اقترحت إدارة ترامب، في 21 أغسطس الماضي، تغييرات على اتفاقية تسوية فلوريس Flores Settlement Agreement التي تضع حدًّا أقصى 20 يومًا لاحتجاز الأطفال. واستهدفت التغييرات السماح باحتجاز الأسر المهاجرة التي ليست لديها وثائق إلى أجلٍ غير مسمى. ويأتي المقترح كحلقة جديدة ضمن سلسلة التحركات التي تنتهجها الإدارة الأمريكية لمناهضة الهجرة، وبالأخص الهجرة غير الشرعية أو غير القانونية، والحد منها بالاعتماد على الإجراءات المشددة مثل: “فصل الأبناء عن الآباء”، ووضع المهاجرين في “نقاط اعتقال على الحدود”. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية في عام 2020 أُثير تساؤل حول ما إذا كان الرئيس ترامب سيتجه نحو التشدد في هذا المجال أو تبنِّي قدرٍ من المرونة؟
ملامح نظام الهجرة بالولايات المتحدة
اتبعت الولايات المتحدة لسنوات طويلة سياسات تشجع على الهجرة، انطلاقًا من كون الولايات المتحدة دولة مهاجرين. ويمكن القول بشكل عام، إن الإطار القانوني للهجرة إلى الولايات المتحدة يضع طريقتين لتقنين الإقامة. الطريقة الأولى، هي الإقامة الدائمة، التي ترتبط بأربعة أشكال رئيسية، هي: قرعة الجرين كارد “التنوع”، و”لم الشمل” أو الإقامة لصلات عائلية، واللجوء، وأخيرًا الإقامة الدائمة للعمل. الطريقة الثانية، هي “الإقامة المؤقتة”، وترتبط بشكل أساسي بالتعليم والتدريب والعمل من جانب، في حين ترتبط الإقامة المؤقتة للمهاجرين غير الشرعيين بشكلين رئيسيين من جانب آخر، كبرنامج “الحماية المؤقتة” الذي يتم توفيره للأشخاص الذين يتعرضون للخطر في بلدانهم الأم بسبب الكوارث الطبيعية والبيئية أو العنف والحروب، وبرنامج “داكا” أو ما يُعرف بـــ”الإجراء المؤجل” الخاص بحماية الأطفال الذين تسللوا للدراسة أو العمل بالولايات المتحدة.
وفيما يتعلق بتقنين اللجوء، ينص قانون الهجرة والجنسية لعام 1965 على أنه يجوز لأي أجنبي يصل إلى الولايات المتحدة التقدم بطلب للجوء. وفي عام 1951، وقّعت الولايات المتحدة على معاهدة للأمم المتحدة تنص على “عدم معاقبة اللاجئين بسبب دخولهم غير القانوني”، لأن الحالات القصوى “تتطلب أحيانًا من اللاجئين انتهاك قواعد الهجرة”.
إجراءات “ترامب” المناهِضَة للهجرة
تبنّى الرئيس ترامب منذ الشروع في حملته الانتخابية الأولى في عام 2016 خطابًا شدد على رفض ومناهضة الهجرة. وبعد وصوله إلى سدة الحكم عمل على تشديد الإجراءات من أجل تضييق الخناق على الهجرة والحد منها، انطلاقًا من الرفض التام للهجرة غير الشرعية وتغيير قواعدها بما يتناسب مع مقضيات الوضع في الولايات المتحدة. وفي خطابه عن حالة الاتحاد لعام 2017، أنشأ ترامب ما يُعرف بوثيقة ضحايا جرائم الهجرة the Victims of Immigration Crime Engagement. وفي 22 يونيو 2017، طلب ترامب من الكونجرس منع المهاجرين من الحصول على الرعاية الاجتماعية خلال السنوات الخمس الأولى لهم في البلاد. وفي الأول من نوفمبر 2017، قرر ترامب إلغاء قرعة “جرين كارد” كوسيلة للحصول على تأشيرات الولايات المتحدة. كما سعى إلى إلغاء برنامج “داكا” الخاص بالأطفال، إلا أن محكمة المقاطعة الأمريكية في سان فرانسيسكو أصدرت في 5 مارس 2018 أمرًا أوّليًّا ضد محاولة ترامب إنهاء هذا البرنامج. وفي المقابل، طلب ترامب من الكونجرس إنشاء برنامج بديل.
وفي السياق ذاته، سعى ترامب مع مستهل عام 2019 إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات التي بدأت بتعقيد إجراءات اللجوء. ففي يناير 2019، أمر ترامب بإعادة طالبي اللجوء إلى المكسيك إلى حين البت في طلباتهم. وتطور الأمر إلى التفكير في دعوة كل طالبي اللجوء إلى تقديم طلباتهم قبل الوصول إلى الولايات المتحدة من خلال الانتظار في أي دولة أخرى. وفي 30 أبريل 2019، اقترح ترامب أن يدفع طالبو اللجوء رسوم الطلب وأن يُحرموا من تصاريح العمل.
ومن بين أهم الإجراءات في قضية المهاجرين “خطة مايو 2019″ التي تُعطي الأولوية لأصحاب المستوى المادي المرتفع، والمتعلمين، وأصحاب المهارات المتقدمة، من متحدثى الإنجليزية بطلاقة. كما تهدف هذه الإجراءات إلى حصر الإقامات الخاصة بــــ”لم الشمل” على القرابة من الدرجة الأولى، بجانب إلغاء قرعة “جرين كارد”، وخفض عدد اللاجئين الذين يمكن قبولهم في الولايات المتحدة من السقف السابق البالغ 110 آلاف إلى 50 ألفًا لعام 2017. وفي عام 2018، خفضت الإدارة العدد إلى 45 ألفًا. وفي 12 أغسطس 2019، وضعت إدارة ترامب معايير أكثر صرامة لمقدمي الطلبات الخضراء، بهدف التخلص من أولئك الذين يستخدمون أو قد يحتاجون إلى الخدمات العامة مثل المعونة الطبية أو قسائم الطعام أو مساعدات الإسكان.
وفي السياق ذاته، اعتمدت إدارة ترامب على محاكم الهجرة لزيادة عمليات الترحيل، كما عملت على إعادة فتح ملفات آلاف حالات الترحيل التي كانت مغلقة من قبل. كما سعت إلى وضع خطط جديدة لتجاوز محاكم الهجرة تمامًا، من خلال “الإجلاء العاجل” لترحيل المهاجرين غير الشرعيين الذين لا يستطيعون إثبات أنهم عاشوا بشكل مستمر في الولايات المتحدة لمدة عامين أو أكثر، مع الحرمان بشكل أساسي من حقوقهم في الإجراءات القانونية الواجبة. وكذا اتجهت نحو زيادة تكلفة الهجرة من خلال مقترح لعام 2020 حول “رسوم خدمات الهجرة”، وهي زيادة تقدر بنحو 10% في رسوم إيداع طلبات الهجرة.
تأثيرات وعواقب مزدوجة
حملت تحركات إدارة ترامب تأثيرات وعواقب مزدوجة، بين الإيجابيات التي يشدد ترامب على أنها ستتحقق كليةً بمجرد إتمام سياسته المناهضة للهجرة، مقابل تأثيرات سلبية بدأت تظهر بالفعل جراء الخطوات التي بدأت إدارة ترامب في تطبيقها. وفيما يلي ملامح أهم التأثيرات والعواقب الناتجة عن سياسات ترامب المناهضة للهجرة.
تشمل التأثيرات والعواقب الإيجابية، ما يلي:
– تعزيز الأمن القومي من خلال ضبط الحدود ووضع قيود على التسلل غير الشرعي، ومنع مواطني الدول التي تعاني أزمات داخلية من الدخول للولايات المتحدة.
– تضييق الخناق على البؤر الخصبة التي يستغلها الإرهاب وعصابات الجريمة المنظمة كالمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين والمتسللين.
– خفض مستوى البطالة إلى 3.7% في يوليو 2019 بعد أن كانت قد وصلت إلى 5% خلال 2016.
– خفض الإنفاق على البرامج الاجتماعية، وعلى رأسها برامج قسائم الطعام، والرعاية الطبية.
في المقابل، تشمل التأثيرات السلبية ما يلي:
– تقدر بعض التحليلات أن الترحيل الجماعي من شأنه أن يقلل الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بنسبة 1.4 ٪.
– تؤكد بعض التحليلات أن خفض المهاجرين سيؤدي إلى خفض حجم العمالة في قطاع الزراعة، وبالتالي قد يلجأ أصحاب المزارع إلى خفض الإنتاج وبالتالي خفض المعروض منه في السوق الأمريكية.
– قد يضطر سوق العمل الأمريكي إلى الاعتماد بشكل حصري على العمال المولودين في الولايات المتحدة والذين يتنافسون مباشرة مع المهاجرين للحصول على وظائف، رغم كونهم في بعض الأحوال الأقل تعليمًا وحرفية.
– زيادة المرتبات والحوافز للعمالة المحلية بطريقة ستزيد من ارتفاع تكاليف الإنتاج، حيث ساعدت الهجرة على خفض الأجور بنسبة تتراوح بين 3 إلى 8٪ للمهن منخفضة المهارة.
– زيادة نسبة كبار السن في مقابل نسبة الشباب بسبب تراجع أعداد المهاجرين الشباب. وفي هذا السياق، قدر معهد كاتو أن القضاء على برنامج “داكا” قد يكلف الاقتصاد الأمريكي 215 مليار دولار على مدى 10 سنوات.
– قد تظل بعض الوظائف، خاصة محدودة ومنخفضة المهارات، شاغرة لعدم توافر قوى عاملة في الداخل الأمريكي تقبل الالتحاق بها مثل قطاعات البناء والتشييد، وخدمات المطاعم والفنادق، وغيرها.
إجمالًا، يمكن القول إنه رغم تبني الرئيس ترامب خطابًا مناهضًا للهجرة؛ إلا أن التجليات السلبية قد تدفعه إلى تبني سياسة أكثر مرونة في هذا المجال، وبالأخص مع تزايد عدد المتضررين من أصحاب الأعمال الأمريكيين بجانب رفض الكونجرس المتكرر لسياساته المناهضة للهجرة. لذلك، قد يتجه ترامب إلى فتح الباب أمام الهجرة الراغبة في العمل مقابل تضييق الخناق على الهجرة التي تسعى للاستفادة من برامج الحماية الاجتماعية وكذا برامج اللجوء. ويؤكد ذلك وضع نظام التأشيرة تحت مسمى “بناء أمريكا”، والتي تقوم على قبول الأفراد طبقًا لمدى استفادة الولايات المتحدة منهم.