أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، في 7 أكتوبر 2019، عن جاهزية بلاده لتنفيذ العملية العسكرية بشرق الفرات في سوريا. وتحمل العملية المرتقبة اسم “نبع السلام”، مدفوعة برغبة تركيا في القضاء على التهديدات من جانب تنظيمي حزب العمال الكردستاني “بي كا كا” ووحدات حماية الشعب الكردية “ي ب ك”. ويأتي التهديد التركي الأخير ضمن سلسلة من التهديدات المماثلة التي بدأت منذ أكتوبر 2018 حينما صرّح “أردوغان” بتحول اهتمام بلاده نحو منطقة شرق الفرات بدلًا من التركيز على منطقة “منبج” بعد تعطل تنفيذ الاتفاق الأمريكي-التركي بشأنها. وقد ارتبطت تلك التهديدات بسلسلة أخرى من الضربات الجوية للطيران التركي على مواقع كردية في سوريا والعراق.
ويُذكر أن تركيا أطلقت عمليتها الأولى “درع الفرات” في أغسطس 2016، بهدف المساهمة في جهود القضاء على تنظيم “داعش”، ومثّلت تلك العملية بداية الحيازة العسكرية والميدانية التركية للأراضي السورية. وأُطلقت العملية العسكرية الثانية “غصن الزيتون” في يناير 2018، والتي استهدفت محاربة وحدات حماية الشعب الكردية. وتشير التقارير الإعلامية إلى أن تركيا تسعى من وراء عمليتها الثالثة المرتقبة إلى الاستحواذ، في مرحلتها الأولى، على المناطق الواقعة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض في محافظة الرقة، على امتداد 120 كم بطول الحدود التركية السورية، بينما ستشتمل المرحلة الثانية على تحقيق السيطرة التركية على مناطق بمدينة القامشلي بمحافظة الحسكة.
إما منطقة آمنة أو عملية عسكرية
تركزت التصريحات التركية خلال الفترة الماضية على الترويج لحق تركيا في القضاء على التهديد الكردي، من منطلق دفاعها عن حدودها، وضمان أمنها القومي، ناهيك عن عدم قدرتها على الاستمرار في تحمل أعباء اللاجئين السوريين. وقد شهد الخطاب التركي تطورًا جديدًا بعد الدعوة الأمريكية لإنشاء منطقة آمنة بعرض 20 ميلًا في الشمال السوري، وهو الأمر الذي أثار الحماسة التركية، على الرغم من عدم وضوح الجهة القائمة على إنشاء تلك المنطقة أو حدودها.
وقد عبرت تركيا حينها عن تصورها للمنطقة الآمنة بأنها ستضم مدنًا وبلدات من ثلاث محافظات، هي حلب والرقة والحسكة. وتمتد على طول 480 كم، على طول الحدود التركية السورية، وبعمق 20 ميلًا (32 كم)، وستقع شمالي الخط الواصل بين قريتي صرين في محافظة حلب، وعين عيسى في محافظة الرقة، وتمتد من مدينة القامشلي بالغرب وصولًا إلى تل أبيض وعين العرب بالشرق.
وفي آخر خطاب له بالأمم المتحدة، أشار الرئيس التركي إلى أن المنطقة الآمنة الممتدة على طول 480 كم، ستستوعب في المرحلة الأولى ما بين مليون إلى مليوني مواطن سوري، وفي حال وصول عمق المنطقة الآمنة إلى محافظتي الرقة ودير الزور، فإنه من الممكن عودة 3 ملايين لاجئ سوري. ووفقًا للتصور التركي الأخير، فإن المنطقة الآمنة لن تكون على طول الحدود التركية-السورية فحسب بل ستصل إلى الحدود السورية-العراقية، بما يحقق الهدف التركي في محاصرة الأكراد وتقويض أنشطتهم، وامتداد النفوذ التركي في نهاية المطاف إلى منطقة “سنجار” العراقية، التي تُعد مركزًا لنشاط تنظيم حزب العمال الكردستاني، بما يتيح لتركيا سهولة توجيه الضربات للتنظيم، ومتابعة تحركاته.
اتخذت المشاورات الخاصة بإنشاء المنطقة الآمنة وقتًا طويلًا بين الولايات المتحدة وتركيا، الأمر الذي دفع تركيا إلى إطلاق تهديدات بين حين وآخر باقتراب إطلاق عمليتها العسكرية بمنطقة شرق الفرات طالما لم يتم التوصل لاتفاق بشأن المنطقة الآمنة. وفي السابع من أغسطس 2019، أعلن الجانبان الأمريكي والتركي عن التوصل لاتفاق بشأن المنطقة الآمنة، يتضمن إقامة مركز عمليات مشترك في تركيا لتنسيق وإدارة إنشاء المنطقة، بهدف إدارة التوترات بين المقاتلين الأكراد والقوات التركية في شمال سوريا. وقد لقي هذا الاتفاق موافقة من قبل الجانب الكردي، بل وعمد إلى تنفيذ ما يتعلق به من مهام، ولكن سرعان ما أعلن الجانب التركي عدم رضاه عن الإجراءات الأمريكية الخاصة بإنشاء المنطقة الآمنة. وارتكزت المزاعم التركية على أن الاتفاق يخدم بالأساس وحدات حماية الشعب الكردية أكثر مما يخدم تركيا، وأن الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة هي خطوات “شكلية”، وتستهدف تعطيل تنفيذ الاتفاق. كذلك، فإن التصور التركي للمنطقة الآمنة مختلف عن نظيره الأمريكي؛ فبينما تسعى تركيا نحو إقامة منطقة آمنة بعمق نحو 30 كم شرق الفرات، يستند التصور الأمريكي إلى إقامة منطقة يتراوح عمقها ما بين 5 إلى 14 كم.
الانسحاب الأمريكي والتذبذب التركي
أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” صباح السابع من أكتوبر 2019 عن انسحاب جنوده من المنطقة الحدودية بين تركيا وسوريا، والسماح للقوات التركية بشن عمليتها العسكرية التي تخطط لها منذ فترة طويلة هناك لإنشاء ما تصفه “منطقة آمنة”، وأن القوات الأمريكية لن تشارك أو تدعم العملية التركية، ولن تتمركز بعد اليوم في المنطقة بشكل مباشر. وألحق “ترامب” إعلانه بسلسلة من التصريحات المفسرة، والمتمثلة في عودة جنوده من مناطق الصراعات، الأمر الذي يأتي ضمن تنفيذه لبنود برنامجه الانتخابي، فضلًا عما سببه الصراع السوري من تكلفة مالية تحملتها الولايات المتحدة، كما أن مواصلة دعم القوات الكردية أمر مكلف للغاية. وأخيرًا، فإن الصراع التركي الكردي هو “صراع قبلي” ليس للولايات المتحدة دخل فيه.
وقد اعتبر الجانب التركي التصريحات السابقة بمثابة موافقة أمريكية ضمنية على العملية العسكرية، واقترن ذلك بإتمام الجانب التركي إرسال تعزيزاته العسكرية للولايات الجنوبية والجنوبية الشرقية الواقعة على الحدود التركية السورية.
ومع تبدل الموقف الأمريكي بعد ساعات قليلة، هدد “ترامب” بمعاقبة تركيا حال حدوث “أذى” للجنود الأمريكيين بالمناطق المحتمل شن العملية العسكرية بها، وألحق به تهديدًا آخر بمعاقبة الاقتصاد التركي حال القيام بأي عملية عسكرية “خارج الحدود”. وفي اليوم التالي، أكد “ترامب” تهديده لتركيا بتصريحه بعدم تخليه عن الأكراد. كما أكد أنه باستمرار وجود 50 جنديًّا أمريكيًّا بنطاق الحدود التركية السورية، فإن أي قتال غير ضروري من جانب تركيا سيكون مدمرًا لاقتصادهم ولعملتهم الهشة للغاية، فالولايات المتحدة ما زالت تساعد الأكراد ماليًّا وبالأسلحة. وفي اليوم ذاته، أعلن البنتاجون أن مركز العمليات الجوية المشتركة أخرج تركيا من ترتيب المهام الجوية في سوريا، وتم التوقف عن تزويد تركيا بمعلومات مراقبة واستكشاف.
ويمكن تفسير تراجع “ترامب” عن قراره استنادًا إلى رد الفعل الداخلي الرافض لهذا القرار بين الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، بما جعله يتراجع عن دعمه للعملية العسكرية التركية، خاصة في ظل ما يواجهه من أزمات داخلية، كان آخرها البدء في إجراءات عزله. وعلى الجانب الآخر، شهد الموقف التركي تذبذبًا واضحًا، ففي حين أكد نائب الرئيس التركي عزم بلاده مقاتلة الأكراد وإتمام إنشاء المنطقة الآمنة بما يسمح لأنقرة إعادة توطين اللاجئين السوريين فيها، صرح المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم قالين” بأن العملية العسكرية التركية ليست هجومًا على الأكراد، وليست غزوًا للمناطق السورية، وإنما تستهدف تقديم إرهابيي ومقاتلي “داعش” المعتقلين للعدالة، بما يحقق معه إنهاء إرهاب تنظيم “داعش”.
السيناريوهات المحتملة
في ظل استمرار مسلسل الشد والجذب الأمريكي التركي، واستمرار تركيا في التأكيد على إتمامها الاستعدادات العسكرية بالمناطق المقابلة للحدود السورية على الرغم من تراجع الدعم الأمريكي؛ تنصرف السيناريوهات المحتملة للتحرك التركي خلال الفترة المقبلة إلى أربعة سيناريوهات:
السيناريو الأول- إقدام تركيا على الإطلاق الفعلي للعملية العسكرية، من خلال عملية برية مصحوبة بغطاء جوي، مستهدفة المناطق الواقعة بين مدينة تل أبيض شمال الرقة ومدينة رأس العين شمال الحسكة
وفقًا للوضع الحالي، فإن إطلاق عملية عسكرية تركية في سوريا سيصاحبه تنديد دولي من قبل الجانب الأوروبي والأمريكي والأممي وكل من روسيا وإيران، وبالتالي فإن المخاطرة التركية بإطلاق العملية العسكرية المرتقبة قد يعرضها إلى عزل دولي وعقوبات اقتصادية محتملة، فضلًا عما قد ينتج عن هذه العملية العسكرية من تجدد للتهديد الداعشي، فبدلًا من الاهتمام الكردي بمحاصرة التنظيم واحتجاز أعضائه سيسعى الجانب الكردي إلى الدفاع عن وجوده وعن أراضيه بما يترتب عليه عودة التنظيم إلى ممارسة نشاطه واتخاذ أعضائه من سوريا موضعًا للانتشار إلى الدول المجاورة. على صعيد آخر، قد تسفر العملية التركية عن موجة نزوح جديدة للسوريين، مما قد يؤدي لاحقًا إلى تجدد أزمة اللاجئين.
السيناريو الثاني- اكتفاء تركيا بتوجيه ضربات جوية محددة لأهداف ومواقع ومستودعات تخزين كردية بالمناطق المحاذية لسيطرتها أو قيامها بدفع فصائلها الموالية للاشتباك بين حين وآخر مع القوات الكردية
وفق هذا السيناريو ستتجنب تركيا التنديد الدولي، وفي الوقت ذاته ستكون تلك الضربات بمثابة تسويق سياسي للنظام في الداخل التركي، كما ستكثف تركيا من اتصالاتها مع الجانب الأمريكي، وبإمكانها العمل على تعديل بنود اتفاق المنطقة الآمنة، وحثّ الجانب الأمريكي على تسريع وتيرة تنفيذ الاتفاق.
السيناريو الثالث- حدوث عمليات إرهابية داخل الأراضي التركية، يتم في إطارها الادعاء بالمسئولية الكردية عنها
وبذلك، سيكون لدى تركيا الادعاء المثالي للتدخل بشكل أكبر داخل سوريا، من منطلق الدفاع عن الأمن القومي التركي ودحض الإرهاب الكردي الذي طال الأراضي التركية، الأمر الذي يمنح الأتراك تعاطفًا وتأييدًا دوليًّا. ويدعم تحقق هذا السيناريو ما تمت إثارته مؤخرًا من قبل “أحمد داود أوغلو” رئيس الوزراء التركي الأسبق عن فتح “دفاتر الإرهاب”، حيث تشير التقارير إلى ممارسة النظام التركي مؤامرة بحق شعبه عام 2015 استهدف منها ترويع الشارع التركي ودفعه للتصويت لصالح حزب العدالة والتنمية خلال الانتخابات البرلمانية.
وقد شهدت هذه الفترة تفجيرات إرهابية تزامنت مع تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية وعدم حصوله على أصوات الأغلبية بالانتخابات البرلمانية، الأمر الذي لم يتمكن الحزب معه من تشكيل الحكومة بشكل منفرد. وقد ساهمت تلك التفجيرات في عودة ارتفاع تلك الشعبية وتحقيق الحزب لنسبة الأغلبية بانتخابات الإعادة، وتشكيل الحكومة بشكل منفرد، وتبع ذلك تمريره للتعديلات الدستورية التي كرست سلطة الرئيس التركي.
السيناريو الرابع- الرضوخ التركي للاتفاق الحالي الخاص بالمنطقة الآمنة
تستهدف تركيا تجنيب اقتصادها أي اضطرابات محتملة ناتجة عن فرض عقوبات أمريكية. كذلك، ستسعى تركيا إلى وضع حد للتوتر القائم بينها وبين الجانب الأمريكي، ليس لأسباب اقتصادية فحسب، بل لقناعتها بأن إتمام إنشاء المنطقة الآمنة مرهون بالإرادة والموافقة الأمريكية.
وبالنسبة للجانب الكردي، تدور مسارات تحركه ما بين استمرار التعاون مع الولايات المتحدة من خلال استمرار الأخيرة في إمداد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بالمال والسلاح، أو أن يلجأ الجانب الكردي إلى النظام السوري وحليفه الروسي خاصة بعدما تعرض له من تهديد أمريكي بالتخلي عنه للمرة الثانية خلال نفس العام. ويدعم تحقق هذا السيناريو ما أعلنته قوات “قسد” عقب إعلان التخلي الأمريكي عن استعداد الجيش السوري للتحرك نحو مدينة منبج الواقعة تحت الإدارة الكردية. وفي هذا السياق، استغلت دمشق حالة عدم اليقين هذه، ودعت الجانب الكردي إلى العودة للوطن لحل المشكلات السورية بطريقة إيجابية وبعيدة عن العنف وفي إطار يحافظ على وحدة الأراضي السورية.
وهكذا، تظل التهديدات التركية في موضع التصريحات دون إطلاق عملية عسكرية شاملة مؤثرة، خاصة مع تذبذب الموقف الأمريكي، وفي ظل ما يواجهه النظام التركي من أزمات داخلية متمثلة في اضطراب اقتصادي، وصعود شعبية المعارضة التركية، وانشقاقات داخلية في حزب العدالة والتنمية، وتوجيه اتهامات لأردوغان بدعم الإرهاب، وأزمات خارجية مرتبطة بتوتر علاقاته الحالية مع الجانب الأوروبي على خلفية قضية اللاجئين وغاز شرق المتوسط وتوتر علاقته أيضًا مع الولايات المتحدة على خلفية صفقة طائرات F35.
وبناءً على ما تقدم، فإنه ليس من مصلحة النظام التركي فتح جبهة صراعية جديدة، خاصة أن هذا الصراع لن يكون ضد الولايات المتحدة فحسب، بل ضد توافقه مع الروس والإيرانيين أيضًا. ولذلك قد تستمر تركيا في إطلاق التصريحات وإرسال التعزيزات حتى يحين اللقاء التركي الأمريكي الذي على أساسه سيتحدد إنشاء اتفاق جديد بخصوص المنطقة الآمنة أو الإبقاء على الوضع القائم.