شكّل انعقاد القمة الثلاثية بين مصر وقبرص واليونان والتي استضافتها القاهرة (8 أكتوبر 2019) بحضور كلٍّ من الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، ونظيره القبرصي “نيكوس أناستاسياديس”، ورئيس وزراء اليونان “كيرياكوس ميتسوتاكيس”؛ تحولًا مهمًّا في اتجاه تعميق التعاون والتكامل في عدد من الملفات والقضايا، فضلًا عن العمل على السيطرة على المخاطر والتحديات القائمة والتهديدات المُحتملة من أجل تعظيم المكاسب واستغلال وتعزيز القدرات المشتركة لدى أطراف التحالف لضمان الأمن الإقليمي لمنطقة شرق المتوسط.
ويحاول هذا التقرير الوقوف على السياق العام المُصاحب لانعقاد القمة السابعة، فضلًا عن مخرجات القمة وما طرأ عليها من قضايا ذات اهتمام مشترك، وصولًا لتحركات مصر الفاعلة تجاه منطقة شرق المتوسط والمكاسب المحتملة من هذه التحركات.
سياقات حاكمة
جاءت القمة السابعة بين الدول الثلاث في سياق عدد من التطورات التي بدت ملامحها في التشكل والظهور. ونشير فيما يلي إلى أهم هذه التطورات:
1- تُعتبر هذه القمة هي الأولى من نوعها منذ الإعلان عن تدشين “منتدى غاز شرق المتوسط” في القاهرة (يناير 2019) والذي يضم 7 دول، هي: مصر، فلسطين، الأردن، قبرص، إسرائيل، اليونان، إيطاليا، بغرض إنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح هذه الدول، فضلًا عن ضمان التعاون فيما بينها عبر سياسات إقليمية مشتركة بشأن الغاز الطبيعي، ناهيك عن تأمين احتياجات الدول المُستهلكة من الغاز الطبيعي، وكذا خدمة والتأكيد على مصالح الدول الأعضاء وفقًا لمبادئ القانون الدولي.
2- جاءت هذه القمة أيضًا في ظل استمرار التصعيد التركي في منطقة شرق المتوسط، حيث لا تزال أنقرة تعمل على مخالفة القوانين والمواثيق الدولية من خلال اعتراضها على اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص، وإسرائيل وقبرص، بالإضافة إلى محاولة زعزعة الاستقرار في هذه المنطقة عبر الشروع في مناورات عسكرية في منطقة شرق المتوسط (مناورة “الوطن الأزرق” في فبراير 2019، ومناورة “ذئب البحر” في مايو 2019) والتي تأتي ضمن الإجراءات التصعيدية والاستفزازية التي تقوم بها تركيا في تلك المنطقة، وكان آخرها إرسال سفينة الحفر التركية “ياووز” (7 أكتوبر 2019) للتنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية لقبرص.
3- جاء انعقاد القمة في ظل عدد من التعقيدات والتشابكات والقضايا الطارئة على الساحة الإقليمية والدولية، ويأتي في مقدمتها التدخل العسكري التركي في شمال شرق سوريا، فضلًا عن استمرار الصراع بين الميليشيات المسلحة في ليبيا والجيش الوطني الليبي، ناهيك عن بروز عدد من الاتجاهات التي ترجح إمكانية استعادة التنظيمات والجماعات الإرهابية تموضعها مرة أخرى، الأمر الذي انعكس على مخرجات البيان الختامي للقمة، والذي اتسعت قضاياه وتنوعت لتشمل: مكافحة الإرهاب، والصراعات الإقليمية، وأزمة سد النهضة، والهجرة غير الشرعية، وغيرها من القضايا.
دوافع ومحفزات
ترتيبًا على ما سبق يمكن الوقوف فيما يلي على أبرز الدوافع والمحددات المحفزة لمزيد من التقارب بين مصر وقبرص واليونان:
1- الرغبة المتبادلة في تعزيز الشراكة الاستراتيجية: تستهدف الدول الثلاث (مصر وقبرص واليونان) تعزيز وتقوية الشراكة الاستراتيجية بينها من خلال الحرص على استمرار انعقاد هذه القمة، حيث وضعت هذه الدول آلية للتعامل والتعاون الثلاثي، والتي بدأت دورتها الأولى في نوفمبر 2014، حيث توالى انعقاد القمم بشكل دوري في عواصم الدول الثلاث، وصولًا للقمة السابعة (أكتوبر 2019). وقد بدأت هذه القمم في توسيع نطاق التفاهم حول عدد من القضايا محل الاهتمام المُشترك، بحيث باتت هذه القضايا تحمل في طياتها رؤى استراتيجية لحدود وطبيعة العلاقة المستقبلية بينها. وقد أفرزت هذه القمم الإعلان عن تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط”، فضلًا عن ترسيخ وتعزيز التقارب العربي-الأوروبي الذي ترجمته القمة العربية-الأوروبية التي استضافتها مصر في فبراير 2019، ناهيك عن تعزيز التعاون في المجال الأمني والعسكري، وهو ما بدا واضحًا من خلال انطلاق المناورات العسكرية “ميدوزا”، وهي عبارة عن مناورات بحرية جوية مشتركة تشارك فيها عناصر الدول الثلاث بغرض القيام بعدد من الأنشطة، منها: التدريب والتخطيط، وإدارة أعمال القتال البحرية والجوية، وتبادل الخبرات، والعمل على رفع الكفاءة، وغيرها من الأهداف. كما أعربت الدول الثلاث عن أهمية تكثيف الجهود بشأن إنشاء أمانة دائمة لآلية التعاون الثلاثي على أن يكون مقرها العاصمة القبرصية “نيقوسيا”، الأمر الذي يمهد إلى مأسسة هذا التعاون وتوسيع آفاقه.
2- الحاجة إلى مجابهة التهديدات المحتملة: تعمل الدول الثلاث عبر تحالفها على تطويق وتحجيم كافة المخاطر والتهديدات التي يمكنها أن تؤثر على مصالحها المشروعة والقانونية، حيث تعمل على ردع أنقرة للحيلولة دون استمرارها في التدخلات غير المبررة وحثها وتحذيرها من مواصلة الأعمال الاستفزازية في منطقة شرق المتوسط والتي تتنافى مع قواعد القانون الدولي للبحار، خاصة في ظل إصرار تركيا على التنقيب عن الغاز الطبيعي قبالة السواحل القبرصية وفي المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص تحت زعم أنها تناصر قضية القبارصة الأتراك التي لا يعترف بها سوى تركيا، الأمر الذي عبّر عنه البيان الختامي للقمة، والذي أدان كافة هذه التدخلات واعتبرها تهديدًا للأمن والاستقرار والسلام في منطقة شرق المتوسط، حيث طالبوا بإنهاء كافة الأعمال التركية الاستفزازية تجاه قبرص والمنطقة بشكل عام. كما شدد البيان على أهمية سحب القوات الأجنبية كشرط أساسي يدعم ويعزز سيادة قبرص. في الوقت ذاته، اتفقت الدول الثلاث على ضرورة إنهاء الغزو التركي لسوريا، ووقف عملية التتريك الممنهج للشمال السوري، والحفاظ على وحدة الأراضي، إذ إن هذا التدخل من شأنه أن يؤثر على السلم والأمن الإقليميين.
3- العمل على تنمية الروابط الاقتصادية: نجم عن التقارب المصري اليوناني القبرصي توسيع المعاملات التجارية والاستثمارية بين البلدين، إذ يعمل هذا التحالف على تعزيز وتقوية العلاقات الاقتصادية، ودفعها نحو مزيدٍ من التعاون والتكامل. وقد عكس ذلك عددًا من المؤشرات، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري بين مصر واليونان خلال النصف الأول من عام 2019 ليصل إلى 906.1 مليون يورو مقارنة بـ816.8 خلال الفترة ذاتها من عام 2018 (جهاز التمثيل التجاري المصري). كما ارتفعت قيمة الصادرات المصرية خلال الفترة نفسها لتصل إلى 467.7 مليون يورو مقارنة بـ290.7 مليون يورو خلال الفترة نفسها من عام 2018. كما وصل حجم الاستثمارات اليونانية في مصر نحو 155 مليون دولار في 160 مشروعًا في عددٍ من المجالات كالصناعة، والخدمات، والإنشاءات، والسياحة، والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، والزراعة، وهو ما عبّر عنه المهندس “طارق قابيل” (وزير التجارة والصناعة آنذاك) أثناء كلمته بمنتدى الأعمال المصري اليوناني القبرصي (مايو 2018). وارتفع أيضًا حجم التبادل التجاري بين مصر وقبرص، حيث وصل إلى حوالي 45 مليون يورو عام 2017، محققًا فائضًا بالميزان التجاري لصالح مصر بلغ 21 مليون يورو، مقارنة بفائض بلغ 5 ملايين يورو في عام 2016.
دائرة جديدة ومكاسب حقيقية
ثمة مكاسب أفرزها التقارب المصري- اليوناني- القبرصي الناجم عن اكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط، الأمر الذي يمكن أن ينعكس على عدد من الملفات والمصالح المصرية، على النحو التالي:
1- ساعد التقارب الثلاثي، وكذا الاكتشافات المتنامية للغاز التي شهدتها منطقة شرق المتوسط والتي بدأت عام 2009، في إعادة توجيه جهود السياسة الخارجية المصرية نحو الدائرة المتوسطية كإحدى دوائر السياسة الخارجية، وذلك من خلال العمل على وضع صيغ تكاملية في إطار تفاهمات مع الفواعل المؤثرين في هذه المنطقة، انطلاقًا مما تشكله هذه المنطقة من عمق استراتيجي لمصر وباعتبارها ضمانة للأمن القومي المصري.
2- أسفر التحالف الثلاثي وتعظيم مصر لاستفادتها من اكتشافات الغاز عن تحقيق مصر اكتفاءها الذاتي من الغاز الطبيعي، إذ تسلمت مصر آخر شحنة غاز مستوردة في نهاية سبتمبر 2018. وقد بلغ إنتاج الغاز الطبيعي في مصر أعلى معدلاته خلال شهر سبتمبر 2019 ليصل إلى حوالي 7.2 مليارات قدم مكعب يوميًا، وفقًا لما أعلنه المهندس “أسامة البقلي” رئيس الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية.
3- ساهمت سياسة مصر الخارجية تجاه دول شرق المتوسط في تعزيز فرص مصر في الخروج من قائمة الدول المستوردة للغاز، ودخولها نادي الدول المصدرة، وهو ما يعني مزيدًا من استقلالية مصر في هذا المجال. فقد أكد تقرير صادر عن وكالة “بلومبرج” أن مصر ستصبح ضمن الدول العشر الكبرى في الاحتياطات النفطية نظرًا لاحتواء حوض شرق المتوسط على مخزون ضخم من الغاز بلغ نحو 340 تريليون قدم مكعب بعدما كان 122 ترليون قدم مكعب عام 2010.
4- نجحت مصر في حصد ثمار أولية لتدشين منتدى غاز شرق المتوسط وتقاربها مع الدول المكونة له، حيث سيساهم هذا التقارب في تحويل مصر لمركز إقليمي للطاقة، عبر تجميع الغاز من الدول المكونة للمنتدى وتسييلها عبر محطتي “إدكو ودمياط” قبل نقلها إلى أوروبا، وهو ما يؤدي إلى جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى مصر، الأمر الذي أثار حفيظة وقلق عدد من الدول، في مقدمتها قطر، فمن شأن ذلك تقليل اعتماد الدول الأوروبية على الغاز القطري، وهو ما أقرته وكالة بلومبرج، حيث أشارت إلى أن “الاكتشافات الضخمة لحقول الغاز في مصر أضرت بمكانة قطر في السوق العالمية”، وهو ما يفسر السلوك القطري تجاه مصر.