أثار السيد الرئيس “عبد الفتاح السيسي” في خطابه الشامل أمام اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحالية موضوعًا جديدًا ومهمًّا من الناحية الاستراتيجية، وهو مبدأ الملكية الوطنية لحلول الأزمات العالمية. ورغم حداثة المبدأ، إلا أنه لم يلفت نظر خبراء وباحثي مراكز الدراسات والفكر في مصر أو الدول العربية عامة رغم أهميته، بينما تغاضت مراكز الفكر العالمية عنه. وفي اعتقادي أنه سيكون محورًا لمناقشات عديدة في المستقبل لعدة اعتبارات سنتناولها تفصيلًا من خلال تناول مختلف أبعاد هذا المبدأ.
أولًا: عولمة الأزمات المحلية والحاجة لتجديد الفكر الاستراتيجي
العالم قبل عام ١٩٩١ مختلف تمامًا عن العالم بعده، ففي ذلك العام ظهرت الشبكة العالمية للمعلومات أو الإنترنت لتربط ملايين ثم مليارات البشر في مختلف أنحاء العالم ببعضها. ومنذ ذلك الحين تطورت سرعة تبادل المعلومات بشكل رهيب، وزاد من فعالية هذه الشبكة الأم ظهور تطبيقات عديدة تستند إلى العقلية الشبكية والمبادئ والقوانين التي تحكمها، خاصة ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى تحولات في الفكر الاستراتيجي العالمي، منها سقوط جميع الحواجز الزمنية والجغرافية والسياسية والاقتصادية. وانعكس ذلك بصورة مباشرة على الدولة الوطنية في العالم أجمع، مما أدى إلى تزامن الفعل ورد الفعل بين الدولة والمواطن، وتغيّر مفهوم الجغرافيا، خاصة بعد أحداث ١١ سبتمبر التي أنهت الوضع الجغرافي الآمن لأقوى دولة في العالم نتيجة وقوعها بين محيطين كانا فيما مضى يفصلانها عن العالم. وظهر مفهوم تآكل سيادة الدولة، وتم طرح القانون الإنساني لتقنين حق التدخل في الشئون الداخلية للدول تحت سمع وبصر الأمم المتحدة، وبشكل مخالف لميثاقها، بدعوى منع تفاقم الأزمات نتيجة أخطاء داخلية. وبالرغم من إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن بعض الدول -وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية- رفضت الانضمام إليها حمايةً لمواطنيها الأكثر تدخلًا. كما تمت الدعوة إلى التحرير الكامل لاقتصادات الدول، وإسقاط جميع السياسات الاقتصادية الحمائية، وتم إنشاء منظمة التجارة العالمية لتعكس هذه التحولات، حيث أُوكل إليها ضمان حريات الملكية الفكرية.
في هذا المناخ من الطوفان العولمي، يعتبر المبدأ الذي طرحه السيد الرئيس (مبدأ ملكية الحلول الوطنية للأزمات المحلية) تطويرًا لأحد مبادئ العولمة كما تم طرحها وتطبيقها في التسعينيات وبداية الألفية، وهو ما عجزت دول العالم الثالث عن إقراره فيما بعد؛ فموجة العولمة كانت عالية، وكانت ببساطة تعني التعامل مع العالم كوحدة واحدة، وتناول مشكلاته بوصفها مشكلات عالمية. وقد ثبت أن جذور هذه المشكلات العالمية كانت جذورًا محلية؛ فأزمة أواسط إفريقيا كانت جذورها عرقية وقبلية، والأزمة اليوغوسلافية كذلك كانت أزمة تتعلق بالعلاقات بين الأقليات في منطقة البلقان والاتحاد اليوغوسلافي وما ارتبطت به من نمط اتحادي لا يعكس واقع التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي أصبحت تحكم المنطقة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وما ترتب على هذا الانهيار من تغييرات سياسية حادة في وسط وشرق أوروبا مما استدعى تغيير مهام قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لتصبح المشاركة في بناء السلام بدلًا من حفظه.
وكان أول أسباب تفاقم مثل هذه الأزمات العالمية وتزايد حدتها أن الأطراف المختلفة رأت أن أسلوب تناول حل هذه الأزمات لم يكن مناسبًا، خاصةً أن العولمة ارتبطت بتدخلات حادة من جانب الدول الكبرى في هذه المشكلات بدعوى أن العولمة في بعض أبعادها تم تعريفها على أنها تعني تعبئة موارد عالمية لحل مشكلات محلية. والموارد المقصودة هنا ليست رؤوس أموال فقط، بل خبرات وخبراء وحلولًا عالمية أيضًا، وهو أمر عانت منه مصر والدول العربية، خاصة ليبيا الشقيقة نتيجة فهم خاطئ للمبدأ لدى تطبيقه. فقد تولت قوات الناتو زمام الأمور في ليبيا بناء على طلب من جامعة الدول العربية، لكن الأمر انتهى فيما بعد إلى استقطاب ليبيا لميليشيات مسلحة من كل صوب وحدب، وجرى تدويل الأزمة، وانتقل الإرهاب من كونه عملًا إجراميًّا إلى أداة لتنفيذ سياسات بعض الدول بصفة عامة.
كذلك كان ثاني أسباب تفاقم الأزمات العالمية في ذلك الحين أنّ ما أُطلق عليه النظام العالمي الجديد الذي دعت إليه واشنطن في ذلك الحين كان تعبيرًا عن نزعة للهيمنة العالمية بتأثير من فهم خاطئ لطبيعة هذا النظام. فقد ظهر اتجاه قوي مفاده أنه إذا كان أحد قطبي النظام العالمي الثنائي القطبية قد انهار ودخل التاريخ؛ فإن واجب ومسئولية القطب الثاني حكم العالم حتى لا يحدث فراغ. ولم يكن إدراك مؤيدي هذا التيار الذي تبناه في ذلك الحين “فوكوياما” وأطلق عليه “نهاية التاريخ” إدراكًا صائبًا مما دعا “فوكويوما” للاعتراف بهذا الخطأ الاستراتيجي والتخلي عنه لاحقًا. غير أن الضرر كان قد وقع وانهار العراق تحت جحافل القوات الأمريكية عام ٢٠٠٣.
وكان ثالث الأسباب لتفاقم مثل هذه الأزمات العالمية في ذلك التوقيت المبكر للعولمة تآكل سيادة الدول النامية نتيجة فرض حلول عولمية على هذه الأزمات ذات الجذور المحلية باعتراف الدول الغربية ذاتها، وظهور الحروب غير المتماثلة؛ فتم إقرار مبدأ التدخل الإنساني الدولي بدعوى منع تفاقم هذه الأزمات، وتم تقييد ما بقي من حقوق السيادة للدول الوطنية، وهو أمر ساهمت فيه -في معظم الأحيان- قيادات هذه الدول نتيجة عدم إدراك متغيرات العصر، ونتيجة تغير علمي في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والنانو تكنولوجي، والبيوتكنولوجي، مما أدى إلى تغير نمط حياتنا تمامًا وطريقة تفكيرنا.
باختصار شديد، إننا في حقبة التسعينيات من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين واجهنا الموجة العاتية من العولمة بمأزق فكري متمثل في دائرة مفرغة مغلقة من إقرار مبدأ حق التدخل، مما أدى إلى تآكل السيادة في وقت كنا نحتاج فيه للدولة الوطنية القوية لأن جميع عمليات العولمة تتم في مؤسسات هذه الدولة، ولأن النظام العالمي قام على السعي لمزيد من الهيمنة في وقت كان العصر هو عصر الحريات، وفرض حلول عولمية مع أن العالم غير قابل للتنميط في قالب واحد.
ثانيًا: مبدأ الملكية الوطنية لحلول الأزمات العالمية
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية طلب “كينز” أن تتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي على المستوى الوطني وهو ما أخذت به مؤسسات بريتون وودز. واستمر الأمر كذلك حتى مطلع سبعينيات القرن العشرين، فقد استمرت هذه القواعد تعمل بكفاءة إلى أن وقعت الأزمة الاقتصادية الأولى في السبعينيات نتيجة رفع أوبك أسعار النفط، مما أدى إلى حالة من التضخم والبطالة وتراجع معدلات النمو.
ونتيجة لهذه الأزمة، أعاد الفكر الاقتصادي النظر في دور الدولة نتيجة أفكار “ميلتون فريدمان” التي حاز بسببها جائزة نوبل عام 1976، والتي تستند إلى نهاية عصر تدخل الدولة، وإعادة عجلة القيادة إلى السوق باعتبارها الأكثر كفاءة والأكثر قدرة على تحقيق النمو المستقر الذي يضمن فرص العمل وتخفيض التضخم. فقد كان هدف السياسة الاقتصادية الجديدة هو تحرير الأسواق من القيود، وتحرير التجارة العالمية، مع استخدام السياسات النقدية في ضبط فعالية الأسواق الاقتصادية الثلاثة (أي: سوق العمل، وسوق السلع والخدمات، وسوق رأس المال).
ومع نجاح وصفة “فريدمان” ونجاحها في بريطانيا والولايات المتحدة تحديدًا فقد طلب كل من “ريجان” و”تاتشر” التركيز على أهمية استخدام السياسة النقدية لاستقرار الأسواق الثلاثة، ولذا تولت وزارة الخزانة الأمريكية إدارة حوار مع مسئولي البنك وصندوق النقد لإقناعهم بسياسات تقوم على 3 مقومات تمثل جوهر ما أطلق عليه إجماع واشنطن، وهي: التشدد في السياسات المالية (التقشف)، والخصخصة، وتحرير الأسواق.
هذه السياسة تعرضت للنقد مع الأزمة المالية العالمية عام 2008 في الولايات المتحدة وأوروبا وانتشار آثارها في العالم. ولم تتمكن الولايات المتحدة من علاج الأزمة حتى بسياسات الرئيس “أوباما” ومستشاريه. ومن ثم، كانت النتيجة أن الأسواق ليس بإمكانها تجنب وقوع أزمة بدون مساعدة الدولة، ولذا كانت السياسات المتبعة دوليًّا متناقضة تمامًا مع أفكار “فريدمان” وإجماع واشنطن من الناحية التكنولوجية ولا تتسق وروح العصر.
في هذه الأزمة تمسك البنك الدولي والمؤسسات الاقتصادية بضرورة وضع خطط الإصلاح الاقتصادي للدول النامية، والإشراف على تطبيقها وفق روشتة عالمية. وباءت هذه السياسة بالفشل، فالعالم قائم على التنوع أيديولوجيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، ومن ثم لا يقبل التنميط في إطار واحد، وبالتالي فلا بد أن تعكس روشتة العلاج الاقتصادي الاجتماعي السياسي حقائق هذا التنوع. لذا قرر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التخلي عن الروشتة العالمية، وطالب كل دولة أن تضع السياسات الاقتصادية المناسبة لظروفها، واكتفى البنك بالموافقة عليها. وبالرغم من ذلك ومع انتشار العولمة في عصر التوحش الرأسمالي، تم تعريف العولمة بأنها تعني تعبئة موارد عالمية لحل مشكلات محلية، علمًا بأن كلمة موارد هنا لا تعني رؤوس أموال فقط، بل تشمل أيضًا خبرات وتجارب عالمية وتكنولوجيا جديدة ومشروعات عالمية.
هنا حاولت بعض الجهات المتعصبة للعولمة تنميط العالم، أي فرض سياسات واحدة للعولمة عليه رغم كل مساوئها في عدم العدالة عالميًّا وإقليميًّا ومحليًّا. كما أنها لم تأبه لظهور بعض الأمراض الاجتماعية التي ظهرت ومنها موت مجتمعات محلية عديدة لم تتمكن من التكيف مع العولمة.
في هذا الإطار -وهذا تقديري أو فهمي للأمور وهو اجتهاد قابل للنقد لمن أراد- جاءت دعوة الرئيس بالدعوة لملكية الحلول الوطنية لمشكلات العولمة كقيمة مضافة لتوسيع دائرة العولمة بما يسمح بعلاج اختلالات العولمة وما تسببه من مشكلات مجتمعية، خاصة مع صعوبة التعامل مع الشكل الشبكي للمجتمع لحداثته وعدم التعرف بصورة دقيقة على التجارب العالمية وإنجازاتها في هذا الشأن. لذا، فإنني أضيف هذا المبدأ لجميع مراكز الدراسات في المنطقة العربية للاهتمام به ودراسته بالتفصيل لأنهم مروا عليه دون اهتمام كافٍ، واعتبروه صياغة لفظية، وهو ما يحتاج إلى تعاون جميع هذه المراكز في هذا الإطار لأن المجتمع العالمي مدعو منذ سنوات لتقييم العولمة وكيفية التعامل مع سلبياتها. وقد جاءت هذه الدعوة من الرئيس “السيسي” أمام أكبر محفل عولمي، وهي الأمم المتحدة، وأمام أكبر أجهزتها المعبرة عن المساواة بين الدول وهي الجمعية العامة، مما يضع قيودًا أخلاقية للعولمة، وهي مسألة موضع اهتمام العالم الآن تجاه بعض الموضوعات السياسية المترتبة على الثورة العلمية، مثل: القوة السيبرانية، واختيار نوع الجنين أو مواصفاته، أو محاولات إكساب هذا الجنين قدرات غير طبيعية من خلال إعادة تركيبه جينيًّا.
ثالثًا: تحولات عالمية تُمثّل قوة دفع لتطوير المبدأ مستقبلًا
شهد العالم عدة تحولات عالمية تدعم تثبيت هذا المبدأ، بل واستخدامه على نطاق واسع كأحد مبادئ السياسات الخارجية للدول الأعضاء. وأول هذه التحولات أن صياغة المبدأ -وفقًا لما جاء في كلمة السيد الرئيس- تمت بوصفه أحد مبادئ الملكية الفكرية التي وافقت عليها منظمة التجارة العالمية بوصفها ملكية خاصة في إطار الملكية العامة للمنتجات الثقافية والمعبرة عن ثقافة المجتمع، وهي مسألة ذات أهمية خاصة لليونسكو في الوقت الراهن. وكانت هذه الأهمية سببًا في صراع تركي-مصري داخل اليونسكو حول حقوق الملكية الوطنية لفكرة الأراجوز الذي حاولت تركيا نسبته للحضارة التركية، خاصة العثمانية، وهو ما لم يتحقق فأصدر اليونسكو قرارًا بملكية مصر لهذا الفن الأصيل بوصفه فنًّا مصريًّا أصيلًا. وتعد حقوق الملكية الفكرية أحد الموضوعات الرئيسية التي تقع في الاختصاصات الأصيلة لمنظمة التجارة العالمية، بقدر ما هي موضوع مهم من موضوعات أخلاقيات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهو من الموضوعات المثارة حاليًّا بقوة على الساحة العالمية لتقنين كل ما يتعلق بالإنترنت من جانب، وتحديدًا إنترنت الأشياء الذي يعد البنية التحتية للثورة العلمية التي شهدها العالم منذ نهاية الثمانينيات من القرن العشرين وحان الوقت لتقنينها لما أسفرت عنه التجربة من مشكلات.
أما ثاني التحولات العالمية التي تدعم العمل على نشر المبدأ، والأخذ به عالميًّا؛ فإنه يكمن في طريقة التفكير المفتوح الذي تأخذ به الثورة العلمية الحالية وهو المعروف باسم التفكير المفتوح الذي لا يستبعد أي سيناريو للتغيير مهما كانت احتمالاته في المستقبل. ويخضع هذا السيناريو لتجارب عدة لمعرفة تأثيره، وقد تم الأخذ بذلك مع بدايات استخدام الإنترنت لمعرفة انعكاساته على المجتمع محليًّا وعلى المستويين الإقليمي والعالمي، وهو ما أسفر عن ظهور التحليلات اللا خطية ومناهجها، مثل: النظام، والفوضى التقليدية، والفوضى الحديثة، والسيناريوهات، والتحليل الشبكي وقواعده وقوانينه.
وهنا من المفيد تذكر أن هذا الاعتقاد قائم بالفعل منذ أمد طويل ومعروف في علم النفس بقاعدة علمية يطلق عليها قاعدة “رجل الكهف” التي تفيد بأن الإنسان إذا تعارضت اختياراته الشخصية مع نمط التكنولوجيا المطروح أمامه فإنه يغض النظر عن هذه التكنولوجيا فورًا، ويميل نحو تفضيلاته الشخصية التي تحقق مصالحه. ومن الجدير بالذكر أن هذه القاعدة عاد وأكدها لنا التطور الحديث لعلم الأعصاب من خلال تجارب حديثة قادها “مايكل ميرزينتش” أحد رواد هذا العلم الذي أكد أن مخ الإنسان طيع ويستجيب لأي مثير أو خبرة جديدة يتعرض لها. ولهذا فإن المخ البشري يحيط تفكيرنا بإطار من الأدوات التي نختار منها ما يناسبنا للاستخدام، فالإنترنت هي القوة التي تغير عقولنا على نطاق واسع نتيجة استجابتنا السريعة للتواصل الرقمي السريع دون حدٍّ كافٍ للتفكير ودون التفكير في العواقب المترتبة على سرعة الاستجابة للتواصل. بمعنى أن ما نشعر به من نشوة إلكترونية نتيجة التواصل يمكن أن تؤدي إلى تضاؤل احتمالات وفرص تنمية العقل المبدع، كما يمكن أن تعمل على تقليص قدرتنا على التركيز أيضًا.
أما ثالث هذه التحولات العالمية التي يمكن الاستناد إليها في نشر المبدأ عالميًّا، ويدفع حركة العولمة العالمية للأخذ به، فإنه يكمن في انعكاسات الحضارة الرقمية على التطور الحالي للدراسات المستقبلية التي أكدت أن القراءة السريعة من شاشات الحاسبات الآلية تتسم بعدم التركيز لأننا أدمنا بالفعل الحصول على مزيد من المعلومات باستخدام محركات البحث مما أصابنا بقدر من عدم التركيز، مثل التواصل الكوني الذي أثر سلبًا على علاقاتنا الاجتماعية في المحيط الاجتماعي المباشر، خاصة أن هذا التفكير يتسم بصفات مهمة مثل السرعة دون تفكير عميق، والتشتت الذهني الذي يحتاج إلى إطار مفاهيمي مرجعي يجمع هذا الشتات، والتخصص الدقيق دون وجود نظرة كلية تحكم الظواهر المختلفة. ولذلك ظهر تيار يعتد به داخل هذه الدراسات استطاع أن يشق طريقه داخل حركة العولمة العالمية ينادي بضرورة الخلط بين التفكير الاستراتيجي الحديث الذي يتسم بالصرامة العلمية والتفكير المتأني المركز والمستقبل والواسع المعرفة المتحرر من التوتر النفسي ولديه رحابة في التأمل ويستند إلى تدفق محدود من المعلومات -نظرًا لطبيعة تكنولوجيا المعلومات المستخدمة- وبين الاطلاع على الشاشة الحاسوبية سريعة التدفق المعلوماتي، ذات المعلومات المتخصصة الدقيقة جدًّا، والتشتت الذهني نتيجة عدم التركيز وسرعة تدفق المعلومات حتى يمكن الموازنة بين حوكمة المعلومات من ناحية، وطبيعتها من ناحية أخرى.
ويأتي مبدأ الملكية الوطنية لحلول الأزمات الدولية في إطار المبادئ التي يدعو إليها هذا التيار الإيجابي الذي يعمل على تطوير الدراسات المستقبلية حاليًّا، في إطار تحليل وليس تخزين المعلومات الضخمة التي تولدت نتيجة تفاعل البشر خلال الخمسة عشر عامًا المنصرمة، لأن البحث العلمي أصبح في حاجة ماسة لتخفيف سرعة اتخاذ القرار على كافة المستويات السياسية والاستراتيجية لعلاج الحركة المربكة للتقدم البشري في هذه المرحلة من التحول. وآخر هذه العوامل الدافعة لتطوير المبدأ والأخذ به عند مناقشة الأزمات هو وجود اتفاق عام على أن العولمة بالرغم من كل مزاياها في ظل تشبيك البشر حاليًّا والأشياء في المستقبل القريب جدًّا، وما تتيحه من فرص غير مسبوقة لدفع عجلة النمو الاقتصادي إلى آفاق لم تكن منظوره منذ سنوات، وفي ظل تحول الأسواق الثلاثة للاقتصاد (وهي: سوق العمل، وسوق الإنتاج، وسوق رأس المال) فإن لها تبعاتها السلبية الخطيرة المتمثلة في نشر عدم المساواة محليًّا وعالميًّا، والإخلال بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، وأن ما تتيحه من حلول لبعض الأزمات ليس مرضيًا بما فيه الكفاية نتيجة تنميط الحلول، وهو أمر موضع نقد دائم. ومن ثم، فإن الطرح المصري يظهر كمحاولة للتغلب على مساوئ العولمة من داخل شبكات العولمة نفسها، مما يجعل النقد أكثر قبولًا عما كان من خارج شبكات العولمة.
الخلاصة
إن مبدأ ملكية الحلول الوطنية للأزمات العالمية الذي أعلنه الرئيس “السيسي” أمام اجتماعات الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة، هو مبدأ مصري خالص، ويمكن أن يكون ضوءًا قويًّا وعلامة طريق للتريث في طريق العولمة لعلاج بعض الآثار السلبية التي اعترف العالم بها بالفعل، مثل التوحش وعدم المساواة على المستوى المحلي (داخل الدولة الواحدة) والمستوى العالمي على السواء (بين الدول)، شريطة أمرين؛ الأول: الترويج للمبدأ إعلاميًّا على المستوى المحلي عن طريق اهتمام مراكز البحوث والفكر والإعلام المصري بالترويج للمبدأ محليًّا. والثاني: أن نحول المبدأ إلى مبدأ استراتيجي على المستوى العالمي، والبيئة العالمية مهيأة لذلك بالفعل، وذلك من خلال التمسك به مستقبلًا -ويفضل أن يكون ذلك جزئيًّا بخلطه بالبعد العالمي للحلول- بوصفه أحد مبادئ السياسة الخارجية لمصر، وهذا عمل وزارات الخارجية والاستثمار والتعاون الدولي والهيئة العامة للاستعلامات.