تعد النيجر واحدة من الدول المهمة في إقليم الساحل الإفريقي والتي انخرطت بقوة خلال السنوات الأخيرة في جهود مكافحة الإرهاب في بؤرتي تمركزه في حوض بحيرة تشاد وفي مالي المجاورة. وتقليديًّا، مثّلت النيجر ساحة للنفوذ الفرنسي كغيرها من المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب إفريقيا؛ إلا أن العديد من المؤشرات كشفت مؤخرًا عن تنامٍ كبيرٍ في الاهتمام الأمريكي بالنيجر على وجه الخصوص. فقد اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية من النيجر نقطة حصينة لمنع تدفق المسلحين والأسلحة عبر الصحراء الكبرى، واحتواء ومنع نشاط الحركات الإرهابية.
أولًا: دوافع الاهتمام الأمريكي بالنيجر
بدأ التقارب الأمريكي مع النيجر في التنامي منذ إطلاق إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج بوش” الابن حربه على الإرهاب، والتي سعى فيها للحصول على تأييد عدد من حكومات الدول الإفريقية ذات الغالبية السكانية المسلمة لإكساب العمليات الأمريكية في القارة الإفريقية المزيد من الشرعية. وخلال سنوات حكم الرئيس أوباما تصاعد الاهتمام الأمريكي بالنيجر من خلال إرسال قوات أمريكية خاصة لتدريب ومساعدة الشركاء المحليين لمواجهة تنظيمي “القاعدة” و”داعش”.
كما كانت النيجر دولة رئيسية في تنفيذ مبادرة حوكمة الأمن Security Governance Initiative التي أطلقتها إدارة أوباما في قمة الولايات المتحدة وإفريقيا في أغسطس 2014، والتي تستهدف تحسين إدارة قطاع الأمن والقدرة على مواجهة التهديدات من خلال برنامج لبناء القدرات على المدى الطويل. وعلى الرغم من تعدد مظاهر الانسحاب الأمريكي من الاشتباك المباشر في جهود مكافحة الإرهاب في إفريقيا منذ تولي الرئيس دونالد ترامب السلطة عام 2017؛ مثلت النيجر حالة استثنائية بما شهدته من تصاعد لمظاهر الاهتمام الأمريكي بأبعاده المختلفة.
وتتعدد دوافع الولايات المتحدة حاليًّا لمنح النيجر مكانة أكثر أهمية في السياسات الأمريكية تجاه إقليم الساحل، والتي تتمثل فيما يلي:
1- الموقع الجغرافي المهم للنيجر، ومشاركتها للحدود مع مالي والجزائر وليبيا ونيجيريا وتشاد، حيث تَمر طرق النقل والتجارة الرئيسية التي تربط بين إفريقيا جنوب الصحراء وشمال إفريقيا عبر النيجر.
2- المحيط الإقليمي المضطرب للنيجر، من خلال ما تشهده ليبيا على حدودها الشمالية من حرب أهلية ممتدة، بجانب نشاط بوكو حرام في نيجيريا التي لا تفصلها عن النيجر سوى بحيرة تشاد، بالإضافة إلى نشاط التنظيمات الإرهابية في شمال ووسط مالي، ونشاط مجموعات الجريمة المنظمة والمتمردين في شمال تشاد.
3- القدرات المتقدمة نسبيًّا لجيش النيجر، بما له من خبرات طويلة في تقديم الدعم للجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، والذي يدعمه التزام سياسي كبير، إذ تخصص حكومة النيجر حوالي 21% من ميزانيتها السنوية للدفاع، وهو ما ساهم في تطوير البنية المؤسسية الأمنية بدرجة كبيرة تقوم على التخصص، وهو ما تمثل في تأسيس الوكالة الوطنية لمكافحة التهريب على سبيل المثال.
4- الأهمية الكبيرة لتأمين مناجم اليورانيوم في النيجر من الأخطار المتعددة، حيث تشكل صادرات اليورانيوم حوالي ٧٢٪ من حصيلة صادرات النيجر.
ثانيًا: المسار المتصاعد للاهتمام الأمريكي بالنيجر في مجال مكافحة الإرهاب
في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 قامت الولايات المتحدة بنقل جزء من أنشطة مُكافحة الإرهاب إلى قلب القارة الإفريقية، والتي كانت النيجر واحدة من مراكز استقبال الوجود الأمريكي الجديد. وبعد نحو عقد من الزمن، تفجرت الأوضاع في مالي لتشكل ضغطًا كبيرًا على النيجر في ظل نشاط المتمردين في شمال مالي على الحدود بين البلدين. وفي مواجهة هذه الأوضاع أعلن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إيفاد 40 عسكريًّا أمريكيًّا إضافيًّا إلى النيجر ليصل العدد الإجمالي للقوات الأمريكية هناك في تلك الفترة إلى 100 عسكري، كانت مهمتهم الأساسية تأمين الساحل الإفريقي وذلك بمساعدة الشركاء المحليين والدوليين من خلال جمع المعلومات الاستخباراتية وتبادلها مع مختلف الشركاء.
ومنذ عام 2013 تقوم القوات الخاصة الأمريكية لسلاح المشاة المعروفة باسم “القبعات الخضراء” بدور مهم في تدريب القوات الخاصة التابعة للقوات المسلحة في النيجر، فضلًّا عن تقديم خدمات استشارية مهمة في مجال مكافحة الإرهاب. وقد قدمت القوات الأمريكية مساعدات قيمة للنيجر في مواجهة الجماعات الجهادية في مناطق “أوالام” بالقرب من مالي، و”أغلال” بالقرب من الجزائر، و”ديركو” في شمال شرق البلاد بالقرب من الحدود مع ليبيا، و”ديفا” في أقصى الجنوب الشرقي على الحدود مع نيجيريا.
وبعد وصول الرئيس ترامب للسلطة، شددت وثيقة السياسة الخارجية الأمريكية التي نُشرت في يناير 2017 على أهمية تقديم التدريب لقوات مكافحة الإرهاب في الدول الحليفة بدلًا من القتال بالنيابة عنها. ومن ثم، استمر عمل القوات الأمريكية مع النيجر من أجل تحسين قدرة أجهزتها الأمنية على مكافحة الإرهاب، والاتجار غير المشروع بالبشر، وتهريب الأسلحة. لكن هذا التوجه لا يعني إنهاء العمل الأمريكي المباشر في مكافحة الإرهاب في النيجر. فعلى الأرض، وقّعت الولايات المتحدة والنيجر في نوفمبر عام 2017 مذكرة تفاهم تَمنح البنتاجون إذنًا بانطلاق الطائرات المسلحة من المنشآت العسكرية التابعة للقوات المسلحة النيجري، وذلك لدعم عمليات مكافحة الإرهاب.
كما شهد عام 2018 بداية الاعتماد الأمريكي على القاعدة الجوية 201 في أغاديز في شمال النيجر، والتي تعد القاعدة الأمريكية الثانية في الحجم في إفريقيا بعد القاعدة الأمريكية في جيبوتي. وتعتمد الولايات المتحدة على قاعدتها في أغاديز في تشغيل أسرابها من الطائرات المسيرة من طرازات متعددة، والتي تمثل ركنًا أساسيًّا في عمليات جمع المعلومات، وكذلك مكافحة الإرهاب، إذ تنص الاتفاقية الموقّعة بين واشنطن ونيامي على إمكانية تسليح الطائرات الأمريكية المسيرة في حالة الضرورة بعد الحصول على الضوء الأخضر من حكومة النيجر، وذلك لمواجهة التنظيمات الإرهابية مثل بوكو حرام والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
ووفقًا لبيان صادر عن القوات الجوية التابعة للقيادة العسكرية الأمريكية بإفريقيا (أفريكوم) فى الأول من أغسطس 2019، أكملت الولايات المتحدة العديد من مشاريع البناء الكبرى في القاعدة الجوية 201 لتشمل مدرجًا وأجزاء كبيرة من البنية التحتية، وذلك بعد الحصول على تصاريح عمل من كل من هيئة الطيران المدني بالنيجر، والقوات الجوية النيجرية، والقوات الجوية الأمريكية، الأمر الذي أذن بدخول القاعدة مجال التشغيل الكامل.
ولم يقتصر الدعم العسكري الأمريكي للنيجر على التدريب والنشاط المباشر من خلال قاعدة أغاديز، بل ساهمت الولايات المتحدة بقوة خلال عام 2019 في العديد من مشروعات بناء القدرات للقوات المسلحة النيجرية في مجال مكافحة الإرهاب. ففي الرابع من فبراير سلمت الولايات المتحدة لجيش النيجر المبنى الجديد لمركز قيادة التحكم والتخطيط والرقابة على عمليات مكافحة الإرهاب، والذي تم تجهيزه بتكلفة تجاوزت 16 مليون دولار بما يضمه من مراكز لإدارة العمليات التكتيكية وشبكة اتصالات متقدمة. وفي السادس من يونيو سلمت الولايات المتحدة الدفعة الأولى من المعدات العسكرية إلى النيجر في إطار تعهدها بتقديم معدات عسكرية بقيمة 21 مليون دولار للنيجر. وقد شملت الدفعة الأولى عددًا من مركبات نقل الوقود والمياه وأنظمة الملاحة التي تعمل بنظام GPS، إلى جانب العربات المدرعة ومعدات الاتصالات والحماية الشخصية.
ثالثًا: الأبعاد المختلفة للاهتمام الأمريكي بالنيجر
لم يكن مجال مكافحة الإرهاب هو المجال الوحيد لتنامي الاهتمام الأمريكي بالنيجر، حيث شهدت السنوات الأخيرة تصاعد التعاون بين الجانبين في مجالات عدة أبرزها:
1- تقديم مساعدات مهمة للنيجر في مجالات تحسين الأمن الغذائي، وتعزيز خدمات الصحة الإنجابية وصحة الأم والطفل، ودعم المؤسسات الزراعية المنتجة، وتعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد، ودعم إصلاح قطاع السجون والعدالة الجنائية.
2- ضم النيجر لمشروع حوار العدالة والأمن الذي يهدف إلى زيادة التواصل والتعاون بين الشرطة والدرك والمجتمع بالنيجر، والذي ينفذه ـمعهد السلام الأمريكي من خلال القيام بسلسلة من ورش العمل بالتعاون مع وزارة الداخلية بالنيجر لوضع استراتيجية عمل للأمن الوطني القائم على بناء الروابط المباشرة مع المجتمع.
3- دخول النيجر في مجال نشاط مؤسسة تحدي الألفية Millennium Challenge Corporation (MCC) وذلك منذ عام 2018. وتستهدف المؤسسة تعزيز القطاع الزراعي في النيجر من خلال تحسين وتوفير المياه، والطرق، وتيسير الوصول إلى الأسواق، وتبلغ قيمة الدعم الأمريكي المقدم للنيجر في إطار نشاط المؤسسة 437 مليون دولار.
4- منح الولايات المتحدة صادرات النيجر مزايا تفضيلية بموجب قانون النمو والفرص في إفريقيا African Growth and Opportunity Act (AGOA الصادر عام 2000. ويأتي خام اليورانيوم في مقدمة صادرات النيجر المتمتعة بمعاملة تفضيلية. بالإضافة إلى تمتع النيجر بمزايا اتفاقية التجارة والاستثمار التي وقعتها الولايات المتحدة مع الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، والتي عززها توقيع اتفاقية ثنائية لتعزيز الاستثمار بين الولايات المتحدة والنيجر.
من كل ما سبق، تسهم الدوافع الأمريكية المتعددة في الاهتمام بالنيجر، وكذلك التطور الكبير الذي شهدته العلاقة بين البلدين في العقد الأخير، في فتح آفاق جديدة أمام تطوير العلاقة بين البلدين، سواء في مجال مكافحة الإرهاب أو غيره من المجالات، الأمر الذي ستنعكس آثاره بقوة على الحسابات الأمنية والسياسية لمختلف الأطراف المنخرطة في مكافحة الإرهاب في الساحل الإفريقي، سواء من دول الإقليم أو القوى الدولية الناشطة على هذه الساحة المهمة في القارة الإفريقية.