جاء عقد قمة روسيا-إفريقيا، خلال يومي 23-24 أكتوبر الجاري، بمدينة سوتشي الروسية، في إطار توجه روسي لاستعادة مكانتها ودورها التاريخي في القارة الإفريقية، بما يمكنها من تأسيس منتدى لتوحيد جهودها الدبلوماسية على مستوى البلدان الإفريقية، والانتقال بمستوى التعاون الثنائي نحو تعاون متعدد الأطراف. ويأتي ذلك في سياق توجه عام للدول الكبرى نحو تأكيد المكانة والنفوذ داخل القارة، الذي يعد انعقاد القمم مع الدول الإفريقية إحدى آلياته، على غرار منتدى التعاون الصيني-الإفريقي، والقمة اليابانية-الإفريقية، وقمة الاتحاد الأوروبي وإفريقيا.
وعلى الرغم من غلبة الطابع الاقتصادي على أجندة القمة، بحسب ما تم الإعلان عنه؛ فإن المجالات الأمنية والعسكرية تحظى هي الأخرى بمساحة مهمة؛ إذ تولي روسيا المزيد من الاهتمام لهذا الجانب، بل يمكن حسبان أنها توظف التعاون العسكري من أجل إيجاد موطئ قدم لها يهيئ المجال للجوانب الاقتصادية. ففي المجال الثنائي، يبرز التعاون العسكري كمحرك أساسي للسياسة الروسية داخل القارة.
وبالعودة إلى تاريخ العلاقات بين الجانبين، نجد أن الاتحاد السوفيتي لعب دورًا تاريخيًّا في مساندة حركات التحرر الوطني في مرحلة النضال ضد الاستعمار الغربي، وتوجيه الدعم السياسي والعسكري لحكومات ما بعد الاستقلال لدول عدة، مثل: أنغولا، وموزمبيق، وغينيا بيساو، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والصومال، وإثيوبيا، وأوغندا، وبنين.
ومع تطلع روسيا لاستعادة مكانتها الدولية، بدأت محاولاتها لتنشيط العلاقة مع دول أخرى مثل موزمبيق وأنغولا. وتُرجع العديد من التحليلات تصاعد الاهتمام الاستراتيجي الروسي بالقارة الإفريقية إلى سعي روسيا لتعزيز نفوذها الاستراتيجي في الموانئ الليبية على البحر الأبيض المتوسط، فضلًا عن المراكز اللوجستية البحرية في إريتريا والسودان على البحر الأحمر، علاوة على الرغبة في النفاذ إلى مناطق الطاقة والتعدين في إفريقيا جنوب الصحراء.
واقع التعاون العسكري الروسي- الإفريقي
1- التعاون في مجال مبيعات السلاح
تعد روسيا ثاني أكبر مُصدّر للأسلحة على مستوى العالم، ومورّدًا رئيسيًّا للأسلحة لكل من شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء. وعلى مدار العقدين الماضيين، أقامت روسيا علاقات عسكرية مع مختلف البلدان الإفريقية، مثل إثيوبيا ونيجيريا وزيمبابوي، بجانب توقيعها العديد من الاتفاقيات العسكرية الثنائية. وفي عام 2017، استحوذت إفريقيا على 13٪ من إجمالي صادرات روسيا من السلاح، وتوقيع 23 صفقة تعاون أمني مع الحكومات الإفريقية.
ووفقًا لبيانات معهد استكهولم الدولي لبحوث السلام، تقدم روسيا السلاح لثماني عشرة دولة في إفريقيا جنوب الصحراء على مدار السنوات العشر الماضية، هي: أنغولا، وبوركينا فاسو، والكاميرون، وتشاد، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وغينيا الاستوائية، وإثيوبيا، وغانا، وغينيا، وكينيا، ومالي، ونيجيريا، ورواندا، وجنوب إفريقيا، وجنوب السودان، والسودان، وأوغندا، وزامبيا.
وساهم في ذلك كون السوق السوفيتية والروسية كانت مصدرًا مهمًا لأسلحة الدول الإفريقية إبان فترات التحرر، كجزء من استراتيجية أوسع لتنمية العلاقات العسكرية والسياسية والأمنية وتوسيع نفوذها في إفريقيا. وساهم ذلك في إقامة علاقات طويلة الأمد مع القادة العسكريين والسياسيين الصاعدين في القارة.
وتوفر الأسلحة الروسية الصنع عددًا من المزايا للدول الإفريقية، منها: رخص أسعارها مقارنة بمثيلاتها الغربية، وامتلاك العديد من الجيوش الإفريقية مخزونًا من السلاح من الحقبة السوفيتية يتوافق مع الأسلحة الروسية الحديثة. إذ تشتمل عقود الأسلحة الروسية غالبًا على بنود لتحديث أو إصلاح المعدات التي تعود إلى تلك الحقبة. أضف إلى ذلك عدم ربط روسيا مبيعات الأسلحة أو التعاون العسكري بالالتزام بالمعايير الديمقراطية. ويثير هذا الوضع تخوف البلدان الغربية من زيادة مبيعات الأسلحة والاتفاقيات الأمنية وبرامج التدريب للبلدان غير المستقرة أو الزعماء المستبدين، فضلًا عن مساعدتها على التنافس على النفوذ مع الولايات المتحدة وفرنسا والصين.
وتُعتبر دول شمال إفريقيا، مثل الجزائر، تقليديًّا الوجهة الأكثر أهمية للأسلحة الروسية المتقدمة؛ إذ تذهب نحو 80% من مبيعات السلاح الروسية للقارة إلى الجزائر، بحسب البنتاغون. وشكلت مبيعات السلاح الروسية إلى شمال إفريقيا خلال الفترة (2014-2018) نحو 49% من إجمالي مبيعات السلاح، فيما وصلت النسبة إلى 28% إلى إفريقيا جنوب الصحراء في الفترة نفسها، فوفقًا للوكالة الفيدرالية للتعاون العسكري والتكنولوجي، بلغت مبيعات روسيا لدول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 3 مليارات دولار.
2- التعاون العسكري والفني
وقّعت روسيا ما لا يقل عن 19 صفقة تعاون عسكري مع حكومات في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى منذ عام 2014 عندما خضعت للعقوبات الغربية بسبب ضمها شبهَ جزيرة القرم، وكثفت جهودها لتنويع شراكاتها الاقتصادية والدبلوماسية. وتشمل الصفقات وعودًا روسية بتقديم الأجهزة والتدريب، بالإضافة إلى التنسيق في مجالات مثل مكافحة الإرهاب والقرصنة.
وفي هذا الصدد، تتمتع تونس بعلاقات وثيقة في مجال الاستخبارات ومكافحة الإرهاب والطاقة مع روسيا. كما تتعاون مع الكاميرون في مجال التدريب في حربها الأخيرة ضد “بوكو حرام” من خلال تزويدها بالأسلحة، إلى جانب تدريب روسيا للقوات الخاصة النيجيرية في إطار مواجهتها للجماعة نفسها.
وفي الإطار ذاته، أعلنت روسيا دعمها لزيمبابوي وتقديم التعاون العسكري، حينما أعلن الرئيس الزيمبابوي “إيمرسون منانجاجوا” حاجة بلاده للمساعدة في تحديث روسيا لقواتها الدفاعية.
يضاف إلى ذلك الدعم الروسي المقدم إلى جمهورية إفريقيا الوسطى بداية من عام 2017، حيث قامت روسيا بتقديم التدريب للجيش والحرس الرئاسي في البلاد. وفي هذا الصدد، قدمت روسيا بداية من عام 2016 الدعم في مجال مكافحة الإرهاب وحركات التمرد إلى كل من بوركينا فاسو وبوروندي وتشاد، فضلًا عن تقديم الدعم الفني والتقني إلى كل من زامبيا وتنزانيا وسيراليون ورواندا والنيجر وموزمبيق.
3- المشاركة في عمليات حفظ وبناء السلام
وسّعت روسيا من مشاركتها في عمليات حفظ السلام في إفريقيا بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي، إذ تعد كل من روسيا والصين من أكبر الدول المشاركة في عمليات حفظ سلام في القارة. ومع ذلك، تواجه روسيا العديد من الانتقادات، أبرزها أن مشاركتها الفعلية محدودة؛ إذ تشكل مساهمتها في بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال، أقل من 0.2 في المائة من إجمالي أفراد البعثة.
كما تقدم روسيا برامج منح دراسية لتدريب أفراد حفظ السلام الإفريقيين والمتخصصين داخل المنشآت العسكرية الروسية. وفي هذا الصدد، هناك تعاون ثنائي في مجال مكافحة الإرهاب وحفظ السلام، خلال عامي 2017 و2018، بين روسيا وكل من بوتسوانا وإثيوبيا وغينيا ونيجيريا.
وفي مجال محادثات السلام، سهل الاتحاد الإفريقي مشاركة روسيا كمراقب في مختلف محادثات السلام الإفريقية، وأضفى عليها غطاء من الشرعية. ففي عام 2019، توسطت موسكو في اتفاق سلام بين حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى وجماعات المتمردين المسلحة؛ إذ كفل الوجود الأمني الروسي في البلاد دورها الحاسم في المحادثات في مقابل الدور التقليدي لفرنسا، ومع ذلك لم تنجح المحادثات حتى الآن.
وهكذا، يتضح أن الأداة العسكرية ستظل أداة رئيسية في علاقات التعاون الروسي-الإفريقي، حتى وإن كانت توظف هذه الأداة لتحقيق مصالح اقتصادية والنفاذ إلى أسواق الطاقة والنفط والتعدين. ومن المرجح أن تحاول روسيا بناء النفوذ مع دول أخرى غير تلك التي كانت تجمعهما علاقات تاريخية منذ مرحلة الاتحاد السوفيتي. فضلًا عن محاولة الارتقاء بمستوى التعاون من الأطر الثنائية إلى التعاون متعدد الأطراف.
وعلى الرغم من أن قمة “روسيا-إفريقيا” تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين الجانبين، بالنظر إلى كونه المجال الأكثر منطقية في مثل تلك المنتديات التي توفر مجالًا للحديث عن تعاون اقتصادي في ظل حساسية الحديث علنًا عن صفقات عسكرية ثنائية، إن لم تكن تدعم الأمن والاستقرار في البلاد؛ فإن ذلك لا ينفى أن السياسة والاقتصاد يسيران جنبًا إلى جنب في العلاقات الثنائية بين الجانبين.
وبالتالي فإنه بجانب الحديث عن التعاون الاقتصادي، سيظل هناك مجال للحديث الجماعي عن التعاون العسكري، الذي يضع له الاتحاد الإفريقي أطرًا على نحو يسهم في تحقيق الدعم والاستقرار والوصول إلى هدف إسكات البنادق في القارة بحلول عام 2020. ومن ثم، فإنه على الجانب الروسي تقديم الدعم العسكري والتعاون في مجالات حفظ وبناء السلام، فضلًا عن جهود مكافحة الإرهاب في القارة الإفريقية، في إطار جماعي.
من ناحية أخرى، قد يسعى الجانب الروسي إلى تعزيز تواجده العسكري بالقارة من خلال إنشاء قواعد عسكرية في سياق مواجهته للفاعلين الدوليين بالقارة كالولايات المتحدة والصين، حيث يدور الحديث حاليًّا حول اتفاق روسي-إريتري بشأن إنشاء روسيا قاعدة لوجستيات بإريتريا، بما يمكنها من الوصول إلى البحر الأحمر. وإلى جانب إريتريا، يُشار أيضًا إلى منطقة “أرض الصومال” كموطن لقاعدة روسية بحرية محتملة تحظى بأهمية كبيرة في سياق مشروع إحياء البحرية الروسية؛ وذلك لما ستحتويه القاعدة من معدات وسفن ومهبط للطائرات. وتأتي أهمية تلك القاعدة من كونها ستكون قريبة من الحدود مع جيبوتي (موطن العديد من القواعد العسكرية الأجنبية بالقارة).
تحديات مهمة
مع أهمية مجالات التعاون السابقة، لكن لازال التعاون العسكري بين روسيا وأفريقيا يواجه مجموعة من التحديات، نوجزها فيما يلي:
1- تحدي النموذج
تواجه روسيا في القارة الإفريقية انتقادات عدة؛ من بينها كونها نموذجًا مشابهًا للصين، فإذا كانت الصين تواجه انتقادات الاستغلال الاقتصادي، فإن روسيا تواجه انتقادات بدعم أنظمة استبدادية في إفريقيا، وعرقلة الجهود الدولية لتعزيز حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي من خلال المنظمات والوكالات التابعة للأمم المتحدة. ويشار في ذلك إلى نموذج الكونغو الديمقراطية في عام 2019، حينما عرقلت روسيا جهود الأمم المتحدة لفحص نتائج الانتخابات المتنازع عليها.
يضاف إلى ما سبق، تواجه روسيا انتقادات بكونها تدعم عدم الاستقرار من خلال تقديم الأسلحة ودعم الأنظمة الاستبدادية، وذلك من أجل تحقيق مصالح اقتصادية، والحصول على تسهيلات للنفاذ إلى مناجم الطاقة والتعدين. فضلًا عّما يواجهها من انتقاد بأنها لا تولي اهتمامًا كبيرًا بالقارة، وأن الاتجاه نحوها مدفوع بإضعاف هيمنة الغرب، والسعي نحو خلق نظام دولي متعدد الأطراف. في هذا السياق، أشار مستشار الأمن القومي الأمريكي “جون بولتون” إلى أن الكرملين يواصل بيع الأسلحة والطاقة في مقابل الحصول على أصوات في الأمم المتحدة تسهم في تقويض السلام والأمن، وتتعارض مع مصالح الشعب الإفريقي.
2- تحدي البديل
لا تحظى القارة الإفريقية باهتمام كبير في مفهوم السياسة الخارجية الروسية أو في استراتيجيتها للأمن القومي، وهو ما حدا بها الآن لإيلاء المزيد من الاهتمام وتوجيه نظرها صوب القارة. ويأتي ذلك في ضوء الرؤية الأمريكية القائلة بأن عودة روسيا إلى إفريقيا في السنوات الأخيرة يرجع جزئيًّا إلى تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالقارة تحت إدارة الرئيس “دونالد ترامب”. ووفقًا لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي في أواخر العام الماضي، أشار مستشار الأمن القومي “جون بولتون” إلى أن التهديد الحقيقي للمصالح الأمريكية في القارة الإفريقية لا يعود إلى تنامي الإرهاب والصراعات المسلحة؛ بل جاء مقرونًا بالتنافس الصيني والروسي على مناطق النفوذ بها. وهو المنطق نفسه الذي أكده قائد قيادة إفريقيا في البنتاغون، أمام الكونغرس في مارس الماضي، بأن روسيا تمثل تحديًا متزايدًا، واتخذت مقاربة أكثر عدوانية في إفريقيا.
وعلى الرغم مما تواجهه روسيا من تحديات تعوق التنافس مع المساعدات الخارجية الأمريكية أو الجهود الاستثمارية الشاملة للصين في القارة؛ فإن عليها بذل الكثير من الجهد لأن تصبح نموذجًا أكثر جاذبية في ظل بدائل متعددة يمكن للقادة الأفارقة المفاضلة فيما بينها، خاصة أنها تحظى بميزة نسبية في هذا الصدد، كون مجالات التعاون الروسي تأتي دون مشروطية سياسية، ما يجعلها مغرية للكثير من القادة الأفارقة.
3- تحدي التمويل
بالنظر إلى تعدد المعضلات التي تواجه التعاون الروسي-الإفريقي، بات على روسيا أن تقدم الكثير من الإغراءات التي تحظى بجاذبية لدى الدول الإفريقية، خاصة أن الصين تقدم الكثير من القروض والمنح الميسرة، فضلًا عما تقدمه الولايات المتحدة من مساعدات عسكرية. وبالتالي في ظل ما تواجهه روسيا من تحديات اقتصادية على خلفية العقوبات التي تعاني منها منذ خمس سنوات، فإنه من غير المرجح أن تغري موسكو الدول الإفريقية باستثمارات كبيرة.
بدلًا من ذلك، ستركز موسكو على توفير تعاون متبادل المنفعة في مجالات الأمن واستخراج الموارد والطاقة النووية. وبالتالي، من المرجح أن تركز الجهود الدبلوماسية الروسية الموسعة الجديدة في إفريقيا بدرجة أقل على تقديم دعم مالي بحت، وأكثر على تعزيز المزيد من شراكات الأمن والبنية التحتية العملية.
وعلى رأس ما تقدمه موسكو للقارة المساعدات الفنية والعسكرية وتدريب الجيوش، إضافة إلى ما تقدمه من دعم للكثير من الحكام الذين يواجهون حركات تمرد، فضلًا عن دعم القضايا الإفريقية في أروقة الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي تحظى بسببه بسلوك تصويتي إفريقي داعم لقضاياها الأممية. وبالتالي، يمكن القول إن الأداة العسكرية تظل الأداة الحاكمة في يد روسيا والأكثر إغراء للدول الإفريقية بشكل أكبر من الأداة الاقتصادية.