مثّلت ثورة يونيو 2013 لحظة كاشفة وفارقة بالنسبة لمصر، فارقة إذ أنقذت الدولة المصرية من براثن جماعة الإخوان التي لا تعترف بالدولة الوطنية ولا تراها إلا “حفنة من تراب عفن”، كما يقول مفكرو الجماعة وأقطابها بوضوح؛ ولحظة كاشفة لأنها كشفت توجهات العديد من الدول الإقليمية والدولية تجاه مصر، فظهر التأييد والدعم من بعض الدول، كما ظهر التربص والطمع من آخرين، فمن كان مستفيدًا من حالة الفوضى أو من حكم الجماعة لمصر ناصب مصر العداء بعد هذه الثورة. وعلى رأس قائمة المعادين لثورة يونيو وما تبعها من تطورات تقدم لمرحلة جديدة من عمر الدولة المصرية، يأتي النظام التركي ورئيسه “رجب طيب أردوغان”. وبعد مرور أكثر من ست سنوات على ثورة يونيو لم يتغير شيء في موقف تركيا، ولم تتوقف محاولاتها لزعزعة الأمن القومي المصري، ويظل السؤال: لماذا؟
لماذا يستهدف النظام التركي مصر؟
فَهْمُ هذا الاستهداف يستلزم العودة إلى عام 2002، حينما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا، وقت أن كانت نظامًا برلمانيًّا. هذه الحكومة كان لديها مشروع إقليمي لمد نفوذ تركيا في المنطقة العربية، استثمارًا لمرحلة فراغ القيادة الإقليمية وانغماس الدول العربية في قضاياها الداخلية وصراعاتها البينية. هذا المشروع التركي استهدف تعزيز مكانة تركيا لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية باستثمار نفوذها المتسع في المنطقة من جانب. كما مثلت المنطقة سوقًا واسعة ومفتوحة ومحدودة التنافسية أمام تركيا باقتصادها المتنوع والقوي في ذلك الحين.
وارتكز المشروع التركي على ثلاث ركائز؛ أولها: القوة الاقتصادية اعتمادًا على قوة الاقتصاد التركي وعلى محورية دور تركيا في مشروعات الطاقة التي تديرها الدول الكبرى لنقل الغاز من المنطقة العربية أو من منطقة بحر قزوين عبر تركيا، بما يعني أن تركيا كانت تخطط لأن تكون المركز الإقليمي لنقل الغاز إلى أوروبا، وهو ما يمثل إضافة لأهميتها الاستراتيجية إقليميًّا ودوليًّا. ثانيها: العلاقات التاريخية التي جعلت تركيا (الدولة العثمانية سابقًا) تحمل بعض ملامح الهوية العربية وإن كانت أكثر استعلائية. ثالثها: الإطار الأيديولوجي المرتكز على حكم الإسلام السياسي، رغم أن هذا الإطار لم يظهر بوضوح في السنوات الأولى من حكم “أردوغان”، لكنه تأكد بعد ثورة يونيو 2013.
وقد مر المشروع التركي بمرحلتين مختلفتين في السياسات التي اعتمدت عليها تركيا لتنفيذ هذا المشروع.
المرحلة الأولى- (2002-2013):
اتبعت تركيا خلال هذه المرحلة سياسة جديدة على المستويين الداخلي والخارجي. على المستوى الداخلي، اتبعت تركيا مجموعة من السياسات، تضمنت تطبيق سياسة اقتصادية إصلاحية جديدة، وإعادة تنظيم المحليات والاتحادات النقابية والطلابية، وإعادة هيكلة بعض مؤسسات الدولة انتهاء بالمؤسسة العسكرية. وعلى المستوى الخارجي اعتمدت تركيا مبدأ “تصفير النزاعات” مع دول المنطقة، وبدء مرحلة جديدة مع كافة دولها تقوم على التعاون والسلمية، مع الاتجاه الجاد للانضمام للاتحاد الأوروبي. ومع هذه السياسات كان للقوة الناعمة التركية دور في الترويج للنموذج التركي بين دول المنطقة، وكان للإعلام والدراما التركية، بما حملته من مضامين لا تتفق جميعها مع القيم والتقاليد العربية، مجال مفتوح على الشاشات العربية.
هذه السياسة حققت لتركيا “التمكين الداخلي” (وفقًا لفكر الإخوان)، والنفوذ الإقليمي. وفي إطار ما شهدته المنطقة من أحداث وتغيرات في سياق ما عُرف بـ”ثورات الربيع العربي”، تعاظمت فرص النظام التركي في تنفيذ مشروعه الإقليمي؛ على خلفية حالة السيولة السياسية في المنطقة، وانتشار الصراعات في عدة دول عربية، حيث وصل الإخوان للحكم في أكبر الدول العربية في عام 2012، واقترب احتواء مصر بهم، وارتضى الإخوان بالحاكم التركي خليفة للمسلمين، وظهرت بشائر خلافته للمسلمين واتجاهاته الإخوانية في زيارته للقاهرة عام 2011، حيث دعا مصر لاتباع “النموذج التركي” العلماني، وطالبه الاخوان في نفس اللقاء بدولة الخلافة. وانعقدت مقابلتان رسميتان بينه وبين “محمد مرسي” مرتين في السنة التي حكم فيها مصر، وعقد خلالها 27 اتفاقية مع مصر، أغلبها لم يكن محققًا لمصالح مشتركة أو متكافئة بين الدولتين!
المرحلة الثانية- (يونيو 2013 – حتى الآن):
لقد امتدت تداعيات ثورة يونيو إلى جهود إعادة بناء الدولة الوطنية وزيادة قدراتها، وهذه التداعيات لم تكن موضع قبول أو ترحيب من جانب تركيا، كونها أزاحت نظامًا حليفًا لها. بل امتدت هذه التداعيات لتشكل حجر عثرة أمام تقدم أو تحقق المشروع التركي السابق ذكره. ذلك أن الثورة قد أصابت ركائز المشروع التركي الثلاث السابق الإشارة إليها، مما اضطر النظام التركي لكشف نواياه الحقيقية وطبيعته الأيديولوجية المتشددة، وبالتالي غير من سياساته التي يعتمد عليها لتحقيق مشروعه في المنطقة، مما انعكس سلبًا على كافة طموحات “أردوغان” وتطلعاته الغربية والعربية أيضًا. وأصبح هدف النظام التركي هو إضعاف مصر وهدم مشروعها الوطني، لكي تُتاح له الفرصة مرة أخرى لتنفيذ مشروعه.
كيف أعاقت مصر المشروع التركي؟
ما يحدث في مصر بعد عام 2013 من إصلاح على المستوى الاقتصادي، ومحاربة ناجحة للإرهاب إلى حد كبير، يظهر عزم مصر على استعادة مكانتها الإقليمية، على نحو قد يحجم جاذبية “النموذج التركي”، ويجعل “النموذج المصري” الأكثر قبولًا، والأكثر تأثيرًا على المستوى الإقليمي. على ما يبدو لقد اعتبر النظام التركي أن هذه النجاحات المصرية تمثل هزيمة للمشروع التركي للهيمنة الإقليمية وضربًا لركائزه. وعلى المستوى الأيديولوجي، كان استمرار حكم جماعة الإخوان –منبع الفكر المتطرف– في مصر يعني استمرار المشروع التركي بخلافة “أردوغان” كخليفة للمسلمين ترتضيه الجماعة. وفي هذا أيضًا إحياء للخلافة العثمانية، وكاستدعاء للبعد التاريخي في العلاقات بين العرب والأتراك. وبالتالي كانت هزيمة الإخوان في معقلهم وموطن نشأتهم في مصر، ثم مطاردتهم في دول عربية أخرى، هزيمة للمنطلق الفكري لمشروع “أردوغان”. وهذا يفسر حرص “أردوغان” على دعم الإخوان، وتوفير الملاذ الآمن لقياداتهم في تركيا، ووجود التنظيم الدولي هناك، وتسخير المنابر الدبلوماسية والإعلامية من تركيا لهم للإساءة لمصر ونظامها والتحريض على العنف والشغب.
وعلى المستوى التاريخي، فإن استعادة مصر لقوتها يُمكّنها من استعادة قيادتها للمنطقة وصعوبة احتوائها، سواء منفردة أو بالتحالف مع دول عربية فاعلة ومؤثرة في المنطقة أيضًا، وهذا بلا شك يتعارض مع حلم الخلافة العثمانية الجديدة. وربما لا تنسى الذاكرة التاريخية لتركيا الهزيمة العسكرية التي ألحقتها مصر أثناء حكم “محمد علي باشا” بقوات السلطان العثماني “محمود الثاني” في حروب الشام الأولى (1831-1833)، حيث وصلت خلالها القوات المصرية لشرق الأناضول وكادت أن تسيطر على الأستانة لولا التدخل الأوروبي للحفاظ على رجل أوروبا المريض آنذاك! فمع بناء الدولة المصرية الحديثة أثناء حكم “محمد علي” ترسخ لدى تركيا وغيرها من الدول أن الدولة المصرية إذا قويت يمكنها تهديد مصالح ونفوذ الطامعين.
وعلى المستوى الاقتصادي، فإن استمرار الصراعات الإقليمية في المنطقة وتطوراتها المختلفة يعيق من استقرار الأوضاع الاقتصادية واستكمال مشروعات إمداد أوروبا بالغاز، وهذا -بالإضافة لعوامل أخرى- يحد من انفتاح الأسواق العربية أمام تركيا، ويضطرها للبحث عن أسواق بديلة في إفريقيا وفي آسيا، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن اكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط واستقرار الأوضاع الأمنية والاقتصادية في مصر يزيد من فرصها لتكون مركزًا إقليميًّا لتسييل الغاز الطبيعي وإمداد أوروبا به، تزامنًا مع تحفظ دول شرق المتوسط والدول الأوروبية على “التحرشات” العسكرية التركية بقبرص وسعيها لفرض وجودها كطرف فاعل في هذه المنطقة للاستفادة من هذه الاكتشافات.
ماذا يفعل النظام التركي لينفذ مشروعه؟
إن التطورات التي مرت بالمنطقة منذ عام 2013، سواء في مصر أو في دول عربية أخرى كسوريا والعراق، أدى إلى تراجع معدلات “الرشادة” في السياسات التركية، وتحولت هذه السياسات جذريًّا عن المرحلة الأولى من المشروع التركي، كما سبق. واعتمدت تركيا استراتيجية جديدة تجاه مصر هادفة إلى “شد أطراف الدولة المصرية” بمعنى إثارة التوتر ونشر التهديدات الأمنية في المجال الحيوي لمصر. بالإضافة إلى اعتمادها سياسة التدخل العسكري المباشر في الصراع في سوريا، وفي العراق في بعض المراحل، وذلك بهدف فرض واقع جديد يمكنها من اللحاق بالمشروع الإقليمي لها أو تحقيق جزء منه. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى ما تتبعه تركيا من إجراءات لتتريك الشمال السوري وتغيير تركيبته الديموغرافية.
رعاية الإرهاب هو سلاح النظام التركي تجاه مصر
تعتمد تركيا تجاه مصر استراتيجية تقوم على نشر الإرهاب حول مصر، أو داخل مصر إذا استطاعت. وكان احتواء الإخوان هو البداية في هذا الدعم، لكنها تستخدم الجماعات الإرهابية الأخرى من “القاعدة” و”داعش” لتحقيق أهدافها. وهناك العديد من الوقائع والوثائق التي نشرت لتوضح هذا الاستخدام وهذه الرعاية التركية للتنظيمات الإرهابية، منها على سبيل المثال وليس الحصر: ما قاله اللواء “أحمد المسماري”، المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي: “إن تركيا دخلت بشكل مباشر مع معركة طرابلس، وإنها تمد الميليشيات الإرهابية في طرابلس بالطائرات المسيرة، وإن الأتراك يستخدمون مطارات وموانئ ليبيا لتهريب الأسلحة إلى الميليشيات الإرهابية”. كما أوضح أن سفنًا تركية تقدم الدعم المعلوماتي واللوجستي للجماعات الإرهابية في ليبيا. وفي السياق ذاته، نُشر تحقيق أجرته إحدى الوكالات الإخبارية الأمريكية في شهر أغسطس الماضي كشف عن ضلوع تركيا في إنشاء وتمويل خلايا “القاعدة” و”داعش” في سوريا. واستند هذا التحقيق في بعض أجزائه إلى تصريحات قائد الشرطة التركي السابق “أحمد يايله” الذي استقال احتجاجًا على تمويل تركيا لداعش، وتهريب الدواعش إلى داخل سوريا وشراء النفط منهم بمئات الملايين، والتي قال فيها: “إن أردوغان يرى أن دعمه للجماعات الإرهابية سيقوده في النهاية إلى سيطرته على سوريا”. كذلك نشرت مجلة “دير شبيجل” الألمانية اعتراف بعض المعتقلين من “داعش” لدى السلطات السورية بأنهم تلقوا العلاج والمستلزمات المعيشية لأعضاء التنظيم من تركيا.
إن التأكيد على رعاية تركيا للإرهاب يكتسب المزيد من المصداقية حينما يأتي هذا من الأتراك أنفسهم، فقد تقدم بعض المعارضين للنظام التركي بخطاب مفتوح للأمين العام للأمم المتحدة يستغيثون بالمنظمة من انتهاكات نظام “أردوغان” لكافة المواثيق الدولية المناهضة للإرهاب، حيث أبرزوا انتهاكاته لحقوق الإنسان السياسية والمدنية في تركيا. وإذا كان هذا الخطاب مُسيسًا في وجهة نظر البعض، فإن الأوضاع العامة داخل تركيا تشير إلى أن النظام الحاكم هناك يعاني من أزمات وتحديات جسيمة بعد أن نجح في الإساءة إلى الدولة التركية وتشويه صورتها الخارجية بما يتخذه من سياسات لا تخلو من الرعونة، بدءًا من استغلال أوضاع اللاجئين السوريين وانتهاكات حقوقهم الإنسانية وابتزاز أوروبا بهم، إلى التدخل السافر في سوريا والإفراط في العنف ضد الأكراد، والانتهاكات الداخلية في حق مواطنيه، والبذخ في الإنفاق الحكومي رغم تراجع قوة الاقتصاد التركي (وفقًا لمعهد الإحصاء التركي هناك انخفاض في قيمة الليرة التركية بنسبة 30%، وارتفاع معدل البطالة إلى 13%، فضلًا عن انخفاض معدل النمو الاقتصادي من 3.2% إلى 1.6% خلال العامين الأخيرين).
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل يظل المجتمع الدولي منصرفًا عن سياسات النظام التركي ورعايته للإرهاب وانتهاكاته لحقوق الإنسان داخل تركيا وخارجها؟