أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء النشرة الشهرية لبيانات التجارة الخارجية عن الفترة من يناير إلى يونيو 2019، والتي أظهرت تطورًا ملحوظًا في قطاع التجارة الخارجية المصرية. وتأتي أهمية التجارة الخارجية بصفتها أحد المصادر الرئيسية للنمو والدخل القومي؛ إذ يمثل صافي الصادرات أحد المصادر الرئيسية الثلاثة المكونة للناتج المحلي الإجمالي، فكلما ارتفع صافي الصادرات ارتفع الناتج المحلي الإجمالي. ويتوقف مدى استدامة نمو صافي الصادرات على درجة تطور هيكل الإنتاج والتصنيع بالدولة، وحجم المكوِّن التكنولوجي بالصادرات، والميزة النسبية للمنتجات المحلية، فضلًا عن مدى تأثير قيمة العملة المحلية على حجم وقيمة الصادرات والواردات. وتعتمد الدول في ذلك على تطبيق سياسات تجارية تدفع صافي الصادرات وتحفز النمو الاقتصادي، سواء كانت سياسة إحلال محل الواردات، أو سياسة تشجيع الصادرات، أو التوفيق بينهما، آخذة في الاعتبار الاتفاقيات التجارية الثنائية والإقليمية والدولية وما تفرضه من التزامات وما تقدمه من مزايا.
وبمتابعة وتحليل بيانات التجارة الخارجية في مصر خلال النصف الأول من عام 2019 يتبين انخفاض العجز التجاري بنسبة 0.45% مقارنة بالنصف الأول من عام 2018. ويمكن من خلال دراسة هيكل التجارة الخارجية الوقوف على متطلبات تحفيز نمو الصادرات وتخفيض الواردات، مما يدفع العجز التجاري للدولة نحو الانخفاض، ويرفع معدلات النمو الاقتصادي.
في هذا الإطار، يتناول المقال تحليل بيانات التجارة الخارجية في مصر خلال النصف الأول من عام 2019 مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق، وذلك من خلال تحليل هيكل التجارة الخارجية المصرية. والتوزيع الجغرافي للتبادل التجاري بين مصر ودول العالم خلال فترتي المقارنة.
تطور هيكل التجارة الخارجية المصرية
تُشير متابعة هيكل الصادرات والواردات المصرية إلى نمو الصادرات بدرجة أكبر من الواردات خلال النصف الأول من عام 2019 مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2018؛ إذ ارتفعت قيمة الصادرات بنسبة 2% لتصل إلى 15,25 مليار دولار خلال الفترة من يناير إلى يونيو 2019، مقارنة بنحو 14.9 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من عام 2018.
وقد ارتفعت الواردات هي الأخرى ولكن بنسبة 0.5% فقط، حيث سجلت 38.8 مليار دولار خلال الفترة (يناير – يونيو) 2018 مقابل 39 مليار دولار خلال الفترة نفسها من عام 2019. وقد دفع ذلك إلى انخفاض العجز في الميزان التجاري من 23.8 مليار دولار خلال النصف الأول من عام 2018 إلى 23.7 خلال النصف الأول من عام 2019، بانخفاض قدره 0.45%، وهو تقدم في الاتجاه الصحيح وإن كان بطيئًا نسبيًّا.
هيكل الصادرات المصرية خلال النصف الأول من عام 2019
بتحليل هيكل الصادرات المصرية يمكن تقسيمها إلى صادرات بترولية وصادرات غير بترولية، وبمتابعة بيانات الميزان البترولي نجد أن الصادرات البترولية قد ارتفعت بمقدار 828 مليون دولار خلال النصف الأول من عام 2019 مقارنة بالنصف الأول من عام 2018. فبينما بلغت الصادرات البترولية 1.5 مليار دولار خلال النصف الأول من عام 2018، فإنها ارتفعت بنسبة 53% لتصل إلى 2.3 مليار دولار في النصف الأول من عام 2019. ويعكس ذلك نمو قطاع البترول بما أدى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة فائض التصدير، اعتمادًا على زيادة إنتاج الغاز الطبيعي بفضل اكتشافات الغاز في البحر المتوسط، ومن أهمها حقل ظهر الذي تسارع إنتاجه خلال النصف الأول من عام 2019 إلى أن وصل إلى 2.7 مليار قدم مكعب يوميًّا في أغسطس 2019، قبل الموعد المحدد لذلك في خطة تنمية الحقل بنحو 4 أشهر. وقد أدى التغير في قيمة الصادرات البترولية إلى زيادة نسبتها من إجمالي الصادرات من أقل من 10% في النصف الأول من عام 2018، إلى 15% في النصف الأول من العام الحالي. وهي زيادة كبيرة، لكنها بالكاد تكفي لتعويض التراجع الذي حدث في الصادرات غير البترولية، التي تراجعت بما قيمته 523 مليون دولار بين فترتي المقارنة.

وبتحليل هيكل الصادرات يتبين ارتفاع قيمة الصادرات تامة الصنع والقطن الخام والوقود بمقدار 396 مليون دولار، 47 مليون دولار، 646 مليون دولار على الترتيب. مقابل انخفاض الصادرات من المواد الخام والسلع نصف المصنعة والطاقة الكهربائية بنحو 81 مليون دولار، 699 مليون دولار، 4 ملايين دولار على الترتيب. أما أبرز السلع نصف المصنعة التي انخفضت صادراتها فهي غزل القطن، نظرًا لتوقف بعض مصانع الغزل عن الإنتاج لارتفاع خسائرها وتراكم ديونها، ومع اتجاه صادرات القطن الخام إلى الارتفاع وانخفاض صادرات الغزل يجب إعادة النظر إلى قطاع الغزل والنسيج في مصر لإعادته إلى ما كان عليه من ميزة تنافسية عالميًّا تقوم على جودة القطن الخام وكفاءة تصنيعه. وكذلك انخفضت صادرات جلود البقر المدبوغة، نظرًا لانخفاض المنتج منه. أما السلع تامة الصنع التي ارتفعت صادراتها فكان أبرزها الأسمدة، ويرجع ذلك إلى ارتفاع الطلب العالمي على الأسمدة مع ارتفاع أعداد السكان في العالم وازدياد احتياجهم للغذاء؛ إذ تمثل الأسمدة مدخلًا رئيسيًّا للقطاع الزراعي، وتسهم في ارتفاع إنتاجية المحاصيل الزراعية من 30% إلى 50%، فارتفعت حصة مصر من السوق العالمية، ويدفع ذلك إلى إعادة النظر في التحديات التي تواجه شركات الأسمدة في مصر، والتي من أبرزها حاجة الآلات والمعدات ببعض الشركات إلى التجديد، وتراكم ديون بعض الشركات، وضعف سعر توريد الأسمدة لوزارة الزراعة، بالإضافة لارتفاع تكلفة الإنتاج بما يقلل من تنافسيتها في السوق العالمية.

وعند تحليل هيكل الصادرات يجب التفرقة بين زيادة حجم الصادرات وزيادة قيمتها، مع الأخذ في الاعتبار تغيرات سعر الصرف. ومن جهة أخرى، فإنه يجب رصد تغيرات الصادرات من السلع المصنّعة في مقابل السلع الأولية ونصف المصنعة لتحديد مقدار القيمة المضافة التي يتم تصديرها ويتولد عنها فرص عمل نتيجة التصنيع داخل الاقتصاد المحلي.
بالنسبة لحجم وقيمة الصادرات؛ شهد النصف الأول من عام 2019 ارتفاع قيمة الصادرات في ظل ارتفاع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الذي وصل إلى 17.3 جنيهًا للدولار في المتوسط خلال النصف الأول من 2019، مقارنة بـ17.7 جنيهًا للدولار في المتوسط خلال النصف الأول من عام 2018، بما يشير إلى أن ارتفاع قيمة الصادرات المصرية جاء نتيجة نمو حجم الصادرات ذاتها، وليس نتيجة ارتفاع أسعارها وزيادة قيمتها.
ويتبين من بيانات الصادرات خلال النصف الأول من عام 2019 ارتفاع الصادرات من الوقود المصنع، والمستلزمات الصناعية الأولية، والسلع الغذائية المصنعة، أي التي تدخل في صناعات أخرى، والسلع الاستهلاكية غير المعمرة، والسيارات (بخلاف سيارات الركوب). وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الصادرات المصنعة خلال النصف الأول من عام 2019 مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2018، إلا أن الصادرات الأولية ونصف المصنعة ما زالت تُمثِّل نسبة كبيرة من إجمالي الصادرات تبلغ نحو 62%.
وعلى الرغم من ارتفاع الصادرات من السلع الغذائية المصنعة، إلا أن ذلك لا يضمن استمرار ارتفاعها خلال الفترات المقبلة؛ إذ يرتبط إنتاج السلع الغذائية بالمواسم الزراعية وتتسم أسعارها بالتقلب المستمر. وخلال فترة المقارنة جاءت الظروف الطبيعية العالمية في صالح الصادرات المصرية، حيث أدى سوء الأحوال الجوية في جنوب أوروبا، وتفشي أحد الفيروسات، إلى نقص الإمدادات الزراعية، ومن ثم ارتفعت أسعارها دوليًّا.
ومع توجه الدولة إلى زيادة نسبة الصادرات المصنعة ورفع القيمة المضافة للسلع المصدرة؛ فإن الاعتماد على تصدير السلع الغذائية المصنعة لا يفي بالغرض بشكل كامل؛ نظرًا لضيق نطاق عملية التصنيع بالسلع الغذائية بصفة عامة مقارنة بالصناعات الأثقل.
ولتحفيز الصادرات المصرية فإنه ينبغي العمل على رفع القيمة المضافة للسلع المصدرة والترويج للسلع الزراعية المصرية من خلال تحسين الجودة. كما تجدر الإشارة إلى أن تنفيذ برنامج رد أعباء الصادرات سيكون له مردود إيجابي على الصادرات المصرية، ويجنب المصدرين خسائر مادية ومشاكل في السيولة مما يؤثر على حجم نشاطهم، أو يضطرهم للجوء إلى رفع أسعار الصادرات التي سوف توثر بلا شك على حجم الصادرات، والتي تمثل مصدرًا رئيسيًّا للنقد الأجنبي للدولة.
هيكل الواردات المصرية خلال النصف الأول من عام 2019
تشير بيانات هيكل الواردات المصرية إلى انخفاض الواردات البترولية بمقدار 1.04 مليار دولار، مقابل ارتفاع الواردات غير البترولية بنحو 1.2 مليار دولار، وذلك خلال النصف الأول من عام 2019 مقارنة بالنصف الأول من عام 2018. ويتفق ذلك مع بيانات الصادرات التي تشير إلى ارتفاع فائض التصدير من البترول وانخفاض الحاجة إلى الاستيراد، بما ينعكس على تحسن الميزان البترولي.

ومن حيث درجة التصنيع يعكس هيكل الواردات انخفاض الواردات من الوقود بنحو 1.6 مليار دولار، والسلع الوسيطة بمقدار 258 مليون دولار؛ فيما ارتفعت واردات المواد الخام بنحو 379 مليون دولار، والسلع الاستثمارية بحوالي 828 مليون دولار، والسلع الاستهلاكية بنحو 808 ملايين دولار. وعلى الرغم من ارتفاع الواردات من السلع الاستهلاكية والاستثمارية، إلا أن السلع الوسيطة ما زالت تحتل النسبة الأكبر من الواردات المصرية، وإن كانت قيمتها انخفضت خلال النصف الأول من عام 2019 مقارنة بالنصف الأول من عام 2018.

وبتحليل هيكل الواردات ينبغي التركيز على نوعية السلع التي يتم استيرادها، وبحث أسباب تغير نسبتها من فترة لأخرى. وتشير بيانات الواردات خلال النصف الأول من عام 2019 إلى ارتفاع الواردات من السلع الغذائية الأولية، والسلع الغذائية المصنعة (للاستهلاك)، والمستلزمات الصناعية المصنعة، والسلع الرأسمالية (عدا معدات النقل)، وقطع الغيار، والسيارات (بخلاف سيارات الركوب)، والسلع الاستهلاكية المعمرة وغير المعمرة. ويعكس ذلك ارتفاع المنتج المصنع في هيكل الواردات المصرية، بما يشير إلى ضرورة تحفيز النشاط الصناعي في مصر وتوجيهه إلى الإحلال محل السلع الاستهلاكية والاستثمارية التي يتم استيرادها.
وعلى الجانب الآخر، يشير انخفاض الواردات من الوقود إلى إحلال الإنتاج المحلي محل الواردات، أما بالنسبة لسيارات الركوب فيرجع انخفاض وارداتها إلى حملة مقاطعة السيارات التي قام بها المواطنون، لذا قامت الشركات المستوردة للسيارات بتعويض انخفاض مبيعاتها من سيارات الركوب بالتركيز على السيارات الأخرى بخلاف سيارات الركوب، فانخفضت واردات سيارات الركوب وارتفعت الواردات من السيارات الأخرى.
وتجدر الإشارة إلى أن الهدف ليس تخفيض الواردات بشكل مطلق؛ إذ إن بعض الواردات قد تكون ضرورية كمدخلات للصناعة، ومن ثم تمثل أحد عوامل نمو الصادرات.
التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية المصرية
شهد النصف الأول من عام 2019 اختلافات طفيفة فيما يتعلق بالشركاء التجاريين لمصر مقارنة بالنصف الأول من عام 2018، حيث احتلت دول آسيا المرتبة الأولى في التبادل التجاري بين مصر ودول العالم، يليها دول غرب أوروبا، ثم دول شرق أوروبا.
وبمتابعة بيانات التبادل التجاري بين مصر ودول العالم، يلاحظ تواضع حجم التبادل التجاري بين مصر ودول إفريقيا خلال فترتي المقارنة على حد سواء، على الرغم من الجهود المصرية المبذولة لتعميق العلاقات بين مصر والدول الإفريقية في شتى المجالات، فضلًا عن اتساع السوق الإفريقية، إذ تمثل طاقة استيعابية هائلة بحكم اتساع مساحة القارة، وزيادة حجم سكانها، بما يساعد في زيادة حجم التبادل التجاري داخل القارة الإفريقية. ويمكن إرجاع ضعف حجم التجارة البينية للدول الإفريقية إلى عدة عوامل، من أهمها: انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وتدني مستويات الدخول مع ضعف القوة الشرائية، والتشابه النسبي في هياكل الإنتاج، بالإضافة إلى التاريخ الاستعماري للدول الإفريقية والذي أدى إلى زيادة الارتباط التجاري مع الدول الاستعمارية بدرجة أكبر من التجارة البينية الإفريقية، فضلًا عن مخاطر عدم الالتزام بمعايير الجودة والمواصفات العالمية.
ومن المتوقع أن يشهد النصف الثاني من عام 2019 ارتفاع التجارة البينية مع دول إفريقيا، خاصة في ظل دخول اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية حيز التنفيذ في مايو 2019، وإطلاق مشروع جسور تعزيز التجارة الخارجية مع إفريقيا، والذي يهدف إلى تعزيز التجارة الخارجية بين مصر ودول شرق ووسط إفريقيا، ويشمل توفير خدمات النقل واللوجستيات للمتعاملين في التجارة الخارجية من خلال الشركات التابعة العاملة في مجالات النقل البحري والبري والتأمين. ومن الجدير بالذكر أنه تم إطلاق المرحلة الأولى منه من خلال تسيير خط ملاحي برحلات منتظمة أسبوعيًّا بأسعار مخفضة من ميناء العين السخنة إلى ميناء مومباسا في دولة كينيا بما يضمن الوصول إلى نحو 10 دول إفريقية.
ختامًا، يمكن القول إن النصف الأول من عام 2019 شهد نموًّا في الصادرات المصرية، وانخفض العجز التجاري، ويمكن استمرارية تحسن هيكل التجارة المصري وزيادة معدلات نمو الصادرات من خلال فتح أسواق جديدة، ورفع القيمة المضافة للسلع المصدرة، وحل مشاكل المصدرين، والإسراع في تنفيذ برنامج دعم الصادرات وتيسير التجارة وتسهيل وخفض وقت وتكلفة وإجراءات التخليص الجمركي ونقل البضائع لزيادة تنافسية الصادرات المصرية. كما يستلزم الأمر الاستمرار في تحفيز قطاع الصناعة المحلي والذي بدأ بالفعل من خلال منح حوافز استثمارية، وإطلاق الخريطة الاستثمارية الصناعية.