدور المؤثر لم يكن ليبرز إلا مع وجود مداخل شكلت قوة المنظمة، والتي تمثل دروسًا لأي منظمة غير حكومية في منطقتنا ترغب في أن تصبح لها أدوار في مجال الدبلوماسية الخاصة.
1- السرية
يُشير مركز الحوار على موقعه الإلكتروني إلى أن إحدى نقاط قدرته على التأثير تكمن في أن أنشطة توسطه بين المتنازعين تجري في سياق من التكتم لتوفير وفتح قنوات خلفية للحوار بين أطراف النزاع. ويوفر ذلك الأمر كلفة سياسية محدودة لاستكشاف مواقف الأطراف المتبادلة في النزاع، قبل الشروع في اتفاقات وقف إطلاق النار أو تسوية النزاع، خاصة أنه يجنب المتنازعين معضلة الاعتراف بالشرعية، عند حوار الحكومات مع جماعات متمردة ترفع السلاح، بخلاف أن الدعاية والتركيز الإعلامي على وجود حوارات بين أطراف متقاتلة في منطقة النزاع قد يجهضها إذا ظهر ذلك في مرحلة مبكرة.
تلك السرية جعلت لذلك المركز قبولًا نسبيًّا من أطراف النزاع، وهو أمر يكاد يكون قاسمًا مشتركًا في معظم الوساطات والحوارات غير الرسمية التي يخوضها المركز في النزاعات، سواء في إفريقيا أو آسيا أو الشرق الأوسط. فعندما يتوصل المتنازعون لاتفاق سلام بعد فترة من الحوارات، يعلن مركز الحوار ذلك ضمن أنشطته وتقاريره الدورية. وفي حالات أخرى، قد يعلن المركز عن فتحه قنوات مع أطراف النزاع، دون الكشف عن فحواها، أو ما جرى فيها من وجهات نظر بين الأطراف المتنازعة.
2- قوة التشبيك
يملك مركز الحوار شبكة من العلاقات المؤثرة مع أطراف النزاع والقوى الإقليمية والدولية ذات المصلحة في مناطق النزاعات، والمنظمات الحكومية الدولية، مثل: الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، والإيجاد، والإيكاس، وغيرها. على سبيل المثال، عقد مركز الحوار مذكرة تعاون بينه وبين الاتحاد الإفريقي في عام 2016. ويسهل هذا التشبيك تفعيل المركز لدوره كوسيط يمكنه الوصول إلى صناع القرار من الأطراف المختلفة، بخلاف أن العديد من المسئولين الأمميين المنوط بهم تسوية الصراع لهم علاقات ارتباطية سابقة مع المركز. على سبيل المثال، فإن “غسان سلامة”، المبعوث الأممي في ليبيا، كان عضوًا في مجلس إدارة هذا المركز، كما أن الدبلوماسي البريطاني “مارتن جريفيث”، المبعوث الأممي في اليمن، عمل هو الآخر مديرًا لمركز الحوار الإنساني في الفترة ما بين عامي 1999 و2010.
وتزداد قوة التشبيك وضوحًا عند النظر إلى تأسيس مركز الحوار لمنتدى أوسلو في عام 2003، والذي يُعقد سنويًّا، ويلتقي فيه مسئولون حكوميون وكبار الوسطاء في النزاعات والخبراء وممثلون عن بعض أطراف النزاع، مثل “فيدريكا موجيرني” المنسق الأعلى للأمن والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، و”جون كيري” وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، و”كوفي عنان” الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وغيرهم.
3- القوة الفنية
يملك مركز الحوار من خلال مستشاريه ومجلس إدارته خبرات دبلوماسية وأكاديمية في مجال الوساطة وصنع السلام تُمكّنه من فهم ديناميات النزاع والتأثير في مساراتها. ففضلًا عن أن رئيس المركز الفخري هو “خافيير سولانا” المنسق الأعلى السابق للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، فإن رئيس مجلس إدارة المركز حاليًّا هو السفير “بيير فيمونت” الذي انضم له في عام 2015، وخدم من قبل في السلك الدبلوماسي الفرنسي لأكثر من ثلاثة عقود، كما عمل سفيرًا لبلاده في الولايات المتحدة ولدى الاتحاد الأوروبي. أضف إلى ذلك أن مجلس إدارة المركز يضم خبرات أكاديمية ودبلوماسية سابقة، مثل السفير السويسري السابق “ريموند لوريتان”، ووزير خارجية النرويج السابق “أيسبن بارث”، و”أميرة حق” الأمين العام المساعد السابق لبعثات السلام في الأمم المتحدة، و”جاكوب كلينبرج” الرئيس الأسبق للجنة الدولية للصليب الأحمر، وغيرهم.
4- قوة التمويل
مع تمدد مركز الحوار في مناطق النزاع، تعددت الجهات الممولة لأنشطته، إذ ارتفعت ميزانيته من 16.2 مليون فرنك سويسري في عام 2011 إلى 30.1 مليون فرنك سويسري سنويًّا في عام 2016. واستمر هذا المعدل للتمويل السنوي، حيث بلغ 31 مليون فرنك سويسري، وفقًا لتقرير المركز في عام 2018. ومن أبرز المانحين الدوليين للمركز: الاتحاد الأوروبي، وبعض الحكومات كالولايات المتحدة والنرويج ووهولندا وسويسرا والدنمارك والسويد والمملكة المتحدة، ومؤسسات خاصة مثل جورج سوروس، وصندوق الإخوة روكفلر، وصندوق دعم السلام الأمريكي، والمعهد الألماني للعلاقات الثقافية الخارجية، وغيرها. ويعكس هذا التطور التمويلي تصاعد أهمية مركز الحوار في مناطق النزاعات، فضلًا عن إيلاء القوى الغربية أهمية للمسارات غير الرسمية في تسوية هذه النزاعات، في ظل ما أُشير له سابقًا حول تعقدها، وتصاعد كلفة التدخلات الخارجية.
تحديات التأثير
لكن ممارسة مركز الحوار لأنشطة الدبلوماسية الخاصة في مناطق النزاعات لا يعني أن السلام قد حل، حيث يرتبط قياس تأثير أي منظمة غير حكومية بمدى قدرتها على تحقيق الأهداف المنوط بها، وهو أمر يواجه صعوبات في ظل تعدد العوامل والفواعل المؤثرة على إحلال عملية السلام. ويكون قياس ذلك التأثير إما على المدى القصير (إقامة اتصال بين المتنازعين وبناء قدرتهم التفاوضية ودفعهم للتوقيع على اتفاقات سلام) أو المدى الطويل (بناء السلام عبر تعزيز الاعتماد المتبادل بين المتنازعين واستقرار آليات سلمية لمنع عودة العنف)، وهو ما يستلزم مراقبة لسلوك أطراف النزاع لمدة طويلة للحكم على مدى تأثيراتها في اتجاه تحويل النزاع.
هنا، فإن ثمة تحديات تعترض تأثير مركز الحوار الإنساني في مناطق النزاعات، من قبيل: هشاشة وعدم صمود بعض اتفاقات السلام المحلي التي يتوسط فيها المركز، كما برز مثلًا مع تجدد النزاعات بين القبائل في جنوب ليبيا بعد الاتفاقات التي عقدها المركز، إضافة إلى أن الاجتماعات التشاورية التي عقدها المركز في ليبيا خلال عام 2018 لم تؤدِّ إلى عقد الملتقى الوطني الجامع الذي كانت تستهدفه الخطة الأممية في منتصف أبريل 2019، إذ نشبت معركة طرابلس في الرابع من هذا الشهر لتدخل عمليات التسوية برمتها في حالة جمود، وهو أمر يمكن إرجاعه إلى تفتت الفواعل في منطقة النزاع، وغياب ضامن أمني مركزي، بما يصعب صمود بعض اتفاقات السلام المحلية. وبالمثل أيضًا، فإن التوصل إلى اتفاق السلام في مالي في عام 2015، إثر جهود أممية وإقليمية وغير رسمية، لم يتبعه إحلال الاستقرار بالمنطقة، لأن هنالك عراقيل جعلته اتفاقًا هشًّا، من قبيل: تباطؤ تنفيذ الاتفاق، وعدم إدماج أطراف مسلحة لم تُوقّع عليه، بخلاف النزاع بين الحكومة وجماعات الطوارق حول بنود صلاحيات المناطق المحلية في إقليم أزواد.
على الجانب الآخر، فإن قدرة الوسيط غير الرسمي على إنفاذ اتفاقات السلام تبدو محدودة، إذا لم يرتبط بالمسار الرسمي، خاصة أن ذلك الوسيط قد تكون قدرته محدودة على استخدام الحوافز أو إلزام المتنازعين بالاتفاقات. ويلاحظ أن اتفاقات السلام المحلية التي رعاها مركز الحوار الإنساني في منطقة الساحل الإفريقي خلال عامي 2018 و2019، جاءت نِتاجًا لجهود مشتركة مع السلطات المحلية أو الأمم المتحدة.
أضف إلى ذلك تأثير تمويل الحكومات الغربية لأنشطة الدبلوماسية الخاصة، فمع ما يضمه مركز الحوار الإنساني من مسئولين سابقين لديهم القدرة على التواصل مع الحكومات الغربية للحصول على التمويل اللازم لأنشطتهم؛ فلا يمكن إغفال تأثيرات هذا التمويل ولو بشكل غير مباشر عبر توافق الأجندات في مناطق النزاع، لا سيما وأن الحكومات الممولة لها مصالح استراتيجية في المناطق التي يعمل فيها مركز الحوار الإنساني وغيره من منظمات الدبلوماسية الخاصة، كما الحال في مناطق النزاعات في ليبيا أو سوريا أو الساحل الإفريقي.
يبرز أيضًا تحدي تسييس جهود السلام والوساطة، حيث إن تدخّل منظمة غير حكومية على خط بناء السلام المحلي في منطقة نزاعٍ ما قد تنافسها فيه قوى حكومية أخرى تسعى لذات الهدف، ولكن عبر توظيفه في تحالفات صراعية وليس بناء السلام، ولعل حالة جنوب ليبيا تمثل مثالًا مهمًّا في هذا السياق، فبينما تدخلت منظمات (مثل: مركز الحوار، وجماعة سانت إيجيدو) لدعم اتفاقات سلام قبلية بالمنطقة، سعت دول أخرى -مثل قطر- لرعاية اتفاق سلام بين التبو والطوارق في أوباري جنوبي ليبيا في عام 2015، لكن بدا أن هدفها آنذاك بناء جبهة قبلية مضادة للجيش الوطني الليبي وحلفائه في شرق ليبيا، وهو الأمر الذي تعثر، خاصة أن الاتفاق لم يصمد كثيرًا.
دروس أساسية
برغم هذه التحديات التي تواجه إجمالًا منظمات الدبلوماسية الخاصة في النزاع، تظل هناك دروس عامة مستفادة بالنسبة لنزاعات الشرق الأوسط، ومن أبرزها:
1- أن السلام من أسفل وتكامله في الوقت نفسه مع جهود التسويات الرسمية التي تستهدف النخب السياسية والعسكرية في أعلى هرم النزاع بات يمثل أهمية قصوى في النزاعات المعقدة في الشرق الأوسط التي برزت فيها فواعل هوياتية وطائفية ومناطقية، فمن دون بناء توافقات مجتمعية محلية ستظل التسويات الرسمية هشة وقابلة للاختراق من مفسدي النزاعات، ولعل ذلك هو حال اتفاقات السلام سواء في ليبيا أو مالي، إذ يصعب إنفاذها وإدامة الاستقرار في ظل الكراهيات القبلية المتبادلة ونزاعات الموارد وغياب ضامن أمني، فضلًا عن الاستقطاب الإقليمي الحاد.
2- أن ثمة أهمية لدفع القوى الإقليمية الداعمة للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط وإفريقيا المجتمع المدني لبناء منظمة كبرى غير رسمية وعابرة للحدود تتوفر لها الموارد اللازمة والخبرات الدبلوماسية والأكاديمية في مناطق النزاع، كي تعمل كمنافس احترافي سلمي في مجال الوساطة والحوار، لا سيما وأن ترك الساحات المجتمعية للمنظمات الأجنبية الدولية قد يقزم من تأثير تلك القوى ومصالحها على المدى البعيد.3- أن تصاعد أهمية دور وسطاء الظل بمناطق النزاعات يدفع إلى أهمية إعادة النظر من قبل حكومات الشرق الأوسط في قيود البيئة التشريعية والسياسية التي تُعرقل أدوار منظمات المجتمع المدني في القضايا التي ترتبط بالمصالح والسياسات الخارجية للدول، وذلك لحثها على أنشطتها من المجال الخيري أو حتى الحقوقي أو التنموي إلى مجال واعد مثل الدبلوماسية الخاصة، والتي لا تزال مساهمة منطقتنا فيها غير مؤثرة وسط تصاعد المنافسة بين الدول الغربية على دعم وتمويل المنظمات العاملة في هذا المجال.