في الثالث من أكتوبر قَتَلَ موظف فرنسي -وهو خبير كمبيوتر يعمل في مخابرات مديرية أمن باريس، وله الحق في الاطلاع على الوثائق السرية- أربعة زملاء له في العمل قبل أن يقتله شرطي مستجد حديث التعيين. وبعدها بقليل أعلن وزير الداخلية السيد “كاستانر” أن القاتل أسود معاق اعتنق الإسلام منذ ١٨ شهرًا، ويعاني من مشكلات نفسية، وأن الحادث لا علاقة له بالتطرف ولا الإرهاب. وسرعان ما تبين أن كلام الوزير خاطئ ولا أساس له من الصحة، فالقاتل كان قد أسلم منذ أكثر من ١٥ سنة، ورصد زملاء له تطرفه منذ عام ٢٠١٥. وحسمت رسائل التليفون النصية sms المتبادلة بينه وبين زوجته الجدل حول دوافعه التي تبين أنها دوافع “جهادية”.
وطالبت المعارضة باستقالة الوزير، واتهمته بالكذب، ودافع “كاستانر” عن نفسه أمام لجان مجلسي الأمة والشيوخ قائلًا، إنه اعتمد يومها على البيانات المتاحة لديه، وأنه لم يقم أحد زملاء القاتل بإبلاغ السلطات بتطرفه رغم تعدد مظاهره. وأطال الوزير في شرح الإجراءات التي تتم في مواجهة حالات التطرف، وخلص إلى أن الحادث أبرز ثغرات ولكنه لا يمكن التحدث عن قصور أو خطأ، وأنه لا داعي لتغيير المنظومة القانونية التي تؤطر مكافحة الإرهاب لأنها كافية.
وشكّل الحادث صدمة كبيرة للرأي العام الفرنسي الذي اكتشف وجود متطرفين قد يتحولون إلى إرهابيين في قلب جهاز الدولة ومخابراتها، وأحس أنه قد لا يستطيع الاعتماد على الشرطة لحمايته إن كان بين صفوفها جهاديون. وشكل الحادث صدمة أكبر للأجهزة الأمنية، التي ضربت في معقلها، والتي اكتشفت لاحقًا أن القاتل نقل على مفتاح USB معلومات سرية بالغة الأهمية عن المخبرين الذين يراقبون الجماعات المتطرفة وعن خطط العمل ضدها. وقال الوزير يوم الخميس الماضي (10/10/2019) إنه لا يعرف إن كانت المعلومات أو غيرها قد وصلت إلى جهاديين أم لا؟
وتكلم الرئيس “ماكرون” وقال إن الدولة وحدها لن تستطيع التصدي بنجاح للعداء المتأسلم بكافة أشكاله (لم يحددها)، وإن على الأمة أن تتوحد وأن تتأهب وأن يلعب الجميع دورًا في هذا الصراع لكي يصبح المجتمع “مجتمع يقظة لا مجتمع اشتباه وتشكك”. واختلف المعلقون حول جدية هذا الخطاب، وهل سيُترجم إلى أفعال وتدابير؟. وبالطبع، سعت المعارضة إلى توظيف الحادث لتسويق خطابها، وللتنديد بأداء وزير الداخلية، وبصفة عامة بدت الأغلبية في موقف دفاعي.
لن نقدم في هذا المقال تحليلًا لخطاب الفرقاء على أهمية هذا؛ بل سنحاول عرض بعض القضايا الموضوعية والمخاطر المحتملة، تعرض لبعضها الفرقاء، ولن نخوض في قضايا تمت إثارتها، وقد تكون مهمة، ولكن لا علاقة مباشرة لها بصلب الموضوع رغم ادعاءات البعض (الهجرة مثلًا).
1- هناك وجود متزايد للمتطرفين في جهاز الدولة وبين موظفيها، وفي بعض المواقع ذات الأهمية، إما لأنها سيادية أو لأنها تتعامل مع الجمهور، وفي شركات خاصة يقتضي طبيعتها حمل السلاح مثل شركات الأمن، وهي قضية تناولها تقرير برلماني صدر في أواخر يونيو الماضي، رصد حالات تطرف داخل الجيش والشرطة وفي جهاز العدالة. وقال التقرير إن قطاع الصحة -على عكس الشائع- لا يعاني من هذا. وأضاف أن بعض القطاعات، مثل شركات الأمن الخاص وشرطة المحليات والجامعات وقطاعات الرياضة والنقل والنقل الجوي، لا تنتبه للخطر ولا تحتاط له. ولفت بعض النواب النظر إلى رصد ثلاثين حالة تطرف في صفوف الشرطة، وإلي تعدد حالات جنود في الجيش طالبوا بنقلهم بعيدًا عن مسارح العمليات العسكرية لرفضهم إطلاق النار على عدو مسلم الديانة.
والحقيقة أن الوضع مختلف في المؤسستين، فجهاز الشرطة يشرف عليه علمانيون يؤمنون بالقيم العلمانية ويتعامل مع كافة أعضائه بدون وضع انتمائهم الديني في الاعتبار (هذا جيد)، وبدون الاستعانة برجال دين يتقدمون بالنصح والمشورة لمن في حاجة إليها، بينما يتميز الجيش بوجود نسبة ساحقة من الكاثوليك المحافظين في كادر الضباط. كما يتميز بوجود نسبة كبيرة -ومستمرة في الزيادة- من المسلمين في صفوف الجنود وصف الضباط. وتاريخيًّا وُجد في الجيش كادر لرجال دين يتقدمون بالمشورة، وتم إنشاء كادر مشابه لرجال الدين المسلمين سنة ٢٠٠٥، يتقدمون بالنصح للجنود وللقيادات. ويبدو أن هذا الكادر مفيد، فهناك فارق واسع بين طلب النقل لرفض إطلاق النار على العدو وبين إطلاقه على الزملاء (وهذا لم يحدث في الجيش). وقيل للكاتب إن رجال الدين المسلمين يُذكّرون الجنود المسلمين بأن الإرهابيين يقتلون مسلمين بأعداد كبيرة، وأن الدفاع عن الوطن ليس دفاعًا عن دين آخر. وفي حديث لصحيفة “لوموند” قال كبير رجال الدين المسلمين في الجيش، إن المؤسسة العسكرية رائدة في إدارة التنوع الديني، وفي حل المشكلات اليومية التي تثور بين أبناء الديانات المختلفة (فيما يتعلق مثلًا بتناول الخمرة وبحضور المناسبات والحفلات التي تستوجب شربها). وبشكل عام، فإن أعداد رافضي الأوامر بإطلاق النار ما زالت محدودة جدًّا، وقد تتسبب في مشكلات إن زادت.
2- لا يزعم الكاتب أنه قام بمسح شامل للتغطية الإعلامية الفرنسية للحادث، ولكنه يرى أن المدافعين عن التأسلم السياسي وعرابيه اضطروا إلى السكوت، واكتفى بعضهم بمحاولة تبرير الجريمة بأن تمييزًا مفترضًا مُورس ضد القاتل، وأولوا تنظيم مظاهرة للدفاع عن ذكرى القاتل مما أدى إلى اعتقال أحدهم. لكن التردد قبل اتخاذ هذا الإجراء ترك أثرًا سيئًا. ويلاحظ أن العدوان التركي على الأكراد وعلى سوريا صعّب مهمة المدافعين عن التأسلم. وبشكل عام، لاحظ الكاتب تراجعًا نسبيًّا للجدل حول ضرورة التمييز بين المسلمين والمتأسلمين، لصالح سؤال التمييز بين المتطرف الذي يبتعد عن المجتمع ويتقوقع رافضًا له والمتطرف الذي يلجأ إلى العنف.
ويبدو لي أن أغلبية المعلقين أجمعوا على ضرورة منع المتطرف -أيًّا كان- من وظائف تقتضي حمل السلاح، بينما اختلفوا حول تشغيله في وظائف تتعامل مع معلومات حساسة، وحول إمكانية التأمين دون ممارسة تمييز يخالف القانون وقيم فرنسا. فهناك مشكلات قانونية في اتخاذ إجراءات ضد شخص لم يرتكب عدوانًا فعليًّا لأسباب ودواعٍ تتعلق بقناعاته مهما كانت. والحقيقة أن القانون الفرنسي جرم الانضمام إلى جماعة ترمي إلى ممارسة الإرهاب، ولكنّ إبعاد شخص بسبب قناعاته وسلوكه في حياته الخاصة يثير مشكلات واعتراضات القضاء وغيره. ولكن الوزير قال إنه يمكن مثلًا اتخاذ إجراءات تأديبية أو على الأقل نقل الموظف إلى مواقع أقل حساسية وخطرًا، أو منعه من حمل سلاح. وثار أيضًا نقاش حول المعايير التي تسمح برصد تحول شخص ما إلى التطرف، مثل تربية الذقن أو رفض الاختلاط ورفض مصافحة النساء والتعامل معهن، كمؤشرات على التطرف، فهل يعتبر تردد الموظف على مساجد تبث الفكر السلفي سببًا كافيًا لاتخاذ إجراءات ضده؟ وهل إرسال الأبناء إلى مدارس سلفية دليل قاطع على التطرف؟ وهل التعبير عن الفرحة وعن التأييد لهجوم إرهابي دليل على التطرف؟
قد يبدو السؤال سخيفًا، ولكنه ثار فيما يتعلق بموقف متدينين من قتل محرري صحيفة يسارية اعتادت السخرية من الأديان والأنبياء. وهل الدعوة اللحوحة إلى اعتناق دين بين صفوف زملاء العمل دليل على التطرف؟ وهل الحجاب والنقاب من علامات التطرف؟
بشكل عام، ومع إدراكي لاختلاف تعريف ومعايير التطرف من مجتمع إلى آخر؛ إلا أنني أرى أن النقاش دل على جهل بالثقافات الإسلامية، وعلى عجز نسبي عن التمييز بين المحافظين والمتأسلمين.
3- ثار جدل واسع حول دلالة موقفين؛ الأول موقف الوزير الذي تسرع في نفي الطابع الإرهابي للحادث قبل أن يضطر إلى التراجع بعد أن كذبته التحقيقات الصحفية. الموقف الثاني هو عدم إبلاغ زملاء القاتل السلطات بتطرفه الواضح، رغم أن نشاطهم الرئيسي هو مراقبة التطرف. وتم تفسير الموقفين بالثقافة العامة للنخب والمجتمع، والمناخ الذي تتسبب فيه وسائل الإعلام؛ حيث قيل إن موقف الوزير يمكن تفسيره بممارسة النخب الليبرالية سياسة “النعامة” في مواجهة “التأسلم”، حيث تقلل من خطره وتراه تعبيرًا مشروعًا عن الهوية ورفضًا للظلم الاجتماعي والتمييز، بل إنها تتحالف أحيانًا معه لأسباب انتخابية. بينما تنتهج تلك النخب سياسة التصدي الصارم لليمين الشعبوي، الذي لم يعد يمارس العنف في فرنسا. ودون دخول في تفصيلات لا يتسع المجال لها هنا، فإن فهم النخب للقضية تغير إلى الأحسن، لكن المشكلة لم تختفِ، وقد تتفاقم مرة أخرى. ويُفسر موقف زملاء القاتل الرافض لإبلاغ السلطات بتطرفه بعوامل عديدة، منها الذاكرة التاريخية وتحديدًا تاريخ البلاغات الكيدية أثناء الحرب العالمية الثانية، والخوف التقليدي في البيروقراطية الفرنسية من المواجهة والمفاتحة، والخشية من الاتهامات شبه التلقائية التي يلقيها بعض القضاة ووسائل الإعلام من معاداة الإسلام والعنصرية (القاتل أسود البشرة ومسلم ومعاق)، وميل المديرين إلى طلب تقارير مكتوبة لتغطية موقفهم وإلقاء اللوم على المرؤوس إن رفض القضاء الإجراءات ضد المتطرف. والآن هناك احتمال بأن يتحول المناخ العام إلى نقيضه، وأن يتسرع الجميع إلى التقدم ببلاغات عند رصد أي سلوك لا يلقى القبول، وأن يتسرع المسئولون في اتخاذ إجراءات قد تكون تعسفية وظالمة.
4- يمكننا تلخيص موقف الوزير والحكومة في جملة “هناك ثغرات ولكن القوانين الحالية كافية ولا داعي لتعديلها، ولا يمكن التحدث عن قصور أو خطأ”. وقد يرى البعض أن هذا الكلام غير دقيق، لأنه من المفروض مثلًا أن تتم مراجعة موقف كل موظف له حق الاطلاع على الوثائق السرية عند زواجه، وهذا لم يتم في حالة القاتل. وقد نجح القاتل في دخول مقر مخابرات مديرية أمن باريس حاملًا أسلحة بيضاء، فإذا افترضنا أن كلام الوزير صحيح في مجمله، وحاولنا تأمل مغزاه، وانطلقنا من افتراض أن القوانين كافية ولم يحدث تقصير، فمعنى ذلك: أ. أن الإمكانيات المتاحة غير كافية للمتابعة الدورية أو الدائمة. ب. أن الثقافة السائدة رافضة لأي شكل من أشكال الرقابة، لا سيما إن اقتضت تقديم بلاغات، وهي عاجزة عن فهم معنى ومؤشرات التطرف. ج. أن الهيكل التنظيمي للجهات السيادية يعاني من خلل ما. والحقيقة أن الإمكانيات البشرية والمادية ليست كافية، ولا سيما إن كان ضروريًّا تغيير معدلات المراجعة الدورية لموقف وسلوك الموظفين (أن تتم كل سنة مثلًا). والحقيقة أيضًا أن الثقافة والخطابات السائدة، بإيجابياتها (التمسك بالحقوق وبدولة القانون ورفض التمييز) وسلبياتها (نوع من التسيب، وكراهية الذات، وتراجع نسبي لأخلاقيات العمل، وتزايد تأثير الخطابات الهدامة) تعقد المشكلة. والحقيقة أيضًا أن هناك مشكلات تنظيمية تتعلق بتنظيم عمل الأجهزة الأمنية وبوضع مخابرات مديرية أمن باريس. وقد أقر الوزير بصحة تلك النقطة، ولكنه رفض الخوض فيها لدعاوى السرية.
5- رصد كل المحاورين والخبراء ارتفاع نسبة المتطرفين في أوساط الشباب المسلم، وأرجعوه إلى عدد من الأسباب، أهمها: الأزمة الاقتصادية، وتراجع أداء التعليم الحكومي، والتأثير الضار للتمويل الخليجي والتركي، وميل السياسيين والسلطات في المحليات إلى التساهل مع المتأسلمين لأسباب انتخابية ولمساهمتهم في مكافحة الإجرام. ونكتفي هنا بالإشارة إلى موقف السلطات المتناقض والمتغير من قضايا التمويل الأجنبي ومن استثمارات بعض الدول في الضواحي، فهي من ناحية تريد “إسلامًا فرنسيًّا” يكون ابن البيئة الفرنسية متصالحًا معها. ومن ناحية أخرى، تعتمد على عون دول إسلامية في بعض الملفات ذات الطابع الديني. وحاليًّا تراهن بعض السلطات على الشبكات الصوفية المغربية. ونشير هنا على عجالة إلى تنامي وتزايد عدد المثقفين والنشطاء ورجال الدين المسلمين الرافضين للتأسلم ولتأويلاته ولمحاولاته فرض وصايا صارمة وشاملة على سلوك المسلمين والمسلمات وعلى التحدث باسم الإسلام، ولكنهم شأن أغلب القوى المدنية العربية يفتقرون إلى التنظيم.
لن نجازف كثيرًا إن قلنا إن الحادث الإرهابي لن يكون الأخير، وإن الأداء الأمني ما زال موضع تساؤلات، وإن استمرار الحوادث الإرهابية أدى وسيؤدي إلى سياسات تجاه المسلمين يغلب عليها الطابع الأمني على حساب الجوانب الأخرى. فعلى سبيل المثال، من السهل تمويل دراسات عن التطرف، ومن الصعب الحصول على تمويل لدراسة الحياة اليومية للمسلمين. ونختتم قائلين إن معركة الأفكار ما زالت في بدايتها، وإن هناك أسبابًا قوية تدعو للتشاؤم وأخرى تدعو للتفاؤل.