لم أفاجأ بما ذكرته بعض وكالات الأنباء في تقريرها عن مستقبل الاقتصاد العالمي في عام 2024، وتأكيدها أن أقوى 20 دولة اقتصاديًّا في العالم ستشمل دولتين عربيتين فقط، هما: السعودية (وهي دولة عضو في مجموعة العشرين)، ومصر (التي ستعد عضوًا جديدًا).
أسباب عدم التفاجؤ عديدة وبعيدة عن أي اعتبارات خاصة بالانتماء السياسي، وبعيدة أيضًا عن أي اعتبارات شوفينية، ولكنها تمتد إلى اعتبارات عديدة علمية تضرب بجذورها إلى تحولات علمية يشهدها العالم على مستوى السياسة والاقتصاد العالميين. هذه التحولات تعود إلى الثورة العلمية التي غيرت من طبيعة الأسواق الاقتصادية الثلاثة التقليدية للاقتصاد العالمي، وهي: أسواق العمل، ورأس المال، والسلع والخدمات، بمعنى أنها غيرت من طبيعة الحياة الاقتصادية، وبالتالي غيرت من أسس الاقتصاد التقليدي كما عرفناه في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع سبعينيات القرن العشرين حينما تم رصد اهتزاز المجتمعات الغربية نتيجة تحولات مهمة في القيم والأفكار أطلق عليها عالم الاجتماع السياسي الأمريكي “إنجلهارت” مفهوم “الثورة الصامتة”. وقد تبناها البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية كأساس سياسي لكافة عمليات الإصلاح الاقتصادي في العالم، خاصة أنها قيم أخذت في الانتشار في العالم بسرعة، وغيرت مواقع العديد من الدول على خريطة القيم العالمية.
هذه التحولات الاقتصادية أكدت عدة حقائق سبق أن تناولتها في بعض المقالات التي سبق نشرها في مناسبات عدة، كان آخرها على هذا الموقع، وأوضحت فيها ما يلي:
– أن هذه الثورة العلمية تختلف عما سبقها من ثورات علمية في شمولها جميعَ مظاهر الحياة دون أدنى استثناء.
– أن التغييرات المترتبة عليها سريعة للغاية، وعميقة جدًّا وكثيفة، وأنها تحقق درجة عالية من الرفاهية وغير مسبوقة للإنسان.
– أن هذه الثورة العلمية تتطلب منا ضرورة النظر إلى الأمور بفكرٍ منفتح لا يستبعد أي احتمالات غير منظورة وغير متصورة فكريًّا.
– أن هذه الثورة العلمية وانعكاساتها السياسية والاقتصادية قامت على اختراع الإنترنت وربط مليارات البشر على الأرض ببعضهم، وهذا هو مصدر قوتها أساسًا.
– أن هذه الثورة مقدمة على مرحلة جديدة من مراحل تطورها، بشّر بها المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس وفقًا لآراء 100 من أكبر رؤساء شركات المعلومات في العالم، وما يقومون به من أبحاث تطبيقية. وهذه المرحلة الجديدة تستهدف استكمال المرحلة الأولى، وذلك بربط الإنسان بالأشياء من خلال تطبيقات إنترنت الأشياء التي أصبحت على بعد مرمى حجر باليد، وهي ثورة ستبلور لنا البيئة الذكية، وتحل جميع مشكلات الأنفوسفير أو الغلاف المعلوماتي الذي نعيش فيه الآن.
– أن جميع دول العالم بدون أي استثناء ستخضع لهذا النمط الجديد من الإنترنت لأنه سيبث كونيًّا، ولن يمكن لكائن من كان ولا لدولة أيًّا كانت، لا الإبطاء من سرعته ولا التخلي عنه، وإلا فإنها تعود للعصر الحجري دون أدنى مبالغة.
– هذه المرحلة الجديدة من الثورة العلمية أطلق عليها “كلاوس شواب” (رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي) مفهوم “الثورة الصناعية الرابعة” التي تقوم على ترسيخ اقتصاديات المعرفة بالعالم.
– أن هذا الترسيخ لاقتصاديات المعرفة فتح المجال أمام أضخم ثورة اقتصادية لأنها تقوم على تغيير الأسواق الاقتصادية الثلاثة على نحو ما رأينا لاستنادها إلى مفاهيم جديدة نابعة من الاستفادة من تطورات نظرية الكوانتم وما أنجزته من تحولات في الحياة.
– أخيرًا سبق تأكيد أن إنجازات هذه المرحلة الجديدة من مراحل الثورة العلمية قادمة لا محالة شئنا أم لم نشأ، أردنا أو لم نرد، لأنها تقوم ببساطة على تشبيك البشر مع بعضهم بعضًا ومع مختلف الأشياء بلا استثناء.
لكنّ الأخطر من كل ما تقدم أن البيئة الذكية التي تتعامل مع المعلومات ذاتيًّا بدون تدخل من الإنسان، وتتخذ قرارات مصيرية بعيدًا عن الإنسان هي شرط لازم لممارسة نمط جديد من القوة في منتهى الخطورة هي قوة السيبر أو القوة السيبرانية التي يخلط معظم الباحثين بينها وبين استخدامات الكمبيوتر، سواء في المجال العسكري أو المدني بتنوعاته، وهو خلط سينتهي بمجرد ظهور إنترنت الأشياء، لأن المعيار بين استخدامات الكمبيوتر وقوة السيبر هو مدى التحكم في الآلات لتحقيق أهداف معينة يسعى إليها الإنسان في حياته، بمعنى قدرة الآلة في المستقبل القريب المنظور على تحقيق أهداف تتسق والمصالح القومية للدولة كما حددتها. ومن ثم، فإن المواصفات في استيراد آلات التصنيع مستقبلًا لن تكون فنية فقط وإنما فنية وسياسية، خاصة إن كان لهذه الآلات استخدامات لإنتاج معدات عسكرية وذخائر، أو معدات استراتيجية ثنائية الاستخدام المدني والعسكري.
الاقتصاد العالمي وفقًا لتنبؤات البنك الدولي وصندوق النقد سيشهد تباطؤًا في النمو نتيجة تقلصات اقتصادية ناتجة عن عدم إدراك طبيعة التحولات التي تطرأ على الدولة سياسيًّا واقتصاديًّا، فمعدل النمو العالمي في الوقت الراهن 3%، إلا أنه سيشهد انخفاضًا في المستقبل، وهذا راجع إلى طبيعة العولمة التي تؤدي إلى مزيدٍ من التفاوت الاقتصادي وعدم العدالة بين الدول.
كما أن الاقتصاديات الكبرى لكلٍّ من الصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية ستنخفض بدورها. على سبيل المثال، فإن مساهمة الصين في الناتج العالمي لعام 2018-2019 تبلغ 32.7%، ومن المتوقع أن تنخفض إلى 28.3% مع مطلع عام 2024.
كذلك فإن اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية سيواجه تدهور حجم إسهامه في الاقتصاد العالمي من المرتبة الثانية حاليًّا إلى المرتبة الثالثة بحلول عام 2024، خاصة أنه منذ عام 2017-2018 شهد عودة واشنطن إلى فرض سياسات حمائية ليس ضد الصين فقط ولكن ضد حلفاء الولايات المتحدة أيضًا، ورفع أسعار الفائدة الأمريكية مما أدى إلى مشكلات اقتصادية في العالم، حتى إن الأرجنتين وتركيا واجهتا مشكلات اقتصادية حادة وصلت لدرجة الأزمات.
في هذا الإطار من تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي العالمي، أكد صندوق النقد الدولي أن مؤشرات النمو للفترة حتى عام 2024 تؤكد أن مجموعة العشرين ستشهد تحولات عديدة، منها أنها ستشمل دولًا جديدة مثل مصر والمكسيك وباكستان، بينما ستغادر العضوية دول أخرى مثل إسبانيا وبولندا وكندا وفيتنام، وبذلك ستضم قائمة العشرين دولتين عربيتين هما مصر والسعودية فقط.
هنا، لا بد من إعادة الإشارة إلى مؤشرات الاستدامة لمعدلات النمو الاقتصادي المصري مستقبلًا (راجع مقال الكاتب المعنون “تجربة الإصلاح الاقتصادي في مصر”، المنشور على موقع المركز في 20 يوليو 2019)، وأولها تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي بصورة قطاعية متكاملة وليس بصورة جزئية وفقًا للتخصص الوزاري، مما يتطلب ضرورة تكامل سياسات الإصلاح الاقتصادي، والسياسات الاجتماعية الحمائية للطبقات الأكثر فقرًا، وإصلاح بيئة الاستثمار، والإصلاح النقدي، وفكرة تكامل هذه السياسات رغم انتمائها لتخصصات مختلفة. الاقتصاد والتحول الاجتماعي كيان متكامل لا غنى عن ضرورة إخضاعه لسياسة إصلاحية واحدة إذا أردنا النجاح، تمامًا كما أن الإصلاح السياسي والتعليمي والإداري والصحي قطاع واحد، ولا بد من التعامل معه على هذا الأساس إذا كنا ننشد النجاح في الإصلاح الإداري.
كذلك من أهم عناصر الاستدامة استقرار أهداف عملية الإصلاح الاقتصادي، والتي تشمل في وقت واحد ضرورة إصلاح الاختلالات الهيكلية التي كان يعاني منها الاقتصاد المصري، ورفع معدل النمو الاقتصادي، وخفض معدل البطالة، والعمل على زيادة نسبة الاستثمار الخاص، وزيادة إنتاجيته في المكون الاقتصادي القومي، وضرورة جذب الاستثمارات الأجنبية لمصر، وضرورة مشاركة القطاع الخاص المصري في ظل عالم اقتصادي واحد لا يعترف بأي نوع من الحواجز أيًّا كان نوعها، ويستند إلى اقتصاديات المعرفة تخطيطًا وإنتاجًا وتمويلًا وتسويقًا وتطويرًا.
كذلك فإن الإصلاح الاقتصادي له آثاره السلبية على الطبقات والفئات الأكثر فقرًا في المجتمع، كما أن له آثاره السلبية على السكان المهمشين، ومن ثم كان لا بد من توفير حزمة من السياسات الحمائية لهم. ومن هنا تظهر أهمية برامج الإسكان الاجتماعي، وبرنامج تطوير العشوائيات التي أحاطت بالقاهرة في نهاية عصر الرئيس الأسبق “مبارك”، وبرامج تمويل المشروعات متناهية الصغر والمشروعات الصغيرة وبرامج الدعم النقدي المباشر التي تذكرنا ببنك الفقراء الذي طبقه الاقتصادي البنجلاديشي “محمد يونس” الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2007. وكانت أيضًا مشروعات البنية التحتية، ومشروعات القطاعات المعمارية العديدة التي تعيد إلى الأذهان خطط الإنفاق الحكومي التي اتبعها الاقتصادي البريطاني “كينز” بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة بناء أوروبا، وكانت تستهدف تدوير رؤوس الأموال والحد من البطالة، وكانت من عناصر استدامة نمو الاقتصاد الأوروبي في ذلك الحين، وهي عامل رئيسي في إعادة توزيع السكان في مصر للخروج من الوادي الضيق إلى رحاب المجتمعات العمرانية الجديدة بكل ما تعنيه من تحديث لمصر.
كذلك فقد تضمن الإصلاح الاقتصادي ضرورة تحسين بيئة الاستثمار من خلال التحول إلى البيئة الرقمية، والتحول إلى سياسات الشباك الواحد للمستثمرين، مع زيادة القدرات التنظيمية لهيئة الاستثمار، وإعادة النظر في الأبعاد القانونية لهذه السياسات، والتوسع في إنشاء المزيد من المناطق الاستثمارية والمناطق الحرة. وهنا ينبغي أن نعود إلى قضيتين سبق لي تناولهما في دراساتي وأبحاثي في مجال الدراسات المستقبلية واقتصاديات المعرفة ومنصاتها الاقتصادية من قبل، ونربط هذه الأفكار المستقبلية بسياسات الإصلاح الاقتصادي باعتبار أن التجربة الاقتصادية المصرية ستكون أساسًا ونموذجًا لتقييم تجارب الدول الأخرى.
المناطق الاستثمارية الجديدة وانتشارها في محافظات عديدة مع التحول للمنظومة الرقمية يثير ما سبق تناوله عن المدن الكونية الذكية التي تعد أساسًا لسياسات العولمة، وكيف تنجز هذه المدن عدة عمليات مهمة للعولمة داخل مؤسسات الدولة القومية، وكيف أن هذه المدن تقود عملية جديدة لإعادة صياغة دور الجغرافيا من جديد لتحقيق هذه العولمة وأهدافها، ومنها زيادة إدماج الدول وظيفيًّا في عملية العولمة، وأن هذا الدور لا يزال قيد التشكيل، ولكن القاعدة العامة التي تحكمه هي أنه كلما زاد الدور العولمي الذي تلعبه المدن الذكية كلما انعكس هذا الدور على الاقتصاد المحلي للدولة، أي إن هذه المدن هي قاطرة التنمية المستدامة في الدولة، وكلما زادت أهمية هذه المدن للعالم زادت أهميتها للشرق الأوسط وعالميًّا، كما أنها مهمة لمصر. إذن، فهذه المناطق الاستثمارية المنتشرة على نطاق جغرافي واسع في محافظات مصر تؤدي في الحقيقة وظائف عالمية من خلال القيام بالاستثمار ودعم العملية الإنتاجية في مؤسسات وزارة الاستثمار والمجتمعات العمرانية الجديدة ووزارة الكهرباء وهيئة الطرق والكباري ووزارة العمل ووزارة المالية ووزارة النقل ووزارة التموين. فهل أدركنا الآن ماذا تفعل المناطق الاستثمارية الجديدة، فما بالنا وأن مجمل هذه الشبكة من التفاعلات مفتوحة عالميًّا في جوهرها وطبيعتها. نعم هناك أهداف عولمية من إنشاء المناطق أو المدن الاستثمارية تفوق في أهميتها النسب المحققة في معدلات النمو الاقتصادي نتيجة خطة الإصلاح الاقتصادي، وهذه الأهداف العولمية ينبغي أن تكون موضع تركيزنا مستقبلًا.
لماذا ينبغي أن تكون الأهداف العولمية من المدن الاستثمارية هي أساس تركيزنا مستقبلًا؟ السبب بسيط ويتمثل في أن لدينا خمسة مؤشرات عالمية لتصنيف دول العالم اقتصاديًّا وفقًا لمعيار الأخذ باقتصاديات المعرفة، وهي اقتصاديات المستقبل والأكثر ربحية وتنافسية، وهي مؤشرات مركبة تأخذ بعين الاعتبار التعليم ونوعيته إجمالًا، وتعليم علوم الكمبيوتر وتطبيقاته، وأعداد الخريجيين، ومدى توافر الخامات اللازمة لتلك الصناعات، والقدرة الاستيعابية للاقتصاد، والسياسات الاستثمارية المطبقة، والبنية القانونية والقدرة على التسويق.. إلخ، وهذه المؤشرات هي مؤشرات المنتدى الاقتصادي بدافوس، ومؤشر جولدمان ساكس، ومؤشر استاندارد آند بورز، ومؤشر داو جونز، وأخيرًا مؤشر فاينانشيال تايمز. وقد أجمعت هذه المؤشرات على أن عدد الدول الأكثر اقترابًا من نادي اقتصاديات المعرفة تتراوح بين 11 – 24 دولة، وأن أهم وأقرب ثلاثة دول منها لتحقيق هذا الهدف هي إندونيسيا في آسيا، والمكسيك في أمريكا اللاتينية، ومصر في إفريقيا. قلت ذلك منذ أسابيع وتحققت النبوءة الآن.
خلاصة القول، إن مصر لديها فرصة تاريخية، ومؤهلة للانضمام إلى أقوى اقتصادات في العالم، وهو ما أكدته دراسات عديدة. ويبقى أمام مصر فقط دعم هذا الترشح من خلال تفعيل دورها في دعم قطار العولمة الذي يقترب سريعًا من المحطة المصرية، وهذا هو أكبر ضمان لاستدامة التنمية في مصر مستقبلًا كما سبق الإيضاح.
واعتقد أن من المهم التأكيد من آن لآخر على عناصر الاستدامة للاقتصاد المصري وفقًا لقواعد ارتباط الدراسات المستقبلية بالمدرسة الواقعية في السياسة، وهذا محور مقالي القادم إن شاء الله.