تنطلق في الرابع والعشرين من أكتوبر الجاري (2019) أول قمة روسية- إفريقية، حيث أعلن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عن مبادرته عقد قمة روسية-إفريقية بمشاركة رؤساء الدول الإفريقية، تسبقها لقاءات لرجال أعمال وخبراء وشخصيات اجتماعية بارزة تحضيرًا للقمة، وهو ما ترجمه الجانب الروسي بالإعلان عن عقده منتدى الأعمال الروسي الإفريقي (المنتدى الاقتصادي) يومي الثالث والعشرين والرابع والعشرين من أكتوبر.
ومن المقرر أن تُعقَد هذه القمة كل عامين أو ثلاثة أعوام. وبحسب الخارجية المصرية: “سوف تركز القمة على حالة وآفاق علاقات روسيا مع الدول الإفريقية، وتنمية التعاون السياسي والاقتصادي والفني والثقافي. كما ستتم مناقشة مجموعة واسعة من القضايا المطروحة على الأجندة الدولية، بما في ذلك الجهود المشتركة لمواجهة التحديات والتهديدات الناشئة، بالإضافة إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي. ومن المتوقع أن يتبنى الاجتماع إعلانًا سياسيًّا حول المجالات الرئيسية للتعاون الروسي الإفريقي”.
وبالنسبة للمنتدى الاقتصادي، فمن المتوقع أن يشارك فيه رؤساء الدول الإفريقية، وممثلو الوكالات التجارية والحكومية الروسية والإفريقية والدولية، وممثلو جمعيات التكامل الإفريقية. وسيرتكز النقاش بالمنتدى على ثلاثة محاور رئيسية، هي: “تطوير العلاقات الاقتصادية”، و”إنشاء مشاريع مشتركة”، و”التعاون في المجالات الإنسانية والاجتماعية”. وتبرز أهمية كل من القمة والمنتدى الاقتصادي في كونهما الحدث الأول الجامع للرئيس الروسي مع القادة الأفارقة على غرار منتدى “التعاون الإفريقي الصيني”، والمنتدى “الإفريقي الأوروبي”، كما يتزامن الحدث مع رئاسة مصر الحالية للاتحاد الإفريقي.
الحضور الروسي في إفريقيا
تُعد القمة الروسية الإفريقية نتاجًا لسلسلة من التطورات المهمة في العلاقة بين الجانبين، سواءً على المستوى الثنائي أو متعدد الأطراف. ففي المجال الثنائي، يبرز التعاون الاقتصادي والعسكري كمحرك أساسي للسياسة الروسية داخل النطاق الإفريقي. فمن الناحية الاقتصادية، شهدت معدلات التجارة والاستثمار الروسية الإفريقية نموًّا بنسبة 185% خلال الفترة من 2005 إلى 2015. وبحسب وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف”، فقد ارتفع معدل التبادل التجاري بين روسيا ودول إفريقيا إلى أكثر من 17% خلال عام 2018، بما تجاوز 20 مليار دولار. وتتركز الاستثمارات الروسية الرئيسية بالقارة في قطاعات النفط والغاز والطاقة النووية. وإلى جانب مصر، ازدادت وتيرة الاستثمارات الروسية في بعض دول القارة الإفريقية، مثل زيمبابوي وأنجولا وزامبيا وموزمبيق وغينيا والجابون وجنوب إفريقيا ونيجريا والكاميرون.
ومن الناحية العسكرية، تعد روسيا مورّدًا رئيسيًّا للأسلحة لكل من شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء، بجانب توقيعها العديد من الاتفاقيات العسكرية الثنائية. كما يشارك العديد من الجنود الروس بعمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الدول الإفريقية، والذين يفوق عددهم أعداد الجنود من فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وإلى جانب المجال الاقتصادي والعسكري، تسعى روسيا إلى تدعيم علاقاتها السياسية الدبلوماسية وأيضًا الشعبية. فأصبح لروسيا 40 سفارة ومقرًّا دبلوماسيًّا وبعثات تجارية في الدول الإفريقية، فضلًا عن إنشائها العديد من المراكز الثقافية الفكرية الروسية بعدد من الدول الإفريقية، وتوفير منح تعليمية لبعض البلدان من أجل الدراسة في روسيا.
يُضاف إلى ما تقدم، قيام الجانب الروسي بزيارات رسمية لعدد من دول القارة. فقد كان لوزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” جولة إفريقية في مارس 2018، شملت ناميبيا وزيمبابوي وأنغولا وموزمبيق وإثيوبيا. وخلال الفترة من يناير إلى أبريل 2019 زار “لافروف” دول المغرب، والجزائر، وتونس، ومصر.
ومن ناحية أخرى، عملت روسيا على تدعيم علاقاتها الإفريقية متعددة الأطراف، وذلك من خلال تنظيمها منتدى التجارة والاستثمار الروسي-الإفريقي RAF TIF في نوفمبر 2018، وهو منتدى استثماري ومالي دولي رفيع المستوى يجمع بين قادة الفكر وصانعي السياسات والمستثمرين من روسيا وإفريقيا بما في ذلك المنظمات الدولية على منصة واحدة، لمناقشة فرص التبادل التجاري المشترك، والاستثمار بين المنطقتين. واستهدف المنتدى مساعدة الشركات الروسية على الدخول والعمل في إفريقيا وتوسيع تواجدها بمجال الاستثمار الإفريقي، وذلك في مقابل إعلام الشركات الإفريقية بالعروض التجارية الروسية.
وإلى جانب المنتدى، استضافت موسكو في يونيو 2019 الاجتماع السنوي للمساهمين ببنك الاستيراد والتصدير الإفريقي Afreximbank، حيث يُعد “المركز الروسي للصادرات” من ضمن مساهمي البنك منذ ديسمبر 2017. وتولى المركز تنظيم الحدث إلى جانب كلٍّ من وزارة الصناعة والتجارة الروسية، ووزارة الخارجية الروسية، ومؤسسة روسكونغرس، والبنك الإفريقي للاستيراد والتصدير. كما تم عقد مائدة مستديرة حول الطاقة الروسية-الإفريقية خلال أسبوع الطاقة الروسي في عام 2018، إلى جانب عقد حوارٍ تجاري روسي-إفريقي تقليدي بمنتدى سان بطرسبرج الاقتصادي الدولي. وأخيرًا، قدم “بوتين” دعوة للشركاء الأفارقة للانضمام إلى العمل باستراتيجية الشراكة الاقتصادية للبريكس والتي تم اعتمادها عام 2015، والتي ترتكز على مجالات الاقتصاد والقطاع المالي، والأمن الغذائي.
وعلى صعيد التحضير للقمة، استضافت موسكو في يوليو 2019 المؤتمر البرلماني “روسيا – إفريقيا”. وتنبع أهمية توطيد العلاقات البرلمانية الروسية الإفريقية من الدور الذي يمكن أن يقوم به البرلمانيون في مجال تهيئة المناخ، وتوفير البيئة التشريعية المواتية لجذب وتعظيم الاستثمارات المتبادلة، وتعزيز التعاون التجاري والاقتصادي الإفريقي الروسي، وذلك من خلال العمل على سرعة التصديق على الاتفاقيات الثنائية الموقّعة مع الجانب الروسي، إلى جانب مراجعة التشريعات القائمة بما يُزيل أي عقبات قد تعترض تطوير التعاون الاقتصادي بين الجانبين.
وشهدت الفترة الماضية تكثيف اللقاءات والاجتماعات المنعقدة بين الجانبين الروسي والمصري (باعتبار مصر رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي) وذلك في إطار التحضير للقمة المرتقبة. وكان آخر تلك الاجتماعات يوم السادس والعشرين من سبتمبر 2019، حيث عقد السفير “إيهاب نصر” (سفير جمهورية مصر العربية في روسيا) والسفير “ميخائيل بوجدانوف” (نائب وزير الخارجية الروسي ومبعوث الرئيس “بوتين” للشرق الأوسط وإفريقيا) جلسة إحاطة بمقر وزارة الخارجية الروسية لسفراء وممثلي البعثات الدبلوماسية الإفريقية المعتمدة لدى موسكو، وذلك بغرض الاتفاق على الترتيبات الخاصة بالقمة والمنتدى الاقتصادي. وخلال تلك الاجتماعات الممهدة للقمة تم التأكيد على أهمية القضايا التي سيتم مناقشتها بالقمة، والتي يأتي في مقدمتها مجالات تعزيز التجارة والاستثمار، حيث تأتي تلك المجالات على رأس أولويات الجانبين الروسي والإفريقي، وهو ما يُستدل عليه بانعقاد “المنتدى الاقتصادي” على هامش أعمال القمة. ومن المتوقّع أن تُسفر القمة عن عقد شراكات روسية- إفريقية، فضلًا عن اتفاقيات تجارية واستثمارية تُسهم في دفع مسيرة التنمية بالقارة، وهو أحد الأهداف التي تحرص مصر على تحقيقها ضمن رئاستها للاتحاد الإفريقي لعام 2019.
فرص ومعوقات نجاح القمة
بحسب وزير الخارجية الروسي، سيغلب على القمة الطابع الاقتصادي، بما يستوجب معه تحديد المشاركين الروس في إطار التعاون الثنائي أو المتعدد الأطراف، الذين لا يلتزمون فقط بالتعاون طويل الأجل، بل وعلى استعداد للاستثمار واسع النطاق بالأسواق الإفريقية بجانب تحديد رجال الأعمال الأفارقة المتطلعين للعمل بالسوق الروسية. ومن ثم، من المتوقع أن تركز روسيا على طرح سبل تحقيق التعاون الاقتصادي مع دول القارة، وبالأخص التعاون الروسي-الإفريقي بشأن توفير آليات محددة لتمويل مشروعات البنية التحتية العابرة للحدود في مجالات النقل والاتصالات، وذلك بالتعاون بين المؤسسات الاقتصادية الإفريقية، كالبنك الإفريقي للتنمية، ونيباد، وصندوق الاستثمارات الروسي. هذا بالإضافة إلى بحث سبل تعزيز الاستثمار الروسي بالقارة في مجالات الطاقة والتعدين، إما من خلال تجديد نطاق الاتفاقات القائمة، أو عقد اتفاقات جديدة مع دول إفريقية أخرى بما يُسهم في توسيع نطاق الحضور الروسي داخل دول القارة. أيضًا، قد تشهد القمة تناول سبل إنشاء منطقة تجارة حرة بين دول القارة من خلال مؤسساتها الاقتصادية واتحاد أوراسيا الاقتصادي الذي تقوده روسيا، وهو الاتفاق الذي سبق التوصل إليه بين الجانبين المصري الروسي في فبراير 2015.
كذلك قد يحظى موضوع مكافحة الإرهاب بمساحة مهمة على أجندة القمة، بالنظر إلى الاهتمام الذي توليه روسيا لهذا الملف. ففي إطار حضورها الإفريقي تتعاون روسيا مع الكاميرون في حرب الأخيرة ضد “بوكو حرام” من خلال تزويدها بالأسلحة، إلى جانب تدريب روسيا للقوات الخاصة النيجيرية في إطار مواجهتها للجماعة نفسها. وعلى هامش الاجتماعات، قد يتم عقد لقاءات ثنائية على هامش القمة حول دعم التعاون العسكري، وتوقيع اتفاقات في مجال توريد الأسلحة، أو تقديم الخبرة الروسية التقنية في المجال العسكري، أو التدريب في مجال حفظ الأمن، كتعاونها الحالي مع إفريقيا الوسطى.
في المقابل، قد تبرز بعض العراقيل أو الخلافات التي قد تؤثر على فعالية وجدوى القمة. وقد تبرز الخلافات الإفريقية كعائق أمام التوصل إلى توافق إفريقي كامل مع روسيا حول قضايا أو ملفات محددة. كذلك قد تسعى بعض القوى الإقليمية الإفريقية إلى إبراز تواجدها بشكل يؤثر سلبًا على مسار القمة.
من ناحية أخرى، قد يسعى الجانب الروسي إلى تعزيز تواجده العسكري بالقارة من خلال إنشاء قواعد عسكرية في سياق مواجهته للفاعلين الدوليين بالقارة كالولايات المتحدة والصين، على حساب السيادة الوطنية للدول المقام بها تلك القواعد. حيث يدور الحديث حاليًّا حول اتفاق روسي-إريتري بشأن إنشاء روسيا قاعدة لوجستيات بإريتريا، بما يمكنها من الوصول إلى البحر الأحمر. وإلى جانب إريتريا، يُشار أيضًا إلى منطقة “أرض الصومال” كموطن لقاعدة روسية بحرية محتملة تحظى بأهمية كبيرة في سياق مشروع إحياء البحرية الروسية؛ وذلك لما ستحتويه القاعدة من معدات وسفن ومهبط للطائرات. وتأتي أهمية تلك القاعدة من كونها ستكون قريبة من الحدود مع جيبوتي، موطن العديد من القواعد العسكرية الأجنبية بالقارة. لكن لا تقف خطورة هذه القاعدة عند إنقاص السيادة الصومالية فحسب، بل قد يمتد الأمر إلى الإسهام الروسي في تصاعد احتمالات انفصال إقليم “أرض الصومال” عن “جمهورية الصومال الاتحادية”.
أخيرًا، قد تلجأ الدول الإفريقية إلى اتباع أسلوب “المناورة” في تفاوضها مع روسيا، فنتيجة لتزايد الاهتمام الدولي بالقارة وتنامي أدوار الفاعلين من القوى الدولية أو الإقليمية، فقد تعمل دول القارة نحو تعظيم استفادتها من خلال اتباعها أسلوب المناورة بين روسيا والقوى الدولية الأخرى على نحو قد يؤدي إلى فشل الأطراف فى إنجاح القمة.
ختامًا، يمثل نجاح القمة الروسية- الإفريقية فرصة كبيرة للجانبين الإفريقي والروسي. فمن الناحية الإفريقية، فإن جذبه لاستثمارات جديدة في إطار من التعاون متعدد الأطراف من شأنه الإسهام في الإسراع بتحقيق تكامل وتنمية البنى التحتية بين دول القارة بما يخدم أهداف أجندة 2063. ومن الناحية الروسية، فإن تعزيز التواجد الروسي بالقارة يخدم منظورها حيال نظام دولي متعدد الأقطاب، إضافة إلى ما قد يمثله الجانب الإفريقي من كتلة تصويتية داعمة للسياسة الروسية بالأمم المتحدة، وما تمثله إفريقيا من سوق واعدة للخدمات والسلع الروسية. لكن يتوقف نجاح هذه القمة على ضمان تنحية الخلافات الإفريقية-الإفريقية، وتركيز النقاش على سبل ومسارات التعاون الاقتصادي، دون التطرق إلى مسارات التعاون العسكري، خاصة تلك المرتبطة بإنشاء روسيا لقواعد عسكرية جديدة لما قد يثيره ذلك من خلاف حول تأثير هذا التوجه على السيادة الوطنية، بل وتهديد وحدة أراضي دول إفريقية.