إعلان الرئيس الأمريكى مقتل أبوبكر البغدادى، مؤسس وزعيم تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، فى عملية نوعية قامت بها وحدات خاصة من الجيش الأمريكى، وقتل عدد غير محدد من مرافقيه إضافة إلى زوجتيه وأطفاله، يمثل تطوراً مهماً عسكرياً وسياسياً واستخباراتياً. فمَن تم قتلُه ليس شخصاً عادياً، لقد شغل الناس والعالم أكثر من خمس سنوات، منذ 2014 وحتى إعلان مقتله قبل يومين. شغل العالم حين كان زعيماً لدولة مزعومة على أجزاء من العراق وسوريا، لم يعترف بها أحد، لكنها كانت مؤسسة على قناعة أصحابها بأنهم يقيمون دولة خلافة إسلامية سوف يخضع لها العالم كله. وشغل العالم أيضاً حين هزمت دولته وتشتت كثير من أتباعه بين بلاد كثيرة وسجون أكثر فى عام 2018. وشغل العالم ثالثاً حين استطاع الهرب بعيداً عن عيون وأيدى أجهزة استخبارات عتيدة سعت لمعرفة أين يقيم وكيف يؤمّن نفسه وكيف ينتقل من بقعة إلى أخرى دون انكشافه. ورغم مقتله وفقاً للتأكيدات الأمريكية فسوف يستمر انشغال العالم بالرجل ليس كشخص ولكن كميراث لتنظيم إرهابى عنيف، ما زال هناك كثيرون يؤمنون بأفكاره وطموحاته، وأبرز ما فى هذا الميراث كيف سيكون هيكل التنظيم بعد فقدان زعيمه ومؤسسه، ومَن سيخلفه، وكيف سيتابع مسيرته العنيفة.
مقتل البغدادى، الذى اعتبره الرئيس ترامب انتصاراً كبيراً، سيفرز تداعيات سياسية وأمنية فى أكثر من اتجاه، ففى الداخل الأمريكى فقد يساعده جزئياً فى مواجهة بعض الضغوط التى يتعرض لها على خلفية محاولات عزله التى ينشط فيها الديمقراطيون، وقد توفر له بعض البريق السياسى كرئيس يُقدم على أعمال جريئة تدعم الأمن القومى. أما بالنسبة للتنظيم نفسه فالأمر يأخذ أبعاداً ومستويات مختلفة.
فالتنظيمات العابرة للحدود والمؤمنة بأفكار جهادية لا سقف لها والمتصارعة مع العالم بأسره كتنظيمَى «داعش» و«القاعدة» وفروعهما المنتشرة فى دول عديدة، تشكَّل لها منهج مؤسسى وفكرى يتيح لها الاستمرار مهما تعرَّض قادتها الكبار لقتل أو سجن أو اختفاء. والمؤكد أن قتل زعيم ومؤسس التنظيم سيؤدى إلى مرحلة اهتزاز وتراجع نسبى إلى حين استقرار الأوضاع للزعيم الجديد الذى سيكون عليه أولاً أن يحصل على البيعة والولاء من مجلس شورى التنظيم والأعضاء، بعد ذلك تبدأ مرحلة جديدة للتنظيم تتأثر حتماً برؤية الزعيم الجديد وأولوياته فى المديين المباشر والبعيد وفقاً لما يتاح له من العمل بعيداً عن ملاحقات أجهزة الاستخبارات والأمن من دول عدة. هذا ما رأيناه بالنسبة لـ«القاعدة» بعد تشتته وخروجه من أفغانستان إلى بلاد الله، وانتقال زعيمه أسامة بن لادن بين أكثر من مخبأ حتى مقتله مايو 2010، ثم تولى أيمن الظواهرى قيادة التنظيم خلفاً له، يعطينا نموذجاً لما سيكون عليه «داعش» فى الفترة المقبلة.
حقاً، مقتل البغدادى يمثل ضربة كبرى للتنظيم ولمشروع الدولة الإسلامية الجهادية العنيفة، ولكنها ليست الضربة القاضية التى قد يتصورها البعض، وينهار بعدها التنظيم ويصبح أثراً من بعد عين. المنتظر كعادة هذه التنظيمات أن يُعلن بعد أيام قليلة اسم الزعيم الجديد، بعد أن يرثى زعيمه المؤسس، ويثنى على جهاده ويحتسبه شهيداً. والمرجح أن يكون عبدالله قرداش من تركمان العراق والمُكنى بـ«أبوعمر التركمانى» خليفة للبغدادى، وحينها يبدأ «داعش» دورة عنف جديدة لا محالة، على الأقل ليثبت أن التنظيم ما زال موجوداً، وأن زعيمه الجديد قادر على تحقيق الانتصارات التى يطمح إليها أعضاؤه. والبداية ستكون عمليات ثأرية لا سيما فى الدول التى شكرها الرئيس ترامب باعتبارها أسهمت فى نجاح عملية القتل سواء بالمعلومات أو بالإسهام اللوجيستى والعملياتى. أبرز تلك الدول التى سوف يستهدفها التنظيم بعد إعادة ترتيب أوضاعه الداخلية هما العراق وسوريا. ومن المرجح أن يحدث عمل إرهابى فى إحدى الدول الأوروبية باعتبارها حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة. والمحتمل أيضاً أن تنشط خلايا متفرقة فى دولة عربية أو أكثر لإثبات الوجود حتى بالرغم من قتل الزعيم. وما دعوة الرئيس الفرنسى لمزيد من الحذر الأمنى فرنسياً وأوروبياً إلا انعكاس لمثل هذه الاحتمالات شبه المؤكدة.
أما تركيا وبالرغم من إعلان الرئيس ترامب أنها كانت شريكاً فى العملية، فمن المستبعد أن تتعرض لأية عمليات إرهابية من قِبل «داعش» فى ظل قيادته الجديدة، فالتنظيم لم يكن ليمتد جغرافياً بعد عام 2014 حين سيطر على الموصل شمال العراق وأجزاء من سوريا، إلا بالتعاون الوثيق مع الدولة التركية، التى سمحت طوال خمسة أعوام بتدفق المسلحين والإرهابيين الراغبين فى الانضمام إلى «داعش» عبر أراضيها. وتبادلت معه التجارة وشراء النفط وتهريبه ومنحته ملايين الدولارات، ووفرت الملاذات الآمنة والعلاج الطبى لقادته وكوادره حين أصيبوا فى المواجهات مع قوات التحالف وتحديداً قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، والتى لعبت دوراً متميزاً فى القضاء على التنظيم، لا سيما بعد عام 2017.
ولذا ليس غريباً فى ظل هذه العلاقات الوثيقة بين أنقرة و«داعش» أن يكون الملجأ الأخير الذى استُهدف فيه البغدادى فى قرية شمال ريف إدلب على بُعد خمسة كيلومترات من الحدود مع تركيا، والتى تأكد أنه كان يتجهز للانتقال إليها هو وأسرته. هذه القرية بموقعها وقربها من مواقع عسكرية تركية وبسيطرة جبهة تحرير الشام الإرهابية على مساحات واسعة من تلك المحافظة السورية المنكوبة، وهى فرع القاعدة المتحالف مع الاستخبارات التركية الراعية لكل المنظمات الإرهابية فى تلك المنطقة. كل ذلك يؤكد أن تركيا كانت تؤوى الرجل، وتعلم مكانه وتوفر له الحماية ممثلة فى إقامته فى مجمع مُؤمن، وبه وسائل اختباء وهرب عند الضرورة، ويملكه أحد قيادات جبهة تحرير الشام التى تعمل بإمرة الاستخبارات التركية.
وبالرغم من أن الرئيس ترامب قدم الشكر لتركيا، وغرّد أردوغان بما يوحى بأن بلاده كانت لاعباً أساسياً فى قتل البغدادى، فإن تقارير أمريكية موثوقة استندت إلى مصادر عسكرية أمريكية عليا أقرت بأن تركيا لم تكن تعلم شيئاً عن العملية خشية تسرب المعلومات ومساعدة الشخصية المستهدفة على الهرب، كما حدث من قبل، ولذا فقد فوجئت بها مثل غيرها من الدول. وما يفعله الرئيس أردوغان من الإيحاء بمشاركة بلاده فى العملية ليس سوى ذر الرماد فى العيون ومحاولة اكتساب جزء من الانتصار بدون أى أساس.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٣٠ أكتوبر ٢٠١٩.