لم ينتهِ ما سمي الربيع العربي بعد، ما زالت آلياته وتناقضاته تفرز تفاعلات تعطي الانطباع أن لا شيء يتغير، وأنه ما أشبه الليلة بالبارحة. صحيح أن بعض المشاهد قد تكون متشابهة، أو أن بعض الوجوه تماثل وجوهاً مثلها شاهدناها، الأمر يبدو كما لو كان فيلماً سينمائياً رأيناه من قبل بكل ما فيه من إثارة، وكل ما يحتويه من سخف. استخدامات أدوات التواصل الاجتماعي كما هي، وربما أكثر كثافة، والدعوة للتظاهر «السلمي»، كما جرت، تغطية لأحجار ومولوتوف وقنابل، والشباب و«ألتراس» في الواجهة، ولكن التنظيم والإمداد والتموين والمال من جماعة «الإخوان المسلمين».
ظنت الجماعة أن في دعوة «الممثل والمقاول» للفوضى القائمة على الإطاحة المستمرة بقيادات الدولة يمكنها أن تكون بداية لحالة من العنف يجد التنظيم مجالاً فيها. جرت التعبئة على حلقات، حلقة شنها التنظيم من خلال قنواته ومواقعه التركية والقطرية والإنجليزية على مدار الساعة؛ وأعقبتها حلقة أخرى قامت فيها قناة «الجزيرة» بالتغطية والتضخيم؛ وفي الحلقة الثالثة جرى إطلاق جماعة «الأوباش» التي ترفع سقوف الوقاحة والاتهامات التي لا يساندها تحقيق أو وثيقة؛ أما في الحلقة الرابعة فكانت للحشد العام والتعبئة لتوليد أكبر كمية من الغضب لعله يكون ناراً وحريقاً. هل كان كل ذلك مدبراً ومخططاً أم لا؟ ليس هو القضية، المؤكد أنه كان هناك استعداد وظن بوجود فرصة دفع «الإخوان» إلى استغلالها بعد يأس من طول المقام في المنفى، ومشاهد أن مصر ربما تخرج أخيراً من الرمال الساخنة لربيعها الملعون إلى ساحة إصلاحية للبناء القومي خرجت منها زهور لا يمكن تجاهلها.
والحقيقة هي أن الليلة ليست شبيهة بالبارحة، لأن السنوات الست الماضية منذ 30 يونيو (حزيران) 2013 أخرجت مصر من عين الطوفان، ولم تكن إطاحة حكم «الإخوان» فقط علامة تاريخية للخروج إلى العالم المتقدم، وإنما كان عودة كاملة للدولة الوطنية المصرية لكي تحقق قدرها في صفوف الدول المتقدمة. داخلياً باتت مصر دولة مستقرة، وسياسياً وضعت الأسس للتقدم الاقتصادي والاجتماعي من خلال «رؤية 2030»، وخارجياً مارست سياسة حصيفة ومعتدلة تقوم على التعاون والشراكة والحفاظ على توجهات ثابتة. وخلال 6 سنوات تغيرت مصر من خلال محركات تجعلها الآن تختلف عما كان في السابق ويصر «الإخوان» أنه لا يزال على حاله.
المحرك الأول هو تغيير الخريطة أو الجغرافيا التنموية المصرية من التمحور حول نهر النيل الذي اعتمدت مصر عليه لآلاف السنين إلى البحار الواسعة المحيطة بالدولة ماء وضفافاً. هذا الانتقال من «النهر إلى البحر» بالطرق والأنفاق والتصنيع والمدن الجديدة خلق البراح اللازم للتعامل مع عشرات الملايين من المصريين، والتعامل مع موارد إضافية لم يعد النهر «الخالد» قادراً على مد مصر بها. مثل هذا الحراك فرض ثقافات للعمل والإنتاج والتعامل بين المصريين، وبينهم والآخرين، تختلف عما تعودت مصر عليه لآلاف السنين. العمران المصري لم يعد قانعاً بالبقاء في حدود 7 في المائة من مساحة مصر، وإنما يمتد ليتجاوز ذلك بمسافات شاسعة. حدث بالفعل اختراق الأراضي المصرية من سيناء إلى الصحراء الغربية، ومن البحر المتوسط إلى خط عرض 22 حيث حلايب وشلاتين على البحر الأحمر في عملية منظمة لتحقيق ارتباط البلاد بعضها ببعض.
المحرك الثاني فحواه «إدارة الثروة وليس إدارة الفقر» فقد درجت الدولة المصرية خلال العقود الماضية على سياسات اقتصادية تمنع التراكم الرأسمالي، وتركز على محاولة حماية الفقراء بتقديم الطعام المدعوم، والطاقة المدعومة، والتعليم المجاني والصحة المجانية، والوظيفة الحكومية، وهكذا أمور، حتى نضبت قدرة الدولة على القيام بالواجب، فزاد عدد الفقراء، واشتد فقرهم، وقل تعليمهم وصحتهم. كان ذلك هو تجربة مصر، أما تجربة الدول النامية الأخرى، فكانت تبحث عن «الثروة» في تعظيم مزاياها التنافسية في السلع والبضائع والخدمات والتكنولوجيا. وكان ذلك ما فعلته مصر ونجحت فيه من خلال برنامج إصلاح اقتصادي واسع فتح باباً واسعاً للاستثمارات الصناعية والزراعية والسياحية. المحرك الثالث يقوم على ما جرى اكتشافه في جميع الدول التي كانت نامية وتقدمت، فنجد أنها توقفت عن سياسات «الإحلال محل الواردات» واندفعت في اتجاه المحرك الرابع، وهو التنمية من أجل التصدير وكانت النتيجة ما نشاهده من زيادة في الصادرات المصرية، وإقبال على الاستثمار، وزيادة في تحويلات العاملين المصريين في الخارج. المحرك الخامس يقوم على العناية «بالسوفت وير» الذي يكفل التشغيل والفاعلية. ويضم التعليم والصحة والثقافة، وجميعهم يصبون من زوايا مختلفة في «الحداثة»، ليس فيما يتعلق ببناء الدولة الحديثة والمجتمع العصري، وإنما من خلال «التفكير الحداثي» و«المعاصر» في النظرة إلى الإنسان، والآخر، والجمال، والمنافسة، والابتكار، والإبداع. إن عناصر القوة المصرية ليست «صلبة» فقط من القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية، ولكنها ناعمة أيضاً، متمثلة في تاريخها وجغرافيتا وفكرها وإعلامها وفنونها وأدبها ومتاحفها، كل هذه الذي لا يماثله وجود في دول المنطقة الأخرى، يحتاج إلى التحفيز والدعم والاستخدام السياسي والاقتصادي.
المحرك السادس هو القيام بثورة تشريعية كبرى تقوم على اتباع القواعد الدولية المتعارف عليها بين الدول المتقدمة والدول الآخذة في عمليات التنمية والتقدم. المحرك السابع هو أحد الأعمدة المهمة للسير في اتجاه الحداثة، وهو «تجديد الفكر الديني» الذي بات واحداً من أهم ملامح عهد ما بعد 30 يونيو حيث لم يحدث ما يماثلها منذ قيام ثورة 1952، وفيما قبلها كانت هناك معارك ثقافية حول كتب حاولت المحاولة، ولكن الواقع كان يقود إلى كثير من السلفية وفكر «الإخوان المسلمين».
المحرك الثامن هو نتيجة منطقية للفكر الحداثي الذي يؤدي إلى قدرة المجتمع على احتواء ومشاركة جميع الجماعات الموجودة فيه، وهو ما حدث للمرأة والمسيحيين وجميع الجماعات المتميزة في المجتمع، على طاولة المشاركة السياسية والفكرية للدولة. المحرك التاسع يعيد تركيب الخريطة الإدارية المصرية من جديد، فإذا كانت مصر سوف تنتشر من النهر إلى البحر، وتخترق مساحاتها الشاسعة بحيث تتصاعد حجم المساحة المأهولة سكانياً منها، فإن الخريطة الحالية للمحافظات المصرية لن تكون مناسبة. والأهم من ذلك فإن علاقتها الراهنة بالسلطة المركزية لم تعد قادرة على مسايرة الأهداف الطموحة للتنمية المصرية. نتيجة ذلك كله فإن «محرك اللامركزية» و«الحكم المحلي» بات ضرورة لتكثيف حركة الاستثمار وتعبئة الموارد المحلية والقومية.
السنوات الست الماضية مع هذه المحركات التي تأخذ طريقها إلى العام 2030 وتترك مصر مع بداية العقد الثالث من القرن العشرين مختلفة عما كانت عليه قبل عقد مضى.
المفاجأة التي سيواجهها «الإخوان» ومناصروهم أن مصر التي يريدون تخريبها ليست هي التي خربوها من قبل، وإنما دولة قوية وعفية تتقدم كل يوم عن سابقه، وفق كل المؤشرات الكلية والجزئية للمؤسسات الدولية. نعم، أمام مصر طريق طويل تسير فيه، ولكنها لم تعد مصر التي كانت في يناير (كانون الثاني) 2011 ووجدها «الإخوان» لقمة سائغة.
*نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”، نشر بتاريخ ٢ أكتوبر ٢٠١٩.