شهدت الساحة الاقتصادية الدولية نمو القطاع المالي وتزايد دوره في مختلف دول العالم. كما تطورت الخدمات والمنتجات المالية والمصرفية بسرعة مذهلة. وتزامن ذلك مع التطور التكنولوجي الهائل وتطبيقاته المختلفة على الصعيد المالي، مما دفع صناع القرار بمختلف الدول والمؤسسات الدولية إلى توجيه اهتمام متزايد لقضية الشمول المالي. وتبنت “مجموعة العشرين” G20 الشمول المالي كبند مهم في أجندة التنمية الاقتصادية والمالية. واعتبر البنك الدولي تعميم “الشمول المالي” ونشره بين جميع الفئات وسيلة مباشرة للقضاء على الفقر، وتحسين ظروف المعيشة، وتشجيع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة والكبرى. ومع إدراك الدول لدور الشمول المالي في تعزيز الاستقرار المالي ودفع النمو الاقتصادي والكفاءة المالية، فضلًا عن دوره الاجتماعي؛ فقد أدرجت العديد من الدول الشمول المالي ضمن أهدافها الاستراتيجية القومية، بجانب الأهداف المالية الثلاثة المتمثلة في: الاستقرار المالي، والنزاهة المالية، والحماية المالية للمستهلك؛ لتمثل الأهداف الأربعة مجتمعة إطارًا متكاملًا للشمول المالي تسعى الدولة من خلاله إلى تحقيق الأهداف الأربعة بأقل قدر من المفاضلة بينها فيما يعرف بنظرية I-SIP (Inclusion, Stability, Integrity and protection)
ويُعرّف الشمول المالي وفقًا لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD بأنه: “العملية التي يتم من خلالها تعزيز الوصول إلى مجموعة واسعة من الخدمات والمنتجات المالية الرسمية والخاضعة للرقابة في الوقت وبالسعر المناسبين وبالشكل الكافي، وتوسيع نطاق استخدام هذه الخدمات والمنتجات من قبل شرائح المجتمع المختلفة، من خلال تطبيق مناهج مبتكرة، تشمل التوعية والتثقيف المالي، وذلك بهدف تعزيز الرفاهية المالية والاندماج الاجتماعي والاقتصادي”.
وفي ضوء تطلع مصر لأن تصبح دولة رائدة في مجال المدفوعات الرقمية، فإنها تُولي اهتمامًا متزايدًا بالسياسات المعنية بالشمول المالي، باعتباره من ركائز النمو والتحول للاقتصاد الرقمي وتعزيز الإصلاح الاقتصادي. وقد تضمنت استراتيجية التنمية المستدامة لمصر “رؤية مصر 2030” محاور خاصة بالتنمية الاقتصادية، والشفافية، وكفاءة المؤسسات الحكومية. ويلعب البنك المركزي دورًا مهمًّا في تعزيز سياسات الشمول المالي. وقد جاء تولِّي البنك المركزي المصري لمنصب نائب رئيس مجلس إدارة التحالف الدولي للشمول المالي هذا العام، تمهيدًا لتولي مصر رئاسة المجلس العام القادم، خير دليل على جهود البنك المركزي المصري في دعم وتحفيز الشمول المالي.
في هذا الإطار، يتناول هذا المقال حالة الشمول المالي في مصر وتأثيره على النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية.
محاور تفعيل استراتيجية الشمول المالي في مصر
يعمل البنك المركزي المصري على رفع معدلات الشمول المالي من خلال 4 محاور. يقوم المحور الأول على تعزيز الرقابة من خلال إصدار التعليمات الرقابية لضمان حقوق جميع أفراد المجتمع المشمولين داخل النظام المالي. ويقوم المحور الثاني على نشر الوعي وثقافة الشمول المالي، إذ تمثل الثقافة المالية للأفراد أحد عوامل نجاح استراتيجية الشمول المالي. ويقوم المحور الثالث على خلق بيئة داعمة للشمول المالي من خلال دعم رواد الأعمال، وتشجيع المشروعات المبتكرة، وتعزيز المنتج المحلي. وأخيرًا يتمثل المحور الرابع في تطوير البنية التحتية التكنولوجية اللازمة لدعم وتحفيز استخدام وسائل وقنوات الدفع الإلكترونية بهدف التحول إلى اقتصاد أقل اعتمادًا على النقد.
وقد تم تفعيل هذه المحاور من خلال عدة آليات ومبادرات؛ ففيما يتعلق بالدور الرقابي تم العمل على خلق بيئة تشريعية مواتية للتحول نحو الشمول المالي من خلال إنشاء المجلس القومي للمدفوعات بموجب القرار الجمهوري رقم 89 لسنة 2017، والذي يهدف -بجانب دوره في تحقيق الشمول المالي- إلى حماية حقوق مستخدمي نظم وخدمات الدفع، وتنظيم عمل الكيانات القائمة ورقابتها وذلك عبر اتخاذ قرارات محددة بإطار زمني، أهمها إعداد مشروع قانون شامل لتطوير المعاملات غير النقدية، والالتزام بوضع حد أقصى لتلك المعاملات. كما تم إصدار قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات في عام 2018. كما أصدر البنك المركزي في نوفمبر 2016 القواعد الجديدة المنظِّمة لخدمات الدفع باستخدام الهاتف المحمول، وإطلاق مركز الأمن السيبراني في عام 2019.
وفيما يتعلق بنشر الوعي والثقافة المالية -المحور الثاني- أطلق البنك المركزي الاستراتيجية القومية للتثقيف المالي في عام 2014، بهدف تنمية المهارات المالية للمستثمرين والعملاء من خلال تقديم المعلومات أو المشورة التي تُمكّنهم من اتخاذ قرارات مدروسة بشأن تعاملاتهم المالية، وذلك بهدف تقليل احتمال تعرضهم للمخاطر. وتُعتبر فعاليات “اليوم العربي للشمول المالي” إحدى أهم الفعاليات الخاصة بنشر الثقافة المالية. وقد نتج عن تلك المبادرة فتح مليون حساب خلال هذه الفعاليات على مدار 4 أعوام بالقطاع المصرفي المصري.
وفيما يتعلق بخلق بيئة داعمة للشمول المالي -المحور الثالث- فقد تم تبني عدة مبادرات لدعم وتحفيز الشمول المالي، مثل مبادرة “حساب لكل مواطن” التي تم إطلاقها في عام 2017، ومبادرة التمويل العقاري التي أطلقها البنك المركزي المصري في فبراير 2014، وتم بموجبها تخصيص مبلغ 10 مليارات جنيه لمدة 20 سنة بأسعار فائدة مخفضة لتقوم البنوك بإقراضها لمحدودي ومتوسطي الدخل لمشروعات الإسكان بالمجتمعات العمرانية بسعر عائد متناقص، حيث تم تحديد نسبة الفائدة لتتراوح بين 5% إلى 7% لمحدودي الدخل حسب دخل الفرد، و8% لمتوسطي الدخل، مقابل 10.5% لفوق متوسطي الدخل بشرط ألا يتجاوز سعر الوحدة 950 ألف جنيه. وقد لاقت تلك المبادرة إقبالًا كبيرًا من المواطنين نظرًا لانخفاض نسبة الفائدة على القرض، وسهولة الحصول عليه، مما دفع البنك المركزي لرفع إجمالي الأموال المخصصة للمبادرة من 10 مليارات جنيه إلى 20 مليار جنيه.
وبجانب مبادرة التمويل العقاري، تم أيضًا إطلاق مبادرة تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة في عام 2016 بشريحة 200 مليار جنيه بفائدة 5% متناقصة للمشروعات الصغيرة، وبفائدة 7% متناقصة للمشروعات المتوسطة لتمويل القطاع الزراعي والصناعي. كما تم تخصيص 10 مليارات دولار بفائدة 12% متناقصة لتمويل المشروعات المتوسطة لتمويل رأس المال العامل للمشروعات الصناعية والزراعية والطاقة المتجددة. وقد أنهت البنوك المبلغ المحدد للمشروعات المتوسطة العام الماضي، ومن المقرر انتهاء المبادرة خلال العام الحالي 2019، حيث كان من المقرر استمرارها لمدة 4 أعوام أو لحين انتهاء التمويل المحدد أيهما أقرب.
وفي إطار التعاون والتنسيق بين السلطات النقدية والمالية، فقد تم إطلاق مشروع الدفع والتحصيل الإلكتروني الحكومي، والذي يهدف لدفع المرتبات الشهرية وكافة المستحقات الأخرى للعاملين بالحكومة من خلال بطاقات تصدرها البنوك المصرية. واعتبارًا من أول سبتمبر 2019 تم استبدال ما يقرب من 5 ملايين بطاقة لصرف مستحقات العاملين بالدولة ببطاقات الدفع الوطنية المطورة “ميزة”. وتُتيح هذه البطاقات عدة خدمات تتمثل في السحب النقدي من ماكينات الصراف الآلي ATM، والشراء الإلكتروني عبر الإنترنت، وسداد المستحقات الحكومية إلكترونيًّا من خلال منظومة الدفع والتحصيل الإلكتروني الحكومي، والشراء من خلال نقاط البيع الإلكترونية.
وأخيرًا فيما يتعلق بالمحور الرابع الخاص بإنشاء بنية تحتية تكنولوجية تدعم سياسات الشمول المالي، فقد تم تدشين استراتيجية دعم التكنولوجيا المالية والابتكار، وإنشاء مركز التكنولوجيا المالية Fintech Hub، لتحفيز ودعم الابتكار في مجال تقديم الخدمات المالية الرقمية.
وقد ترتب على تلك الجهود والمبادرات تطور ملحوظ في مؤشرات الشمول المالي وفقًا لأحدث المؤشرات الخاصة بقاعدة بيانات البنك الدولي للشمول المالي، رغم أنها ما زالت منخفضة مقارنةً بالمعدلات الإقليمية والدولية، حتى في ظل تحسنها المستمر، حيث تشير البيانات إلى ارتفاع مؤشر ملكية الحسابات المصرفية من 9.7% في عام 2011 إلى 32.8% في عام 2017، في حين بلغ المتوسط بالنسبة للدول ذات الدخل أقل من المتوسط 57.8%، كما بلغت قيمة المؤشر العالمي 68.5% في عام 2017. كذلك، تحسن مؤشر ملكية الحسابات في المؤسسات المالية من 9.7% في عام 2011 إلى 32.1% في عام 2017، وهو أقل من المتوسط السائد في الدول ذات الدخل أقل من المتوسط والذي بلغ 56.1%، وأقل من المتوسط العالمي الذي بلغ 67.1% في 2017. أيضًا، ارتفع مؤشر ملكية حسابات خدمات الدفع بالهاتف المحمول من 1.1% في عام 2014 إلى 1.8% في عام 2017، وبلغ مؤشر الدول ذات الدخل أقل من المتوسط 5.3% والمؤشر العالمي 4.4% عام 2017. أما بالنسبة لمؤشر المدفوعات الرقمية المقدمة أو المستلمة فقد ارتفع من 7.9% في عام 2014 إلى 22.8% في عام 2017، وهو أقل من المتوسط السائد في الدول ذات الدخل أقل من المتوسط الذي بلغ 29.2%، وأقل من المتوسط العالمي الذي بلغ 41.5% في عام 2017. وارتفع مؤشر الاقتراض من المؤسسات المالية واستخدام بطاقات الائتمان من 7.7% في عام 2014 إلى 8.8% في عام 2017 مقتربًا من المتوسط السائد في الدول ذات الدخل أقل من المتوسط الذي بلغ 9.8%، غير أنه ما زال بعيدًا عن المؤشر العالمي الذي بلغ 22.5% في عام 2017. أما بالنسبة لمؤشر الادخار بالمؤسسات المالية فقد ارتفع من 4.1% في عام 2014 إلى 6.2% في عام 2017 مقارنةً بحوالي 15.9% بالنسبة للدول ذات الدخل أقل من المتوسط في عام 2017.
دور الشمول المالي في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية
يلعب الشمول المالي دورًا محوريًّا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء. على المستوى الاقتصادي، هناك اتفاق واسع على أن القطاع المالي الأكثر شمولية يتسم بقدرة أكبر على جذب وتعبئة المدخرات، وتقديم الخدمات المالية والتمويلية لمختلف شرائح المجتمع، بما يُساعد في تمويل الاحتياجات الاستهلاكية والاستثمارية وتحفيز النمو الاقتصادي. كما يساعد على دمج المنشآت الصغيرة من القطاع غير الرسمي داخل الهيكل الاقتصادي الرسمي للدولة، ويضمن تطور الخدمة التي تقدمها المؤسسات المالية المدرجة في نطاقه لتوافر عنصر التنافسية بين المؤسسات. كما أنه يجنب الأفراد المخاطر العالية للخدمات المالية غير الرسمية. كذلك، يلعب الشمول المالي دورًا مهمًّا في تخفيف حدة الدورات الاقتصادية من خلال زيادة فرص النفاذ للتمويل والخدمات المصرفية، حيث يستطيع الأفراد مواجهة التغيرات الطارئة على مستويات الدخول والناتج، ويصبح الدخل الدائم أكثر استقرارًا. الشمول المالي يساهم أيضًا في تدعيم استهداف التضخم، خاصة في ظل مواجهة الاقتصاد لصدمات العرض والطلب التي تؤثر بدورها على انحراف معدل التضخم الفعلي عن المستهدف، حيث تبين أن النظام المالي الذي يتسم بالشمول يستطيع تحقيق قدر أكبر من الاستقرار في معدلات التضخم؛ وذلك من خلال سهولة نفاذ الأفراد إلى الخدمات المالية والمصرفية والمحافظة على مستوى الدخل في مواجهة صدمات الدخل.
من جهة أخرى، يرى البعض صعوبة تحقيق الاستقرار المالي في ظل نظام مالي يتسم بالشمول نظرًا لوجود شرائح كبيرة ومتباينة من السكان، فضلًا عن عدم توافر المعرفة المالية اللازمة، وعدم التماثل في المعلومات بين الأطراف المقترضة والقارضة والتي ينشأ عنها مشاكل الاختيار المعاكس؛ فغالبًا ما يتطلب الأمر من المقترضين ذوي المخاطر العالية دفع أسعار عائد أعلى مما يؤثر على أسعار التوازن بالسوق وعدم وجود استقرار مالي. إلا أن التجارب الدولية أظهرت دور الشمول المالي في دعم الاستقرار المالي، وذلك من خلال تشجيع فئات المجتمع المختلفة على استخدام المزيد من الخدمات المالية داخل النظام المالي الرسمي للدولة، فتصبح المحفظة المالية للمؤسسات المالية أكثر شمولًا وتنوعًا بما يُقلل من المخاطر المالية المحتملة، إذ غالبًا ما يميل الأفراد ذوو الدخول المنخفضة إلى الاحتفاظ بالودائع خلال فترات الأزمات النظامية، ومن ثم تمثل مصدرًا مستقرًا للتمويل بالنسبة للمصادر الأخرى.
على المستوى الاجتماعي، يمكن توضيح تأثير الشمول المالي من خلال دوره في تحسين وصول التمويل والخدمات المالية لمختلف فئات المجتمع، وما لذلك من أثر على عدالة توزيع الدخول والحد من الفقر من خلال احتوائه شرائح معينة داخل المجتمع كالفقراء ومحدودي الدخل وأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، فضلًا عن تأثيره على سوق العمل وتخفيض نسبة البطالة من خلال توفير القروض للمشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر. كما توجد علاقة قوية بين الشمول المالي وزيادة فرص توظيف الأشخاص من خارج العائلة الواحدة. ومن خلال استخدام القنوات الإلكترونية تنتقل المعونات الاجتماعية بتكلفة أقل، وتتحسن الحالة المعيشية للأفراد داخل الدولة. أضف إلى ذلك دور الشمول المالي في تقليل الفساد المالي والإداري من خلال الحد من التداول النقدي. وعلى جانب آخر، هناك دور مهم للشمول المالي في تعزيز الحماية المالية للمستهلك من خلال توفير معايير الشفافية والإفصاح عن كافة المعلومات التي تُساعد العملاء في اتخاذ قرارات مالية سليمة. فضلًا عن توفير الممارسات السوقية العادلة والمساواة في المعاملة، وتقديم المشورة الائتمانية والتثقيف المالي.
ختامًا، يمكن القول إن الشمول المالي لا يُعتبر غاية في حد ذاته بقدر ما يمثل وسيلة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتنمية الاقتصادية المستدامة، من خلال دوره في دمج الاقتصاد غير الرسمي ودفع النمو الاقتصادي وتعظيم الاستفادة من التطور التكنولوجي وتحفيز الابتكار فيصبح الاقتصاد أكثر قدرة على جذب الاستثمار وتحقيق مزيدٍ من النمو. ويلعب البنك المركزي المصري دورًا مهمًّا في تعزيز سياسات الشمول المالي؛ إلا أنه لا تزال هناك حاجة ماسة لبذل المزيد من الجهد وإصدار التشريعات والتعليمات اللازمة لتهيئة البيئة الداعمة لرفع معدلات الشمول المالي، بما ينعكس على إتاحة التمويل اللازم للشركات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، وتحفيز مقدمي الخدمات المالية للعمل على تحسين إمكانية الوصول لتلك الخدمات. ومن الضروري وضع خطة واضحة تهدف إلى ضم صغار المدخرين والمستثمرين للقنوات المالية الرسمية، خاصة في ظل انتشار البيع عبر الإنترنت، بما يعمل على زيادة أعداد المتعاملين مع الجهاز المصرفي وتخفيض عدد العاطلين وتوفير موارد ضريبية للدولة.